وجهة نظر

20 فبراير… الشباب وحتمية العمل المؤسساتي

شاركت إلى جانب آلاف الشباب في حراك 20 فبراير سنة 2011 من بدايته إلى ما بعد انسحاب الأغلبية المطلقة من الشارع، حتى تبقى العشرات، كانت الحركة تناضل من أجل العدالة الاجتماعية، واجتثات الفساد، والفصل بين المال والسلطة، إضافة إلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتوسيع مجال الحريات، وتوفير مناصب شغل للعاطلين، وضمان حياة كريمة للجميع، وكانت الحركة تؤمن بأن الانتقال الديمقراطي الحقيقي رهين بإرساء ملكية برلمانية.

يخطئ الكثيرون حينما يتحدثون عن الحركة على أنها كتلة متجانسة، هي لم تكن أبدا كذلك، لا من حيث مكوناتها ولا من حيث أهدافها ومطالبها، حيث جمعت بين ألوان سياسية مختلفة تصل أحيانا حد التناقض، فما كانت تريده جماعة العدل والإحسان الظلامية من الحركة لم يكن نفس ما كان أغلب الشباب يطمحون إليه، بل إن الاختلاف واضح حتى بين الحليفين النقيضين العدل والإحسان والنهج الديمقراطي، فما بالك بشباب الحركة الأمازيغية وشباب بعض الأحزاب وعلى رأسها الاشتراكي الموحد والطليعة وغيرها.

لقد حاولت جل التنظيمات السياسية المشاركة توجيه الحركة لخدمة إيديولوجياتها، وسعى بعضها إلى استثمار الحراك سياسيا لتعويض الفشل في تحقيق امتداد شعبي، فيما كان بعض من الأقلية الباحثة عن شرعية جديدة، يضغط وفيهم من يبتز ومن يناور ومن يستعرض عضلاته ويرسل الرسائل، ومنهم من وجد نفسه خارج اللعبة فحاول تدارك الأمر وإن على مضض، كل هذه التيارات كانت تصرخ في واد، بينما أغلب الشباب والمواطنين والغالبية من الفئات الشعبية كانت مطالبها واضحة: الإصلاح في ظل الاستقرار بعيدا عن التطاحنات السياسوية، كانت المطالب مختزلة في كلمات مفتاح، الكرامة والحرية والعدالة الإجتماعية.

من أغرب ما عشناه في مسيرات الحركة، تحالف تنظيمات رجعية تحلم بالخلافة، مع تنظيمات تقول إنها تطمح إلى اشتراكية يتساوى فيها الجميع في ظل دولة مدنية تؤمن بالحريات الفردية، في نفس الفضاء تجد شابا يقبل شابة من “حركة مالي”، ورجالا بجلابيب ولحى طويلة ينكبون على تأمين حدود بين الجنسين، ويحرصون على تفادي الاختلاط بالنساء “العورات” حسب فهمهم، تناقض تحول إلى تبادل الصفعات واللكمات في الكثير من المناسبات.

في نفس الشارع فئة قليلة تحلم بتغيير جذري طوباوي، تحاول انتزاع الكلمة من أغلبية تريد الإصلاح في ظل الاستقرار، بل إن حتى الوجوه الشابة التي كان الإعلام يسوق لها لا تكوينَ سياسيا لديها، لا تعرف ماذا تريد ولا كيف تحقق ما تريده، فكانت تصرّف مواقف عاطفية تعبر عن “تمرد الشباب”، وكثيرا ما تبدي ردود أفعال ميكانيكية عنيفة في إطار محاولة تطبيق “العنف الثوري”، ووراء كل هذه المكونات، هناك الأغلبية الساحقة من الحركة، أولئك المواطنون العاديون والشباب المستقل، البعيدون كل البعد عن تلك الاصطفافات و الحسابات الإيديولوجية.

بعيدا عن ذلك كله، فإن ما كان يوحّد أغلب المشاركين في الحركة، في اللاوعي، هو أن هناك فعلا أزمة، وأن علاجها ضروري لصالح الوطن، هناك فوارق طبقية صارخة وتنمية مجالية مختلة، وبطالة وفساد في الإدارات والمؤسسات، أمام نماذج تنموية فاشلة وأحزاب غائبة ونخب بورجوازية احتكارية، كان ذلك معروفا ويقر به الجميع حتى من داخل الدولة، لكن حلقة ما يتم تغييبها من سلسلة الانتقال الديمقراطي البطيء.

وراء كل هذه الطموحات والصرخات والاصطفافات والتناقضات، كان هناك حزب فهم اللحظة وجعل منها درجا صعد به إلى الحكومة، مقدما وعودا دونكيشوتية لا توافق كفاءاته ومؤهلاته، على رأسها تحقيق نسبة نمو تصل إلى 7 في المائة، وامتصاص البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية، انتظر الكثيرون ليروا بأعينهم أن الوعود كانت ملغومة، وأن الحزب كان يطمح إلى أشياء أخرى اتضحت في ما بعد.

حركة 20 فبراير كانت تعبيرا جليا عن أزمة بنيوية تتخبط فيها الأحزاب السياسية خبط عشواء، تنظيمات صارت ذات طابع انتخابوي صرفة، لا تقوم بأي دور من أدوارها المنوطة بها، ولذلك فشلت في لعب دور الوساطة مع الحركة كما مع حراك الريف وباقي الاحتجاجات الاجتماعية من جرادة وبوعرفة وفكيك و أوطاط الحاج إلى زاكورة وطانطان وسيدي إيفني…، لقد فقدت تلك المصداقية التي تجعل منها أحزابا يثق فيها الناس لحمل مطالبهم وتفعيلها من داخل مراكز القرار، هذا صلب الموضوع: فقدان المصداقية وبالتالي تلاشي الثقة، وهو اختلال ما زال يتعمق أكثر فأكثر، عشرات الأحزاب منها من يقود الكوكبة مستعملا “سلطة المال” و”دغدغة العواطف” و”الانتهازية السياسية المغلفة بالعمل الخيري” و”استغلال الدين”، وأخرى في ذيل الترتيب جعلت من تنظيماتها دكاكين شخصية للاسترزاق، حصنها مالكوها بقوانين لا ديمقراطية حتى يخلد الزعيم في منصبه.

لقد كانت حركة 20 فبراير بمثابة ناقوس خطر لا يمكن تجاهله، كما لا يمكن تجاهل المكاسب القانونية والمؤسساتية والتنموية المهمة التي تحققت منذ سنة 1999، فنظرتنا إلى النصف الفارغ من الكأس حصريا مجانبة للصواب، والصواب أن نعترف بالنصف الممتلئ أيضا فننخرط جميعا في ملء النصف الفارغ، عوض توجيه الاتهام لجهة معينة وكأننا غير معنيين بما يقع، كلنا نتحمل جزءا من المسؤولية في الأزمة.

لقد كان ظهور “مشروع حزب التجمع من أجل التغيير الديمقراطي” بشعار “تمغربيت”، نتاجا طبيعيا لتقييم ذاتي و موضوعي للمقاربات المتبعة، وعلى رأسها “مقاربة المقاومة والاحتجاج”، و”مقاربة الكرسي الفارغ”، فسعى إلى نقل طاقة الشباب إلى داخل المؤسسات ليساهموا في تحقيق ما كانوا يطالبون به في الشارع، وطرح بديل لما كانوا ينتقدونه من وراء شاشات الهواتف الذكية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إن جوهر وجود مشروعنا كان هو الاقتناع بضرورة الانتقال إلى “ثقافة المشروع” و”ثقافة المشاركة البناءة”.

اليوم وبعد مرور 11 سنة من الحراك، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، جسر امتطاه الإخوان الذين وعدوا بفتح صفحة جديدة من التقدم والازدهار، فماذا كانت النتيجة؟ تعميق الأزمة، قرارات لا شعبية متنوعة أنهكت الفقراء و وأدت الطبقة المتوسطة، في مقابل “التستر” على الفساد تحت شعار “عفا الله عما سلف”، لقد تغول الإخوان على من كان ينتظر منهم تغيير بعض تفاصيل حياتهم البئيسة لفائدة أصحاب المال والجاه، بل إنهم ذهبوا بعيدا حينما استهدفوا قلب الدولة والمجتمع، التعليم، الذي كان أصلا في وضعية كارثية.

سقط الإخوان من الطابق السابع عشر، حسب وصف أمينهم العام الذي خرب صندوق المقاصة دون أن يبني بديلا يقي المواطن البسيط من مد وجزر الأسعار، ونسج قانون إضراب على مقياس الباطرونا لتنهش بشكل أقوى حقوق العمال، ثم دشن خوصصة التعليم، بالموازاة مع مبادرات هامشية لدر الرماد في العيون، بسقوطهم امتطى النيوليبراليون القدامى-الجدد صهوة جسر انتخابات جرى تحته ما جرى، كانت وعودهم وردية كما سابقيهم، ولأن للمغاربة ذاكرة سمكية فقد تفاءلوا خيرا بحكومة جديدة تقدم لهم رجال الأعمال كبديل للسياسيين الذين يقولون ولا يفعلون، لكن كل الطرق، ونحن في البداية، تؤدي إلى المزيد من الفوارق الطبقية و المجالية، وتغول أكبر للقطاع الخاص، ورجال الأعمال الذين كانوا وحدهم من راكم الثروات والأرباح في ظرفية موسومة بجائحة بتبعات اقتصادية واجتماعية عميقة، وتأخر تساقطات يؤشر على قدوم شهور عسيرة، واحتقان دولي بين المعسكرين “القديمين” في نقطة تماس روسيا وأوروبا قد يساهم في تشكيل نظام عالمي جديد، دون أن ننسى الإكراهات الإقليمية المتسمة بوجود نظام أوليغارشي عسكري يحاول تصدير أزماته العميقة واستغلال الفرص لتنفيذ أجنداته الفاشلة ضد وحدتنا الترابية ومصالحنا العليا، عن طريق أدوات على رأسها عصابة إجرامية تتاجر بمآسي الإنسان في مخيمات العقارب والأفاعي.

قد يكون من سوء حظ هذه الحكومة أنها تقلدت مهامها في مثل هذه الأوضاع، لكن من أسوء حظوظها أيضا أنها لم تكن صادقة حينما رمت الورود على الناس سعيا إلى حصد المقاعد وطي صفحة “الإخوان”، دون أن تأخذ في الحسبان المثل الدارج الذي يقول “دخول الحمام ماشي بحال خروجو”، لقد وعدت هذه النخب النيوليبرالية المغاربة، بسن سياسات ينتج عنها نمو اقتصادي أسرع، ستتقاطر فوائده إلى الأسفل لتعم الجميع، وقد أطرت هذه النخب وعودها ببرامج حاولت أن تبين من خلالها أن الأمر يتعلق بمشروع مجتمعي قائم على معطيات اقتصادية علمية دقيقة وخطط مضمونة النتائج، لكن النتيجة يبدو من الآن أنها لن تكون سوى استمرارا لتدفق الأرباح إلى الأعلى، بدلا من التقاطر إلى الأسفل، بيد أن الحل هنا لا يكمن في بعض الاقتراحات المشبوهة التي تحاول تمويه الجميع وترقيع الأزمة و تأجيلها، من خلال الحديث عن تغيير رئيس حكومة بآخر من نفس الحزب، والعاقل يعي جيدا أن هذا الأمر لن يقدم ولن يؤخر، وجزء من الحل يكمن في الإنخراط والنضال في اتجاه إصلاح عميق يمس بنية الأحزاب وكنس الفاسدين والانتهازيين منها عبر تجسيد ديموقراطية داخلية حقيقية، و تشديد شروط الحصول على الدعم العمومي قبل تمكينها من صلاحياتها الدستورية كاملة، ثم نجري انتخابات نزيهة وشفافة نجرم فيها المال الفاسد و استغلال المقدس المشترك ونتجاوز بدعة الاعتماد على “مول الشكارة” بالأولوية، واشتراط الحصول على ديبلومات عليا لولوج البرلمان وغيره من المؤسسات التمثيلية، وإجراءات قانونية ومؤسساتية و حكاماتية متعددة.

إننا وإذ نؤمن بالاحتجاج السلمي، كحق دستوري، و كدينامية مدنية تساهم في تصحيح الأخطاء و الضغط في اتجاه تكريس المساواة والعدالة والحرية، مع التحلي بروح المسؤولية والمواطنة، ومع أخذ سياقنا الوطني والإقليمي والدولي بعين الاعتبار، فإننا مقتنعون بضرورة انخراط الشباب في نسج مشاريع سياسية بفكر وسلوك وممارسة جديدة، للمساهمة في إعادة الثقة في العمل السياسي، و تجاوز الأزمة الحزبية البنيوية، والإبداع في طرح تصورات و تحويلها إلى برامج و اقتراحات عملية قادرة على إحداث الفرق و تحقيق التنمية والتغيير الديمقراطي الهادئ في ظل الاستقرار، والمساهمة في توسيع هامش الديمقراطية من داخل المؤسسات، مع أخذ خصوصيات السياق المغربي و طبيعة الديموقراطية الفتية ببلادنا، بعين الاعتبار، فحينما نحتج فنحن نعبر عن عدم رضانا عن الطريقة التي يدبر بها الشأن العام، وبإمكاننا تحويل هذه المواقف و الانتقادات إلى مشاريع بديلة لما هو موجود في الساحة، عبر الآليات الديمقراطية المتاحة، وهذا هو روح مشروعنا السياسي الشبابي “التجمع من أجل التغيير الديمقراطي” الذي اقتنع بضرورة المساهمة في تخليق الحياة العامة و تجاوز عدد من الاختلالات، في اتجاه بناء العدالة الاجتماعية والمجالية و “دولة الاستثمار الاجتماعي”، بالتركيز على الإصلاحات القانونية والمؤسساتية والحكاماتية من جهة، ومن جهة أخرى من خلال ترسيخ قيم “تمغربيت” وقيم الوطنية والتشبث بالأرض والتسامح والتعايش والانضباط والالتزام والتضامن، في وجدان الأجيال الصاعدة، عبر إصلاح جذري لمؤسسات التنشئة الاجتماعية الرئيسية وعلى رأسها التعليم والإعلام.

 

عمر إسرى، فاعل سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *