خارج الحدود

أزيد من 80 سنة من التحكم في صراعات العالم.. هل للبحر المتوسط دور في حرب أوكرانيا؟

أعطى الموقع الجغرافي للبحر المتوسط أدوارا جيوستراتيجية، سياسية واقتصادية وثقافية، عبر التاريخ،، وحولته خلال 80 سنة الماضية إلى رقعة تحكمت في صراعات العالم.

والبحر المتوسط عبر التاريخ كان طريقًا هامًا للتجار والمسافرين من العصور القديمة مما سمح بالتجارة والتبادل الثقافي بين الشعوب الناشئة في حوضه. وتطل عليه اليوم أزيد من 20 دولة، وعشرات من الخلجان والمضايق. و “بالنسبة لثلاثة أرباع الكرة الأرضية، يمثل البحر المتوسط العنصر الموحد لمركز تاريخ العالم “، حسب ويكيبيديا.

وأبرزت تداعيات الغزو الروسي على أوكرانيا إلى الواجهة الدور الجيوسياسي للبحر المتوسط، من خلال الأدوار التي تلعبها مضايقه المتعددة، وخاصة مضيقَي الدردنيل والبوسفور، الخاضعَين لسيطرة تركيا.

مضيق جبل طارق والحرب العالمية الثانية

وحسب “اندبندنت عربية”، خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، لعب مضيق جبل طارق، الذي تسيطر عليه بريطانيا منذ القرن الـ18 دوراً حيوياً في تحكّم الحلفاء بحركة النقل البحري من وإلى البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. وحاولت قيادة الجيش الألماني السيطرة على جبل طارق، وخلال عام 1940 أعدّوا خطة باسم “فيليكس” لهذه الغاية، لكنها فشلت مع بقاء تردد إسبانيا في خوض الحرب إلى جانب دول المحور، ثم تراجعها أخيراً عن الفكرة خشية من العواقب.

انتهت الحرب رسمياً في سبتمبر (أيلول) 1945، وسرعان ما تحوّل الحلفاء إلى خصوم، ليدخل العالم حقبة جديدة من الحرب الباردة بين حليفَي الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. استمرت أهمية الممر الملاحي الذي يقع غرب المتوسط، حيث واصلت بريطانيا مراقبة البحرية السوفياتية بالتعاون مع حليفتها عبر الأطلسي، غير أن مضيق جبل طارق لم يكُن الوحيد الذي لعب دوراً مهماً خلال تلك الحقبة، إذ دار صراع حول اثنين من الممرات المائية التي تطلّ على البحر المتوسط من جهة الشرق.

مضيقَي الدردنيل والبوسفور

كان لمضيقَي الدردنيل والبوسفور، الخاضعَين لسيطرة تركيا بموجب “معاهدة مونترو” عام 1936، دوراً مهماً في اقتراب أنقرة من الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين، ذلك التقارب الذي تُوّج عام 1952 بانضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. فعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، صرّح لافرينتي بيريا، نائب رئيس الوزراء السوفياتي بأن مساحة شاسعة من شرق تركيا بالقرب من البحر الأسود تنتمي إلى جورجيا، التي كانت آنذاك جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وأشار إلى أن الأتراك سرقوها خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية. كما احتجت موسكو على السماح لسفن حربية ليست تابعة للدول المطلة على البحر الأسود بالمرور عبر المضائق في انتهاك لـ”اتفاقية مونترو”.

مضيق هرمز

لم تكُن ممرات البحر المتوسط وحدها الشاهدة على صراعات الدول والتنافس حول السيادة، فخلال حرب الخليج الأولى كان مضيق هرمز مركز الصراع بين العراق وإيران، والنقطة الساخنة التي شهدت ما يُعرف بحرب ناقلات النفط. ويظل المضيق حتى الآن “فزّاعة” إيران التاريخية، ذلك الشريط الضيق من المياه بين إيران وسلطنة عمان، الذي يمر عبره حوالى 18 مليون برميل نفط يومياً، ويمثل 30 في المئة من حجم تجارة النفط الخام عبر البحر عالمياً. وكثيراً ما تلوّح طهران بإغلاق المضيق كلما تصاعد التوتر بينها وواشنطن، وهذا ما فعلته في أبريل (نيسان) 2019، عندما شددت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب حملة الضغوط القصوى على إيران بفرض عقوبات جديدة تنطوي على إلغاء الاستثناءات التي كانت ممنوحة لثماني دول في ما يتعلق بالصادرات النفطية الإيرانية.

قناة السويس

كما شهدت قناة السويس، وهي ممر مائي صناعي تم حفره في نهاية القرن الثامن عشر، سلسلة صراعات، أبرزها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 في أعقاب إعلان الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر تأميم القناة. وخلال حرب 1973، لعب مضيق باب المندب، الذي يربط البحر الأحمر وخليج عدن، دوراً مهماً في حصار إسرائيل بحراً بعدما أغلقت القوات البحرية المصرية المضيق بالتنسيق مع اليمن الذي يسيطر عليه. وعام 2011، عادت القوات المصرية إلى تأمين المضيق وفرض حصار عليه بسبب مخاوف دولية جراء سيطرة جماعة الحوثيين على الموانئ والقواعد اليمنية في أعقاب سقوط نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح.

عودة المضايق التركية إلى المشهد

وبعد مرور أكثر من سبعة عقود على أزمة المضايق التركية الأولى، عادت هذه الممرات للعب دور في حرب جديدة تشتعل في شرق أوروبا، حيث غزت القوات الروسية أوكرانيا في إطار صراع مع قوى “ناتو” حول ضم البلد السوفياتي السابق إلى المعسكر الغربي. ففي مطلع الأسبوع الحالي، أعلنت أنقرة منع كل السفن الحربية من عبور مضيقَي البوسفور والدردنيل، إذ أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده تنفذ ميثاقاً دولياً يسمح لها بإغلاق المضايق البحرية عند مدخل البحر الأسود أمام السفن الحربية التابعة للدول المتحاربة، في إشارة إلى “اتفاقية مونترو”.

وتمنح “اتفاقية مونترو” تركيا الحق في منع السفن الحربية من استخدام مضيقَي البوسفور والدردنيل أثناء الحرب، لكن في  الوقت ذاته تسمح بعودة السفن، غير المشاركة في القتال، إلى موانئها. ووفقاً للمواد 19 و20 و21 من الاتفاقية، فإنه في وقت الحرب أو إذا اعتبرت تركيا نفسها مهددة بخطر وشيك، يمكنها إغلاق المضايق. ومع ذلك، تنص المادة 12 على أن قوى البحر الأسود، بما في ذلك روسيا، لا يزال لها الحق في إرسال السفن عبر المضيق لغرض العودة إلى قواعدها

وفي حديثه إلى “اندبندنت عربية”، أوضح سيمون شوفيلد، نائب رئيس “معهد الأمن الإنساني” في المملكة المتحدة، أن تركيا اعترفت بغزو أوكرانيا على أنه “حرب”، مما يسمح لها بممارسة حقوقها في إدارة السفن الحربية التي تعبر ممراتها المائية لمنع تصاعد الحرب. ومع ذلك، أكد مولود تشاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، أن بلاده لا تستطيع منع السفن الحربية الروسية من العودة إلى قاعدتها الأصلية في البحر الأسود.

ويضيف شوفيلد “يبدو أن الاتفاقية مصاغة بشكل غامض بدرجة كافية لتستطيع أنقرة اتخاذ قرارات سياسية بشأن ما إذا كانت بعض السفن ستعود بالفعل إلى قاعدتها الأصلية، أو ما إذا كانت روسيا تستخدم حيلة بيروقراطية لإعادة تنظيم نشر السفن في البحر الأسود. ومع ذلك، سيكون من الصعب تبرير منع سفينة غادرت البحر الأسود من العودة”.

ويتفق المراقبون على أن القرار التركي لن يكون له أثراً كبيراً في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بالنظر إلى أن تقارير صحافية روسية تشير إلى أن موسكو نقلت بالفعل جزءاً مهماً من أسطولها في بحر البلطيق والبحر المتوسط إلى البحر الأسود قبل بدء الحرب، وبالفعل لم يضغط الغرب على الجانب التركي بشأن المضايق، إدراكاً للديناميكيات العسكرية للحرب، فالقرار التركي جاء بعد مطالب من أوكرانيا نفسها. ويقول حسن سليم أوزرتيم، الباحث السياسي التركي والزميل السابق لدى المنظمة الدولية للبحوث الاستراتيجية في أنقرة إن “الحرب في الغالب تسير براً وجواً، ولا تقوم روسيا بأي مناورات بحرية كبيرة، بل تستخدم قواتها البرية للتقدم”. وأضاف أن “روسيا يمكنها إرسال سفنها إلى البحر الأسود، لكن المواجهة البرية ستقرر مصير الحرب”.

الحياد التركي لن يستمر طويلاً

حتى الآن، بينما تدين تركيا الغزو الروسي لأوكرانيا، فإنها لم تنضم إلى أي عقوبات غربية ضد موسكو، كما أنها البلد الوحيد في “ناتو” الذي لم يحظر الطيران الروسي. وترتبط أنقرة بعلاقات عسكرية واقتصادية وتجارية جيدة مع موسكو، فهي واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لها بحجم تجارة سنوية بحوالى 32.5 مليار دولار أميركي.

وعام 2021، وفّرت روسيا أكثر من 33 في المئة من حاجات تركيا للغاز وأمّنت 66 في المئة من وارداتها من الحبوب. وتُعدّ تركيا مقصداً سياحياً مهماً للروس، إذ يزورها سنوياً حوالى 4.7 مليون سائح روسي. لكن في الوقت ذاته، ترتبط أنقرة بعلاقات جيدة أيضاً مع كييف التي تمثل أحد الزبائن الأساسيين للمسيّرات التركية. ومن ثم يبقى السؤال إلى أي مدى يمكن لأنقرة البقاء على الحياد مثلما حاولت خلال الحرب العالمية الثانية؟

يشير سونر كاغابتاي، الزميل المتخصص في الشأن التركي لدى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، إلى أن تركيا تتبع سياسة الحياد المؤيد لأوكرانيا. ويوضح أن تركيا تدعم أوكرانيا وفي الوقت ذاته لن تنضم إلى العقوبات المفروضة على روسيا وتقوم بتنفيذ “اتفاقية مونترو”، “بطريقة محايدة”.

وفي مقابلة مع شبكة “سي أن أن” الأميركية، الخميس 3 مارس (آذار) الحالي، قال إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئاسة التركية، إن “أنقرة ليست لديها خطط لفرض عقوبات على روسيا في الوقت الحالي”. وأوضح أن بلاده ترغب بالإبقاء على الحوار مع موسكو، مضيفاً أن “البعض منّا بحاجة للبقاء على اتصال مع روسيا وتشجيعها على العودة إلى مائدة المفاوضات”.

وأردف “نحن ندرك مدى حساسية قضية عضوية أوكرانيا في ناتو. هذا هو أحد الأسباب الرئيسة التي تجعلنا نريد إنهاء هذه الحرب غير القانونية، ونأمل في أن يفهمنا الأوكرانيون أيضاً”. وفيما وصف المطالب الثلاثة التي طرحتها روسيا لوقف إطلاق النار بأنها غير واقعية، أشار كالين إلى أن تركيا تعتقد أن القضية الأساسية لموسكو هي إمكانية دخول أوكرانيا إلى “ناتو”، لافتاً إلى أن روسيا أثارت هذه القضية في الماضي وأنها بحاجة إلى مقاربة واقعية لهذه القضية.

وتطالب موسكو بالاعتراف بشبه جزيرة القرم ونزع سلاح أوكرانيا، ما اعتبره كالين غير مقبول. ويتعلق المطلب الثالث بتقديم ضمانات بعد ضم أوكرانيا إلى حلف “ناتو”.

ويتفق المراقبون على أنه إذا ما تصاعدت الحرب واستمرت، فإن تركيا كعضو في حلف شمال الأطلسي مضطرة إلى الانحياز للمعسكر الغربي. ويقول عمرو الديب، مدير مركز خبراء “رياليست” في موسكو، الأستاذ المساعد لدى معهد العلاقات الدولية في جامعة لوباتشيفسكي الروسية، إن “تركيا تقف في موقف صعب كعضو في ناتو”، وفي الوقت ذاته ترتبط بمصالح اقتصادية وسياسية مهمة مع روسيا”.

وأضاف “في نهاية المطاف، لا يمكن للأتراك أن يظلوا محايدين لأطول فترة ممكنة لأن الاستقطاب في أوج أوقاته، إذا ما استمرت الحرب أو تحوّلت إلى حرب عالمية، فإن أنقرة ستُضطر حتماً إلى الانحياز للجانب الغربي باعتبارها عضواً في حلف شمال الأطلسي”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *