وجهة نظر

الجماعة والخلافة على منهاج الحكم الجبري

أرجو من الإخوة في العدل والإحسان أن يتعاملوا مع ما تحمله مقالاتي من نظر ونقد وتحليل وقراءة بشأن سيرة وأحوال جماعتهم وما هي عليه اليوم بجدية وحسن نية ومناظرة، لأنني لست ممن يهوى كشف عورات المسلم على رؤوس الأشهاد، ولكن لأن الجماعة تبقى اجتهادا في الشأن الإسلامي، بما له وما عليه، وهو شأن مشترك بين المسلمين، وخوض في الشأن العام، مجتمعا ووطنا ودولة، فإنه يحق لي، بل يجب علي وجوبا شرعيا وسياسيا وأخلاقيا أن أقول ما أعتقده غير موفق في المعتقد والعمل، تقليدا واجتهادا، من منطلق، كما سبق قوله، أن الجماعة هي رأي واجتهاد ووجهة نظر استقر عليها الإخوة في سياقات تاريخية وسياسية وفكرية، ولا ينبغي اعتبار النقد استهدافا للجماعة أو تحاملا عليها أو تآمرا ضدها كما يحلو لبعض الأصوات المنفعلة والعاطفية ترديده في وسائل التواصل الاجتماعي، وأظن أن الإخوة في الجماعة لهم من الذكاء للتمييز بين النقد البناء الموضوعي وبين الغثائية في وسائل التواصل الاجتماعي، غثائية لا تخدم أي مشروع أو تصور للعمل الإسلامي عامة ولا تحمل هم مستقبله وتمكينه.

ويعلم الإخوة في الجماعة قبل غيرهم أنني سبق أن قدمت، قبل سنوات، شهادة حق حول الجماعة ومرشدها رحمه الله، لازالت منشورة في موقع المرشد، وذلك لأنني كنت أنظر إليها كقوة كانت قد توفرت لديها إمكانية الشرط التاريخي والوزن التنظيمي والعمق الاجتماعي لقيادة حركة التغيير الإسلامي دون الحاجة لاستجداء يسار يراوح مكانه، فقد البوصلة وتخلى عن رصيده التاريخي والأخلاقي، ولا أقصد بذلك بعض الشخصيات اليسارية الوطنية المعتبرة، أو التحول لطريقة صوفية تنظر للإسلام بعين واحدة وتقارب الواقع السياسي بتراث سياسي أموي له ظروفه وسياقه الخاص، وهي مقاربة استنباتية لا تتوفر فيها الشروط الموضوعية، كما أن التاريخ الإنساني وليس فقط الإسلامي لم يخبرنا بتسويات سياسية ساذجة وتوبة عاطفية تولدت واستنتجت في ظروف خاصة عاشها المرشد الراحل عبد السلام ياسين والملك الراحل الحسن الثاني. لقد فقد اليسار قيمته السياسية والفكرية ولم يعد له وجود في ميزان القوة لأنه فقد موقعه في الصراع السياسي، فأصبحنا أمام شخصيات ليبرالية علمانية بنكهة يسارية أو متياسرة.

إن الرابطة الوحيدة والمقدسة في نظام الملك هي رابطة الدم حتى في حالات نادرة انتقل فيها الحكم لملك صالح مثل عمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي وعبد الرحمن بن هشام العلوي، بحسب وصية عمه السلطان سليمان بن محمد الثالث، لكن لم يخرج الملك من العائلة أبدا إلا كما تخرج الروح من الجسد انتزاعا لا تسليما وطوعا.

وإذا أنا اليوم أنتقد ما عليه الجماعة من انحراف خطير في اتجاهين، الأول نحو التأسيس والتأصيل لطريقة جميع أركانها المادية والمعنوية والمرجعية متوفرة، وفي جوهرها شخص المرشد، سلوكا وكتابة ومنهاج حياة، والثاني التمهيد للدخول في المعترك السياسي المؤسسي في ظل نفس المنظومة الذي قبل العمل بشروطها من قبل حزب العدالة والتنمية وقبله الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وانتهى بهما الحال لما هو معلوم الآن من كساد وإفلاس، فليس المراد من النقد هو تدمير هذه التجربة أو تسفيهها بقدر ما هو التنبيه للمنزلقات والمخاطر من حول الجماعة وفي بيتها الداخلي، منزلقات في التصور والفكرة والرجال والسبيل والهدف، وذلك من باب النصح الشرعي، وأخطر داء يصيب الجماعات والحركات، كما هي الأحزاب والدول، هو داء المكابرة والعناد.

وإذا كان الإخوة في الجماعة يتحملون كلاما قويا، بل قاسيا أحيانا من بعض اليساريين وفي عقر دارهم، فمن باب أولى أن يتحملوا النقد من أبناء الجماعة ومن الباحثين من خارجها ويغتنموا الفرص لمراجعة مسارهم واجتهادهم وفكرهم وتصورهم. إنني أدعوهم لمناظرة فكرية وسياسية من خلال الرد على النقد في وسائل الإعلام أو عن بعد يشارك فيها ثلة من الباحثين من كل طيف بما فيها رموز الجماعة.

لقد تناولت في مقالين سابقين حالة الجماعة في طبيعتها الصوفية والطرقية وفي سلوكها ومخاطر الانزلاق العقدي والفكري والفقهي، بعنوان، الأول، “العدل والإحسان: في منزلة البرزخ السياسي”، والثاني، “العدل والإحسان: من الجماعة إلى الطريقة”، واليوم، في هذا المقال، “الجماعة والخلافة على منهاج الحكم الجبري”، سأتناول بالدارسة والتحليل الطبيعة السياسة في طرح وخطاب الجماعة، أو على الأقل كما يبدو لي، من الإجابة على جملة من الأسئلة: هل تملك الجماعة تصورا سياسيا محدد المعالم والمآل تعمل على تنزيله في الواقع؟ هل الجماعة حركة تغيير أم جماعة إصلاحية محافظة؟ هل كتابات مرشد الجماعة الراحل تطرح مشروعا سياسيا بديلا أم هي مجرد مشروع تصحيحي لما عليه النظام السياسي من مخالفات لشروط الخلافة والحكم الراشد بتعبير مرشد الجماعة الراحل؟ إذا كانت الجماعة ليست معارضة للنظام كما قال المرشد، وإنما هي “عاصية” له لخروجه عن الشرع وضوابطه في الحكم والاقتصاد والمال العام وغيرها، فما هي آلية تنزيل هذا العصيان وما هي دلالاته وأهدافه السياسية؟ هل تجاذب الجناح الصوفي والطرقي داخل الجماعة، من جهة، والجناح السياسي البراغماتي، من جهة أخرى، سينتهي بفصل العبادات التربوية والصوفية عن العمل السياسي كما هو شأن حزب العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح؟ ما هي أوجه ومعالم التجديد في كتابات المرشد سواء في السياسة الشرعية أو في أصول الفقه والعقيدة أو في علم الحديث والتفسير حتى تعتبر كتاباته اجتهادا فقهيا كما فعل الأئمة أصحاب المذاهب؟
******
هل إقامة نظام سياسي إسلامي عمل تأسيسي أم تصحيحي؟
يعتبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلافة هو العمود الفقري لمشروع جماعة العدل والإحسان والمرتكز الأساس لدعوتها، إلا أنها بدل أن تعمل من أجل إقامة نظام حكم خلافة كما ادعت منذ تأسيسها، اختارت الجماعة حالة الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز لتسقطها على الواقع السياسي المغربي كما دعا إلى ذلك عبد السلام ياسين في رسالة “الإسلام أو الطوفان” ووصف دعوته بـ “التوبة العمرية”.

لماذا اختار المرشد الراحل هذا النموذج وهذه المرحلة السياسية تحديدا في التاريخ السياسي الإسلامي لمسألة الخلافة على منهاج النبوة وإسقاطها على الواقع السياسي المغربي؟ ألم يكن أجدر بالمرشد أن يدعو لإقامة نظام خلافة على منهاج النبوة كما أقامها الرعيل الأول من الخلفاء بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم أن كلفة هكذا دعوة “أمام سلطان جائر” بتعبير المرشد الراحل، هي السبب الرئيس في عدم سلوك هذا الطريق الوعر وعدم اقتحام هذه العقبة؟ أم أن ظن المرشد في سياق حالته الوجدانية بعد خروجه من الطريقة البودشيشية حزينا لأنه لم ينل ما كان يتوقعه وينتظره من شيخه العباس بن المختار القادري البودشيشي، ولقائه بالملك الراحل في مناسبات الذكر وتزكية النفس والمناجاة، بأن الحسن الثاني “رجل مؤمن” و”صوفي”، وبالتالي لا يمكن، والحالة هذه، الدعوة لإقامة نظام الخلافة على أنقاض النظام القائم، وإنما لإصلاحه ودعوته للتوبة وإلزام إمارة المؤمنين بمقتضيات نظام الخلافة من عدل وإحسان وإرجاع حقوق كما ورد في “الإسلام أو الطوفان”؟

إن ما دعا إليه المرشد الراحل في كتاباته بجعل نظام الحكم في المغرب مسؤولية مشتركة وقسمة بين ما أسماه “رجال الدعوة” و”رجال الدولة”، بمعنى أن للملك السلطة الزمنية وللمرشد أو من ينوب عنه السلطة الدينية، وهو مأزق تاريخي وقعت فيه الكنيسة المسيحية انتهت بسقوط الملكية في فرنسا ودول أخرى بسبب تحالف الفساد والاستبداد، فساد الطبقة الدينية واستبداد الطبقة السياسية، انتهت بشعار الثورة الفرنسية عام 1789، “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”، إن هذه الدعوة فيها الكثير من التبسيط والسذاجة والجهل بطبيعة الحكم والصراع عليه في تاريخ الأمم والإنسانية وليس فقط في تاريخ النظام السياسي الإسلامي.

ولو تأمل ودرس المرشد تاريخ السلالات التي حكمت المغرب منذ الأدارسة، مرورا بالمرابطين والموحدين والمرينيين والسعديين، وصولا للعلويين، لعلم بأن نهوض وسقوط الأمم وأنظمة الحكم لا يكون بالتوافق والشراكة وحسن الظن، وإنما بالتغلب والقوة. فعن أي توبة يتحدث المرشد؟ وما هي ضمانات النجاح فيها؟ وهل الطرف الآخر، الملك الراحل الحسن الثاني كان سيقبل بهذه القسمة الطوعية والإرادية؟
وها هو الزمان قد دار دورة كاملة وغادر المرشد هذه الدنيا وقبله الملك الحسن الثاني، فهل تحققت التوبة في العهد الجديد؟ وهل ورثة المرشد لازالوا على نفس المشروع أم اقتنعوا بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؟ إن الخطأ في التشخيص والتوصيف يفضي حتما إلى الخطأ في النتائج والأهداف.

مشروع الجماعة، توصيف لا تنزيل لنظام الخلافة الذي تدعيه:
إن قراءة أفقية وشاملة لكتابات المرشد ورسائله حول السياسة والدولة والدعوة لا تعدو أن تكون كتابة على هامش السياسة الشرعية وليس في صميم التأصيل لنظرية في الفكر السياسي يجيب على سؤال “الكيف” وضوابط الاجتهاد الشرعية فيما يتعلق بالنظام المبتغى إقامته بزعم الجماعة في أدبياتها وفي كتابات المرشد كذلك، كما أن المرشد نفسه لم يأت بجديد في هذا المجال، إذ بنى فكرته حول تحول الخليفة عمر بن العزيز من الملك العاض إلى الخلافة الراشدة التي قامت على منهاج النبوة، وحاول إسقاطها على حكم جبري يختلف في طبيعته عن الملك العاض، كما أن المرشد بنى قناعته وطموحه على ما ظنه متأصلا في شخصية الملك الراحل الحسن الثاني، سواء عبر الانتساب للدوحة الشريفة، أو المشاركة في حلقات الذكر والمناجاة عقب محاولتي الانقلاب، 1971-1972، و”أزمة” المرشد الحزينة بعد خروجه من الطريقة عام 1973، فكان تقديره غير موفق، لذلك، في اعتقادي، جاءت رسالة “الإسلام أو الطوفان”، عام 1974، شديدة اللهجة ومباشرة في النصيحة وممزوجة بعبارات عاطفية، غلب عليها التذكير والوعظ أكثر من طرح مشروع سياسي تأسيسي يرنو القطيعة مع الوضع السياسي القائم. كان الحسن الثاني يدرك بأن المرشد لا يطرح نفسه بديلا عنه في الحكم ولا جماعته بديلا عن ملكه، لذلك اعتبر ما تضمنته رسالته جنونا وهرطقة فأودعه مستشفى الأمراض العقلية ولم يودعه السجن كما فعل بقيادات اليسار من قبل ومن بعد.

إن مشروع الخلافة على منهاج النبوة كما وردت في الحديث النبوي الشريف لا يغدو أن يكون سوى تحقيب زمني لحال الأمة الإسلامية وانحراف نظامها السياسي ولم يتناول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم معالم محددة لطبيعة هذا النظام أو كيفية إقامته والمحافظة عليه، وترك ذلك لأئمة الأمة وعلمائها وقادتها حسب الزمان والمكان، إضافة لما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية من توجيهات عامة مثلت الركائز الأساسية لنظام الحكم في الإسلام سواء تعلق الأمر بجانب العقيدة أو مسائل المعاملات والحقوق والواجبات الشرعية أو ما تعلق بأموال المسلمين ودمائهم وأعراضهم في السلم والحرب وعلاقتهم بالأمم الأخرى.

لم تنجح الجماعة، وعلى رأسها مرشدها، في تبسيط وتوضيح هذا المفهوم والمصطلح العام وتنزيله برنامجا سياسيا وآلية تنفيذية، وبقي لعقود من عمر الجماعة حتى وفاته شعارا تواجه به النظام وتستعمله للضغط عليه ليقبل بالقسمة في إدارة شؤون البلاد والعباد التي تحدث عنها المرشد بين “رجال الدعوة” و”رجال الدولة”، ولم تفلح أيضا تحت قيادة مرشدها الراحل لا في إقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، وإن كانت دعوته هي إقامتها على المنهاج العمري الأموي من ناحية الشروط السياسية والتاريخية، ولا في توفير شروط إقامتها في سياقنا السياسي والتاريخي كما هو شأن جميع حركات الدعوة الإسلامية التي لم تأت لتكون جزء من النظام السياسي القائم، كما كانت الدعوة في نشأتها النبوية، ولا عاملا لترميمه وتصحيحه أو إصلاحه، وإنما جاءت، كما شهد بذلك التاريخ والواقع، لتقوض أركانه وتكون بديلا عنه، نظاما بنظام ومشروعا بمشروع ودعوة بدعوة.

لم يتجاوز المرشد الراحل حدود ملامسة مشروع الخلافة كنظام سياسي والإعلان عنه وطرحه من الناحية الأخلاقية، وبقي بينه وبين النظرية السياسية لنظام الحكم الإسلامي تنزيلا وبناء واقعيا بون شاسع لسبب وجيه، وهو عدم اطلاع الرجل على تجارب مختلف النظم السياسية في التاريخ الإسلامي والبشري اطلاعا علميا أكاديميا واكتفى بالجانب الفكري والأخلاقي في كل كتاباته التي تدور حول مسألة الحكم والدولة والنظرية في السياسة الشرعية، كما أن موقفه السياسي والعاطفي من النظام السياسي القائم في عهده، خاصة شخصية الملك الراحل الحسن الثاني، لعب دورا محوريا في وقوفه عند حدود توصيف ما يحلم به دون محاولة اقتحام العقبة الحقيقية، وهي بنية النظام السياسي القائم وطبيعته والعمل على فهمه أو تغييره، فضلا عن وضع بديل نظري وتنفيذي عنه قائم على فهم عميق وتاريخي وشرعي لنظام حكم مستقل، سواء في العهد النبوي أو الراشدي، عن أي نظام وضعي آخر كيفما كان.

إن إقامة نظام الخلافة على المنهاج النبوي لا يمكن أن تقوم بها سوى حركة تأسيسية لنظام حكم جديد على أنقاض نظام سياسي قديم، لا حركة تصحيحية هامشية من داخل النظام السياسي القائم وبشروطه على أساس قسمة في الحكم بين سلطة روحية لرجال الدعوة، وسلطة زمنية لرجال الدولة، وهذا ما آمن به المرشد الراحل، ولم يدرك بأن الإسلام هو الجوهر والمفترق في شرعية الحكم وعموده الفقري وركنه الشديد، بدونه، مهما ابتعد عن أحكامه وشرائعه، لن تقوم له قائمة وتفقد شرعيته.

لا أعتقد أن المرشد الراحل كان يخطط لسحب السلطة من بين يدي الملك الراحل عبر هذه “الحيلة” الشرعية، فيصبح الملك تحت سلطة رجال الدعوة، وكانت تلك رغبة الكثير من قادة الحركة الوطنية كذلك غداة الاستقلال، وهو ما كانت عليه العلاقة بين الملكية والكنيسة في أوروبا، إلى أن وقعت الفاجعة الكبرى للملكية والكنيسة معا، اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789، فسيق الاثنان للمقصلة وقامت الدولة العلمانية الاستئصالية المعادية للدين عموما، وللمسيحية خصوصا. لقد كانت النهاية طبيعية بالنسبة لمشروع المرشد الراحل، حيث لم يظفر بشيء، وبعد عقود من المحاولات، عبر وسطاء وأدب الرسائل، فارق الرجلان دنيا الدعوة والدولة، المرشد والحسن الثاني، وتركا وراءهما جماعة انحرفت نحو الطرقية والصوفية انحرافا عقديا وسلوكيا وتفرق قادتها حتى صدق فيهم قول الله تعالى (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخر، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم)، آل عمران، 151، وملكية حارت في فهم تطور المجتمعات والأمم من حولها وعجزت عن اتخاذ قرار الخلاص الحقيقي من هذه الحيرة فتصبح نظاما سياسيا حديثا وأصيلا، نظاما في خدمة المجتمع لا متوجسا منه.

لقد كانت نية المرشد الراحل إقامة نظام إسلامي على منهاج النبوة بدون كلفة كما جرت عليه سنن التاريخ وإقامة الأمم والدول واستبدالها، وهو في الحقيقة لم يكن نظاما على منهاج النبوة لأن دعوته هاته لم تكن دعوة تأسيسية كما كانت الخلافة الأولى الراشدة بعد عهد النبوة، وإنما هي كانت دعوة أراد استنباتها في رحم نظام سياسي جبري أشد تمسكا بالحكم من العهد الأموي والعباسي العاض، بل إن الحالة “العمرية” لم تكن خلافة تأسيسية بالمعنى السياسي الراشد والنبوي، لذلك لم تصمد أمام طبيعة بيئة الحكم التي ظهرت فيها استثناء سرعان ما غدر بها واغتيلت بليل على يد أركان النظام السياسي العميق العاض المخالف لنظام الخلافة الشوري أصلا وفصلا. لم تكن نية المرشد الراحل كافية للحكم عليها بالتجديد ولا بالصوابية اجتهادا وتأصيلا ولا كافية لتقيم نظاما سياسيا على منهاج النبوة، بل كان فيها بعض السذاجة من ناحية جهلها بطبيعة الحكم الجبري وتعاملها عاطفيا في مسألة الحكم حيث لا مجال ولا مكانة للعاطفة وحسن الظن، لأن الحكم “غير قابل للقسمة” كما صرح الملك الراحل الحسن الثاني لأحد الصحفيين الفرنسيين قبل وفاته معاتبا سعي المهدي بن بركة لاقتسام السلطة مع الملك.

وإذا اختلفت النية مع العمل، فذلك دليل على أنها نية ساذجة وقعت في لحظة عاطفية تفتقر للعلم الدقيق للسياسة الشرعية فيما يتعلق بنظرية الحكم وضوابطها الشرعية وتعقيداته العملية الواقعية كشرط لقيام الدعوة بمهامها العالمية، كما تفتقر للدراية والفراسة حول شؤون الحكم وإدارته وعلاقاته المحلية والدولية المعقدة. لقد تعامل المرشد الراحل مع نظام الحسن الثاني بالإحسان وليس بالعدل، لذلك دعا لتوبته ولم يواجهه، ولم ير في نفسه بديلا عنه ولم يكن يريد إقامة نظام سياسي على منهاج النبوة بالمعنى الشرعي وإنما بالمعنى التاريخي حتى وإن كان بعيدا عن مفهوم النظرية السياسية في الإسلام القائمة على عنصري العلم والضوابط الشرعية وعلى القوة والتمكين والمفاصلة والتمايز، نظرية حول إقامة نظام حكم يديره رجال الدعوة ورجال الدولة وكلاهما يتقاسمان الأصول التربوية والإيمانية والعقدية الراسخة والثابتة في الكتاب والسنة.

لم يكن ذلك غريبا في فكر المرشد الراحل، حينما تعامل مع نظام الملك الحسن الثاني بمنطق الفصل بين الدعوة والدولة وعلى أساس الحوار والتعايش ولو كان نظام حكم جبري، فقد أظهر نفس التصور والسلوك حين دعا “الفضلاء” من اليساريين والليبراليين للحوار، كما دعا قادة الجماعة من بعده اليسار لتشكيل جبهة وطنية وإعلان ميثاق معارضة ومطالبة النظام بالإصلاح والضغط عليه، فكيف تستقيم هذه الدعوة وعلى أي أساس وبأي مبررات شرعية وسياسية؟ وهل إقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة كما تزعم الجماعة ممكنة مع قوى اليسار؟ وما هو مفهوم شعار “دولة الإنسان” الذي ترفعه الجماعة وتأصيله في الكتاب والسنة؟ وما هي الضرورة الشرعية والمبرر السياسي والتاريخي لدعوة يسار مفلس إيديولوجيا وهامشي اجتماعيا ومناهض للإسلام كمشروع مجتمع ونظام حكم كما جاء في أدبياتها؟

يخلط قادة الجماعة بين المطالبة بإقامة ما يسميه أمين عام الجماعة، محمد العبادي، “دولة القرآن والإحسان والإنسان”، وهذا تعبير عن رغبة لا عن مشروع محدد المعالم والأهداف، بل هو مجرد طلب وأماني، وبين امتلاكها لتصور دقيق لما تريده وكيف تحققه بكل مراحله وآلياته وشروطه وتفاصيله ومناحيه السياسية والاقتصادية والثقافية والدستورية والفكرية والفقهية وأطره وكفاءاته. يبقى هذا الشعار مجرد عنوان مرحلة وليس برنامجا سياسيا واستراتيجيا ومشروع تغيير متكامل الأركان والأبعاد. ولذلك، فهم منسجمون مع أنفسهم، حيث حينما أرسل المرشد الراحل رسالته للملك الراحل الحسن الثاني، “الإسلام أو الطوفان”، لم ينازعه في الملك ولم يشكك في شرعية الحكم، وإنما جاءت الرسالة عبارة عن مطالب ونصائح، وهذا ما يجعل الجماعة لا تحمل مشروعا سياسيا مستقلا عن المشروع السياسي القائم الذي أرادت إصلاحه فقط وتسعى لإيجاد موطئ قدم لها في منظومته، وذلك لسببين أساسيين، الأول لأنها لا تحمل هذه القناعة شرعا ولا تنتمي لهذا الاجتهاد الفقهي تاريخيا وتأصيلا، ثم لكون ثقافتها الصوفية لعبت دورا كبيرا في محدودية أفقها الفكري والسياسي والفقهي، ثم هذه الطريقة الصوفية عموما محافظة، والسبب الثاني لأنها ليست حركة تغيير بنيوي، وإنما هي جماعة إصلاحية ترفع في بعض الأحيان شعارات سياسية وخطابا مشحونا بالعواطف وعالي السقف لا يناسبان طبيعتها ومرادها. إن الجماعة، كما يقول الباحث محمد الطوزي في حوار سابق مع إحدى الصحف، “حليف موضوعي للدولة المغربية ولاستقرار البلاد”، مضيفا أنه “لا خوف من الجماعة على الاستقرار أبدا، بل هي حليف موضوعي للنظام في حفظه” (حوار أجرته معه صحيفة “اليوم 24” بتاريخ 02/06/2020).

حكومة أخنوش فاصل سياسي في انتظار نضوج/فساد التفاحة:
إن قراءة تاريخية تحليلية للأحداث السياسية منذ الاستقلال تؤكد قدرة النظام على صناعة الظروف الخاصة بسياساته وإدارة الصراع مع خصومه ومنافسيه، بدءا بحركة المقاومة الوطنية وجيش التحرير، ثم حزب الاستقلال، بشقيه المحافظ والتقدمي، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ثم الجيش، ثم الشبيبة الإسلامية، ثم حزب العدالة والتنمية، واليوم جماعة العدل والإحسان، وكان عامل الوقت بالنسبة له هو الأداة الاستراتيجية لتطويع وتليين مواقف الخصوم السياسيين وضربهم من الداخل عبر آليات الاستفتاء والانتخابات والأزمات والأحداث الاجتماعية، مثل أحداث الريف، وأحداث الدار البيضاء، وحدث حالة الاستثناء، وأحداث الانقلابات العسكرية، وأحداث مولاي بوعزة، وحدث المسيرة الخضراء، إضافة لأحداث أخرى شهدت قمعا ممنهجا في حق المعارضة اليسارية والإسلامية وعموما غضب الشعب كما حصل في فاس والحسيمة والعيون وجرادة وبركان وسيدي إيفني.

