وجهة نظر

“القتلة الاقتصاديون” لجون بركنس: في الشكل الفيروسي للرأسمالية

“إذا كنا نريد أن نتخلص من انعدام الأمن ( ومنه ما يسمى بالإرهاب) يجب علينا أن نتخلص من الأسباب الجذرية، ذلك السرطان الذي يدمر عالمنا: الرأسمالية المفترسة.. “.. جون بركنس..

عندما أصدر جون بركنسJohnPerkins كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي”confessions d’un assassin économique سنة 2004 لم يكن ربما يخطر بباله أنه كان يلقي بقنبلة كبرى حتى لا أٌقول قاتلة في وجه العصابات التي تحكم عالمنا..

جاء الكتاب في سياقات تاريخية ملغومة، خطرة.. نحن نعرف أن الرأسمالية طورت في القرن الاخير طريقتين في التحكم/السطو على العالم: الاحتلال المباشر/غير المباشر ( الغزو/وضع أحد عملائها على رأس البلاد المرغوب فيها)، أو -في حالة وجود مقاومة/مناعة قوية- “تقنية” تحويل الشعب الحذر إلى سوق استهلاكية واسعة لاهثة وراء منتوجاتها.. يلجأ لصوص الرأسمالية هنا إلى آلية خطيرة: إغراق البلادالممانعة بما لانهاية له من البضائع و بأثمان رخيصة حتى يستأنس الناس بحضورها ويربطون بالتالي تدريجيا وجودهم حتى لا أقول سعادتهم بوجودها.. وعندما تربط أمة ما بمنتجات السوق – والتي بالمناسبة تكون في غالبيتها الساحقة تافهة و زائدة و مخربة للصحة البشرية و الكوكب- فإنك تكون قد دمرت كل آليات المقاومة لديها.. قد نجحت في إخضاعها.. بالضربة القاضية.. وعندما تصل إلى هذه المرحلة من القبض على البشر لايتبقىأمامك إلا أن تفرض قواعدك/شروطك بكامل الراحة..
أهميةكتابجون بركنس أنه يكشف عن آليةتحكم/نهب/تخريبأخرى، تقنية لم يسبقه أحد الى كشفها: القتل الاقتصادي..

استفاقة الضمير..

في مساربر كنس المزداد سنة 1945 محطات مهمة كثيرة، لكن أهمها على الإطلاق كما يعترف هو نفسه محطتان:

1-محطة 1970، السنة التي سوف يعين فيها ك”قاتل اقتصادي” داخل الشركة الدولية للاستشارة المسماة MAIN ..في هذه المحطة، سيتلقى بركنستكوينا في تقنيات إغراقدول العالم الثالث بالديون من أجل إخضاعها لإمبراطورية أصحاب المصالح الاقتصادية الضخمة – الأمريكية تحديدا.. و مباشرة بعد إطلاقه في الحلبة، سوف يلتقي بركنس برؤساء ارتعدوا/باعوا البلاد بسرعة، و لكن أيضا برؤساء وطنيين nationalistes منتبهين و حذرين جدا تجاه النزوعاتالافتراسية للولايات المتحدة رفضوا عروضا كبرى بالرشوة من مثل الرئيس البانامي عمر طوريخوس و الايكوادوريخايميرولدوساكويليرا.. الاعتراف الخطير الأول لبركينس: لقد انتهى هؤلاء صرعى في حوادث تحطم طائراتهم (سنة 1981)، و هي الحوادث التي يتهم فيها بركنسالولايات المتحدة بالوقوف مباشرة ورائها..
2-المحطة الحاسمة الثانية كانت سنة 1980، عندما التقى بركنسالكاتب كراهام كرين Graham Green في بنما و الذي قام بمجهود جبار حتى يقنع صاحبنابكتابة “الاعترافات”لينور الرأي العام حول واحدة من أخطر مافيات عصرنا: الولايات المتحدة الامريكية..

اثر لقاء كرين، سيحدث لبركنسنوع من صحوة ضمير جارفة قادته إلى حالة من القلق الشديد dépression nerveuse فيما يعترف هو نفسه كانت وراء وضعه استقالته و الهروب بجلده بعيدا عن اللعبة..

وبعد حوالي عقدين من الترددات، و التهديدات، و العروض برشاوي، سوف يقرر بركنسأخيرا نشر “الاعترافات”، و هو الكتاب الذي ترجم إلىأكثر من ستة عشر لغة..

هكذا يعرف بركنس القاتل الاقتصادي:

“القتلة الاقتصاديون هم ناس محترفون يتلقون أجورا ضخمة مقابل السطو على مليارات الدولارات في ملك شعوب من مختلف مناطق الكوكب.. تتمثل مهمتهم الرئيسية في توجيه أموال البنك العالمي و الوكالة الأمريكية للتعاون الدولي و منظمات أخرى نحو صناديق الشركات الكبرى و جيوب بعض العائلات شديدة الغنى التي تتحكم في الموارد الطبيعية للكوكب.. أما أسلحتهم الرئيسية فهي: العلاقات المالية المشبوهة، الانتخابات المزورة، الرشاوي، الابتزاز، الجنس و القتل..إنهم يلعبون لعبة قديمة قدم العالم.. لكنها لعبة أخذت أبعادا رهيبة في عصر العولمة هذا..

إنني أعرف عما أتحدث.. فأنا نفسي كنت قاتلا اقتصاديا.” ( “الاعترافات”، المقدمة)..

جذور الافتراس..

يشرح بركنس كيف أن أمريكا المنتشية بانتصارها الساحق في الحرب الثانية طورت خطة جارفة لبناء إمبراطورية شاملة، خطة حدد معالمها الكبرى الرئيسان نكسون و جونسون ( مع مطلع السبعينيات).. سوف يشكل نكسون و جونسون ضمن استراتيجيا عامة لإلقاء القبض على العالم la capture du monde كتيبة من المستشارين بمهمة غير مسبوقة: استعمال المنظمات المالية الدولية لخلق الشروط الكفيلة بإخضاع الدول من خلال إغراقها بالديون الاقتصادية.. تمثلتالخطة في تبرير و إقناع الدول بأخذ قروض ضخمة لدعم سياسات تطوير البنية التحتية لهذه الدول تحت ذريعة أن تطوير البنية التحتية هو”الطريق الملكية لتطوير الناتج الوطني الخام و بالتالي القفز بالبلاد نحو حالة اقتصادية أخرى”.. و بما أن القروضالتي يتم/تم أخذها غالبا ما يتم/تم تضخيمها من طرف المستشارين فان الغالبية الساحقة للدول المقترضة لم تكن لتستطيع الالتزام بأدائها مما كان يوقعها في ورطة أمام دائنيها.. وما إن كانت الدولة تقع في الفخ، حتى يتدخل القاتل الاقتصادي، وهذه المرة من أجل توجيه الضربة القاضية، من أجل دفع السيفإلىعمق الكبد.. يأتي القاتل الاقتصادي و يقترح على الدولة العاجزة أن تمنح للدولة المقرضة قواعد عسكرية، آوإمكانية الولوج المباشر إلى مواردها الطبيعية و خصوصا البترولية منها.. يسمي بركنس هذه الوسائل “طرقا مافيوزية”..

و للإيقاع بالدول ودفعها لتتخذ القرار بالاقتراض، يتم اللجوء إلى خدعة اقتصادية محبوكة جيدا.. يروج القتلة الاقتصاديون – بفضل “خبراء” يتم شرائهم لإنتاج أطروحات تحت الطلب- لنظرية كون الاقتراض/الاستثمار في البنى التحتية سيؤدي اوتوماتكياإلى الرفع من الناتج الخام.. يتم هنا توظيفنظرية شهيرة معروفة باسم “منهج ماركوف للنمذجة الايكونومترية Modélisationéconométrique”، التي طورها – تحت رعاية بركنس نفسه- رياضي من معهد ماساشوست للتكنولوجيا يدعى نادبرامبراساد، بهدف التنبؤ بتأثير الاستثمار في البنية التحتية على الناتج الخام وعلى النمو الاقتصادي عموما..إن ميزة الإقناع بالتحليلات/النمذجات الايكونومترية، يقول بركنس في “الاعترافات”، أن وحده ايكونومتريا محترفا يتوفر على كامل الوقت بإمكانه الكشف عن الخدعة.. في “الاعترافات” يتجه بركنسإلى جذر الشر و يفضح الطبيعة المخادعة للناتج الخام: إن الناتج الخام يمكنه أن ينمو بقوة حتى و إن لم يخدم إلا شخصا أو فئة قليلة، يمكنه أن يكبر، و بقوة أيضا، حتى و إن استمر الأغنياء في الاغتناء و الفقراء في الصعود إلى الهاوية،يمكنه أن ينمو بشدة حتى و إن حرمت الديون الضعفاء من الخدمات الأساسية: التعليم، الصحة، الثقافة.. لعقود طويلة..

من الافتراس إلى الابتلاع.. استراتيجيا الغابة الشاملة..

في البداية اذن يتم تحديد بلد بموارد طبيعية هائلة تكون الشركات الأمريكية في حاجة إليها أو تطمع في الانقضاض عليها..يتم ترتيب بعد ذلك قرض من البنك الدولي أو من أية منظمة حليفة.. إلا أن المال، يوضح بركنس في تفصيل مفزع جدا، لايذهبأبدا إلى البلد المقترض، بل إلى الشركات الأمريكية التي تربح صفقات تجهيز البنيات التحتية.. مما يعني أن المال لايعود بالنفع إلا على فئة قليلة من الأغنياء و لاتستفيد منه أبدا الغالبية العظمى من الناس.. وفي النهاية يترك البلد أمام قروض هائلة من المستحيل سدادها.. إن عمل القاتل الاقتصادي مثلما ذكرت انفايبدأ تدقيقا هنا، مع وقوع البلد في الهاوية.. يأتي الخبير/القاتل إلىحكام البلد و يطرح عليهم الحل: “انتم لاتستطيعون تسديد الديون.. طيب.. أعطونا شيئا بديلا عن المال.. قوموا ببيع نفطكم بسعر رخيص لشركاتنا النفطية.. صوتوا معنا في الأمم المتحدة خلال انعقاد مجلس الأمن المقبل.. اسمحوا لنا ببناء قاعدة عسكرية ببلدكم.. أو أي شيء من هذا القبيل”.. هذه هي جملة/لازمة القتلة الاقتصاديين في كل مرة كانوا يخططون فيها لخراب الدول.. أما إذا فشل القاتل الاقتصادي، يقول بركنس، يدخل الضباع les chacalsعلى الخط لاغتيال من يقف أمام تنفيذ الخطط الامبريالية.. إماإذا فشل الضباع، فيتم إرسال الجيش كما حصل في العراق تحت ذرائع شتى يتم فذلكتها جيدا استنادا إلى التقنيات الشهيرة للتلاعبالإعلاميالأمريكي..

لايترددبركنس في رصد ما يعتبره أهم تحولات عالمنا.. يشير بركنسإلىأن الغرب – و على رأسه امريكا- طور شكلا جديدا للرأسمالية، سماه بالشكل الفيروسي للرأسمالية le capitalisme viral, parasitaire.. وهو شكل متقدم جدا من الرأسمالية المفترسة..لقد حولت الرأسمالية العالم إلىفضاء غير مستقر و لايمكن تحمله و ظالم و خطير جدا..في العالم الحالي تحت القبضة الجذرية للوحوش الرأسمالية، لا وجودأبداللعلاقات/الأبعادالإنسانية.. لقد انتفخ الرأسماليون حد أنهم بدأوايلعبون دور الالاه في الديانات السماوية: إذ أصبحوا هم من يقررون من سوف يفنى بين الأنياب الهائلة و من سوف يتم إبقائه حيا حتى… التهام أخر.. وهذا ما يتوجب فضحه و العمل من أجل مقاومته.. أمام السرطان، يقول بركنس، لا يمكن لنا إلا أن نعمل على اجتثاثه.. أي موقف أخر هو تواطؤ مع الكارثة..
هناك تيار كبير داخل الفكر الفلسفي و السوسيولوجيالمعاصر قام بدوره جيدا في فضحأوساخ الرأسمالية.. أذكر هنا على سبيل المثال كتابات هايدغر وادرنو و هوركهايمروماركوز و دولوز و كواطاري و موران و بورديووشومسكيو لبوفتسكي.. ما كتبه هؤلاء شديد الأهمية.. لكن كان ينقصه دوما شيء ما.. وهذا الشيء هو شهادة شخص من قلب الدار، شهادة عميل/مخرب رأسمالي، شهادة شخص عاش طويلا من أجل تدمير الدول/الشعوب بلا حماية.. قبل أن يصحو ضميره..

ليسمح لي في الأخير بأن أنصح القارئ الكريم- على سبيل المثال لا الحصر- بكتابات مفكرين عظماء قريبين جدا من الأفق الذي تنخرط فيه “الاعترافات”.. الأول هو السويسري الرائع جان زغلر ziegler، و الثاني هو البلجيكي الجميل ميشال كولون colon ، و الثالث هو المدير السابق للبنك الدولي الإنساني الرائع ستيكليتز Stiglitz .. ان زغلر و كولون وستيكليتزمن ضمن أفضل من فضحوا و بنفس غير مسبوق آليات الإجرام/القتل الاقتصادي الرأسمالي..
قراءة ممتعة..