بعض هذه الأحداث يكون فيها النظام هو من يختار التوقيت لاتخاذ القرار في صراعه مع خصومه ليفرض عليهم إرادته وقراراته، مستعملا بإتقان لعبة العصا والجزرة لمعرفته الدقيقة بنفسية النخب الحزبية وأطماعها وطموحاتها الشخصية، أو تكون الأحداث انفجرت خارج تحكمه وفي سياق تطورات اجتماعية وسياسية خارجية مثل ثورات الربيع العربي وحراك 20 فبراير عام 2011، فيلجأ مضطرا للانحناء للعواصف وتقديم تنازلات تكتيكية ومرحلية غير ذات قيمة حقيقية، دستور2011 ووصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي لرئاسة الحكومة لولايتين دون التخلي عن السلطة الحقيقية لصالح التغيير، وكل ذلك يتم، للأسف، بدعم إرادي من النخب الحزبية من كل ألوان الطيف.

كانت حكومة العدالة والتنمية، 2012-2021، ظرفا اضطراريا فرضته سياقات دولية وإقليمية أكثر منه استجابة للاحتجاجات المحلية، وظن خصوم النظام بأنهم كسبوا جولة في الصراع وبأن ما حصل عام 2011 لن يسمح للسلطة بأن تعود لما كانت عليه قبل هذا التاريخ، لكن الواقع والتطورات أكدت فشل هذا التوقع وأبانت عن قصور وضعف نظر الأحزاب والقوى السياسية، وذلك لأن أي تحرك من داخل منظومة الحكم ووفق شروطه وقواعده، باسم التغيير من الداخل، لن يحقق أي شيء، بل بالعكس من ذلك، حيث وصل المشهد الحزبي، بعد عشر سنوات من حراك 20 فبراير، إلى حالة من الموات والضعف والهزال، وأصبح للنظام اليد العليا والكلمة الفصل حتى في اختيار رؤساء الأحزاب وتحديد موقعها بين المعارضة والموالاة، مثلما جرى مع أحزاب الاستقلال والعدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة والاتحاد الاشتراكي والأحرار بالأمس، واليوم يجري تنفيذ نفس السيناريو في الحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية والحزب الوطني الحر، وغدا في جماعة العدل والإحسان.

ومثلما كانت حكومة العدالة والتنمية وضعا استثنائيا تكيفا مع هزات الربيع العربي وهبوب تيارات الحركات الإسلامي من طنجة إلى جاكارتا، فإن حكومة أخنوش اليوم هي مجرد فاصل سياسي لما بعد الحكومة “الملتحية”، بتعبير وزير الأوقاف الراحل عبد الكبير المدغري في كتاب حمل نفس العنوان، في أفق ترتيبات سياسية داخل بيت الحكم وداخل المجتمع وفي العلاقة مع عواصم غربية لها صلة بهذه الترتيبات محليا وإقليميا، خاصة فيما يتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني على أوسع وأعمق نطاق وبالصراع مع النظام الجزائري والوضع في ليبيا وتونس وآثاره الجيوسياسية في منطقتي المغرب العربي والساحل جنوب الصحراء، كما أن الأزمة التي تظهر مؤشراتها مرة أخرى بين النظام وجماعة العدل والإحسان، وقد تكون مفتعلة بهدف الضغط والابتزاز، وما تشهده الجماعة من أزمة هوية وتوجه ومشروع هي الأولى من نوعها، أطرافها قيادات وطنية وإقليمية فصلت تعسفيا من طرف بعض قادة التنظيم بسبب انتقاداتها لوضع الجماعة وخياراتها العامة بعد رحيل مرشدها ومؤسسها عبد السلام ياسين وما تركه من فراغ رمزي في القيادة وفي الإنتاج الفكري وصراع بين جناحين يمثلان حالة الجماعة، جناح صوفي طرقي لازال يرى في المرشد، كقائد ومصحوب ميت، طوق نجاة من حالة الانجراف والانسلاخ، وجناح سياسوي انتهازي و”وقوعي” يسارع الزمان لخوض نفس تجربة “إخوة” العدالة والتنمية، ولما لا، فقد سبقهم اليسار والإسلاميون إلى المناصب والمكاسب على مدى أزيد من ثلاثة عقود، ويزعمون بأنهم حالة استثنائية لن يقعوا فيما وقع في من سبقوهم. تلك أمانيهم وشعارات زائفة تغلف حالة من الطمع في عوائد السلطة والمال باسم الدين.

لا أعتقد أن حكومة أخنوش ستعمر، وقد تكون هناك انتخابات سابقة لأوانها بسبب تطورات مجتمعية قوية وجذرية، إلا إذا طالت المفاوضات بين السلطة والجماعة حول بعض الجزئيات، كل طرف يرى على أنها جوهرية وليست هامشية، مثل مسألة الشرعية وإمارة المؤمنين وشروط تأسيس الحزب والفصل بين الدعوي والسياسي وبعض التفاصيل حول حجم المشاركة في العملية الانتخابية، بل إن هذه الحكومة لم تأت لتعمر، وإنما كانت مهمتها، كما كانت مهمة الأصالة والمعاصرة من قبل في انتخابات 2016، هي القضاء على العدالة والتنمية وإزاحة “الإسلاميين” من المشهد الحكومي والسياسي وإغلاق قوس الربيع المغربي، 2011، الذي تصدر فيه حزب العدالة والتنمية المشهد السياسي وترأس حكومتان متتاليتان، 2012-2021، بالرغم من أنه حارب حركة 20 فبراير وواجهها خدمة للسلطة، وهي ظاهرة غريبة جديرة بالدراسة في بيئة سياسية علا فيها صوت الشرعية الجماهيرية والاحتجاجية. لقد أدركت السلطة بعد انتخابات الثامن من سبتمبر الأخيرة والتطورات الدولية والإقليمية بأن أجل الإسلاميين لم يحن بعد، وبأن دورا مهما لازال ينتظرهم لتواجه بهم الدولة الموجة الثانية من انتفاضة الشعب الحتمية ليس فقط في المشهد الاجتماعي المغربي، وإنما عبر الجغرافيا العربية والعالمية.

حالة أخرى تثير تساؤلات عميقة ومهمة، لماذا أداء السلطة بهذا الارتباك الحاد والأزمات المتتالية، وطنيا ودوليا، ما إن تدخل في أزمة حتى تتورط في أخرى، حتى أصبحت في خصومة وصراع مع المجتمع بكل فئاته وشرائحه ونخبه غير المهيكلة، سلطة اجتمع بين يديها هيمنة مطلقة، عبر حلفائها الثالثة، حزبان إداريان وحزب الاستقلال يلعب دور “التبييض السياسي”، هيمنة شملت الحكومة والبرامان بمجلسيه والجهات وأغلب المجالس الجماعية والقروية ومجالس العمالات والأقاليم والغرف، يدعمها إعلام موال بعد أن أسكتت جميع المنابر الإعلامية المستقلة وفتحت السجون أمام معارضيها من صحفيين وحقوقيين ونشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي؟

ألا يكفيها كل هذا الاستحواذ والسيطرة شبه المطلقة على مؤسسات الدولة والمجتمع، أم أنها طبيعة السلطة المطلقة التي تنتج حتما مفسدة مطلقة؟ وأين يوجد مركز هذه السلطة المطلقة، هل في الملكية أم في هوامشها، في مراكز نفوذ وتأثير خارج المؤسسة الملكية؟ وما تأثير هذا الخلل في توزيع/احتكار السلطة على استقرار الملكية ومستقبلها؟ وهل حاجة السلطة لجماعة العدل والإحسان تكتيكية، كما كان حزب العدالة والتنمية، لمواجهة الربيع المغربي في صيغته الثانية وحقبته الزمنية الجديدة، 2021-2031، ومن قبله الاتحاد الاشتراكي، لإنقاذ النظام من “السكتة القلبية”، لمواجهة الغضب القادم وتأمين انتقال الحكم بسلاسة وسلامة، أم أنها استراتيجية لضمان شبكة أمان بعيدة المدى بعد أن تنتزع من الجماعة كل ما من شأنه أن يهدد الملكية في شرعيتها الدينية وتفقد الجماعة عمقها الاجتماعي الحاضن؟

* الدكتور علاء الدين بنهادي / باحث في التاريخ السياسي المغربي وحركات التغيير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *