أخبار الساعة

منها الفلفل الحار .. علم النفس يفسر حبك للأطعمة الحارة

يختلف أفراد الأسرة الواحدة في موقفهم من أكل الأطعمة الحارة، مثل الفلفل الأحمر، فبينما يتلذذ بها البعض ويعشقها، ويحرص على توفير أشدها حرا، وقد يتجهم من غيابها على مائدة الطعام، ينفر منها البعض الآخر ويحتاط من أن تقع في فمه، مستغربين تحمل الآخرين شدة حر أكلاتهم الحارة المفضلة.

وهذا التباين في الموقف من الأكلات الحارة، ودرجة ميل الناس إليها لا ينظر إليه علماء النفس على أنه اختلاف في السلوك أملته ثقافة الأكل وعاداته، بل يرون فيه مؤشرا على نوع شخصية محب الأطعمة الحارة.

الفلفل يفرق

في أحد الأحياء الجميلة في العاصمة التركية أنقرة، امتزجت أصوات الحماس برائحة الطعام الشهية استعدادا لتقديم وجبات الإفطار في مطعم قرَّر يومها أن يحتضن الفلسطينيين مؤنِسا وحشتهم في رمضان عام 2019، حسب “الجزيرة نت”، وما إن ارتفع صوت أذان المغرب حتى شرع الصائمون في تناول أطباق الأرز الشهية التي قضى الطاهي نصف يومه في تحضيرها، لكن سرعان ما انقسم هؤلاء الصائمون إلى فريقين، أحدهما يُشير إلى أن الطعام حار نوعا ما، والآخر يطلب مزيدا من الفلفل الأحمر، وخلال ثوانٍ عرف كل شخص ما إذا كان مجاوره ينتمي إلى غزة أم إلى الضفة، فتعالت أصوات الضحكات، قبل أن يتبادل الحضور النكات حول حساسية الفريق الأول وجبروت الفريق الثاني.

لم تكن مائدتنا الوحيدة هي التي تشهد هذا الجدل، فأينما حضر الفلفل، انكشف الغطاء عن محبين وكارهين، ومتعجِّبين ومستنكرين لما يحدث، حتى انقسمت خارطة العالم إلى فِرَق مؤيدة وأخرى مُعارِضة للمسحوق الأحمر الملتهب. تختلف معدلات تناول الأطعمة الحارة بين الدول، ففي كوريا مثلا يصل استهلاك الفرد من الفلفل الأحمر يوميا إلى 8 غرامات، بينما يغيب مع جميع البهارات الحارة عن موائد 90% من أفراد الشعب الأميركي.

مفيد أم مضر؟

تُعَدُّ المكسيك وبعض دول جنوب آسيا الموطن الرئيسي لثمار الفلفل الحار، في حين لم يتعرَّف بقية العالم إليها إلا بعد عام 1500. تحتوي هذه الثمار على مستويات مرتفعة من فيتامين “ج” وفيتامين “أ” ومجموعة من أقوى مضادات الأكسدة، ومعدلات منخفضة من السعرات الحرارية، ويلجأ إليها البعض لتسريع عمليات “الأيض الحيوي” لتسهيل فقدان الوزن، لكن هذا لا يُغني عن نظام غذائي متزن، فالفلفل وحده ليس حلا.

تشمل قائمة فوائد الفلفل الصحية أيضا خواصه المضادة للالتهابات، ومساهمته في تقليل وفيات أمراض القلب والأوعية الدموية، فضلا عن الحماية من الطفيليات المُسبِّبة للأمراض المُعدية، وبينما يُنصح بعض الأشخاص كالحوامل ومَن يعانون من قرحة المعدة أو متلازمة القولون العصبي بالبُعد عن تناول الأطعمة الحارة والفلفل تحديدا، لا تزال الصورة غير مكتملة فيما يخص تأثير الفلفل والأطعمة الحارة على الجهاز الهضمي، وهناك تضاد في الحجج العلمية المتوفرة بين مَن يؤكِّد تأثير الفلفل السلبي على الجهاز الهضمي ومَن ينفي ذلك.

إضافة إلى ذلك، تختلف تفضيلات تناول الفلفل بين الأشخاص أنفسهم، فهناك مَن يأكل الفلفل وهناك مَن لا يأكله تماما، وهناك مَن يأكله بكميات أكبر أو كميات أقل، وبتحليل العوامل المؤثرة في إقبال الأشخاص على تناول الأطعمة الحارة، نجد أنها تتنوَّع بين العوامل الجينية والفسيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية. فعلى صعيد العوامل الجينية، قد يتأثر الإقبال على تناول الأطعمة الحارة بتشريح الفم وحاسة التذوق، بينما يُشير علم وظائف الأعضاء إلى أن التناول المستمر للفلفل يؤدي إلى التكيُّف معه وتقليل الشعور بالاحتراق، وقد لوحظ في حالة الفلفل نمط مشابه لما يحدث عند تناول “الكافيين”، فبينما تُسبِّب هذه المادة ارتفاع ضغط الدم فإن تأثيرها يقل بعد أيام من استمرار تناولها، وهذا ما يحدث مع الفلفل، فالشعور بـ”الاحتراق” أو حرارة الفلفل يقل مع استمرار تناوله بسبب التكيُّف.

بمَ يخبرنا الفلفل عن شخصيات محبيه؟

حسنا، لا يقتصر الجدل الدائر حول الفلفل على الفائدة أو الضرر. وتاريخيا، اعتُبر تناول الفلفل والأطعمة الحارة دليلا على المكانة الاجتماعية المرموقة، في حين نظرت بعض المجتمعات إلى الأشخاص القادرين على تناول الأطعمة الحارة جدا بوصفهم أكثر “ذكورة”، خاصة في البلدان والثقافات التي لم يشع فيها إضافة الفلفل إلى الطعام كالولايات المتحدة. وقد حاول الباحثون على مدار سنوات طويلة استكشاف الرابط بين حب وتناول الفلفل الحار والسمات الشخصية للأفراد، وبرزت في هذا السياق الكثير من الفرضيات.

على سبيل المثال، وصف “بول روزن” (Paul Rozin)، بروفيسور علم النفس بجامعة “بنسلفانيا” (University of Pennsylvania) حب الأشخاص للأطعمة الحارة (المنكهة بالفلفل) بـ “المازوخية/الماسوشية الحميدة”. وتُطلَق الماسوشية عموما على تلذُّذ الأشخاص بالألم، وقد استخدم وصف المازوخية الحميدة لوصف حب الأشخاص للفلفل أو الأطعمة الحارة في إشارة إلى استمتاعهم بالألم الناجم عن تناول هذه الأطعمة.

يأتي استخدام المفردة “الحميدة” للإشارة إلى الضرر البسيط الذي قد يُحدثه تناول الفلفل الحار الناتج عن استجابة الجسم للحرارة التي يُسبِّبها الفلفل، مثل تقرحات الفم أو غير ذلك. أما عن سبب بناء الأشخاص لهذه العادة المؤلمة، فقد يكون الشخص أُجبر على ذلك لمجاراة شخص تناوله أمامه رغبة في الانضمام إليه، أو فعلها بدافع الفضول، وبمرور الوقت يتعلَّم العقل والجسد كيفية التكيُّف مع الأطعمة الحارة بل وحتى الاستمتاع بها.

استكمالا لفرضية المازوشية وما يتصل بها من السعي وراء المغامرة، يوضِّح البروفيسور “بول” أن الطعم الحار للفلفل أو “الاحتراق الفموي” الذي يُحدثه قد يؤدي إلى إفراز “أفيونات الجسم” كما يمكن تسميتها، ومن بينها هرمون “الأندورفين” الذي يعمل مسكنا للألم يشبه في تأثيره المُخدِّر، حيث يُحسِّن المزاج ويُكسِب الشخص شعورا بالسعادة. ولكن بين الشعور بالسعادة والرغبة في إثبات الذكورة تأتي المفاجأة بأن كلا التأثيرين يظهر في المجتمعات غير المعتادة على تناول الفلفل، فبينما يفتخر رجل في الولايات المتحدة بقدرته على تناول الفلفل وتحمُّل حرارته دليلا على قوته الذكورية، لا يأبه مكسيكي كثيرا لذلك، حيث يُعَدُّ المسحوق الأحمر جزءا معتادا من غذائه.

يرى باحثون آخرون أن حب تناول الفلفل والأطعمة الحارة يعكس سعي الشخص وراء الإثارة فيما يُعرف بـ “Sensation Seeking”، وهو ميل لدى الأشخاص للسعي وراء التجارب أو المشاعر الجديدة في سبيل تحقيق المتعة والسعادة وتعزيز الشعور بالذات. أما عن علاقة الفلفل بالسمات الاجتماعية، تُشير أدلة بحثية قليلة إلى ارتباط حب الفلفل بالشخصيات الاجتماعية، وعدم تفضيله من قِبَل الشخصيات الانطوائية، لكن هناك أدلة أخرى تُعارِض وجود هذه الصلة، وتُشير إلى دور الثقافات في تعزيز حب الفلفل بين الأشخاص، فهو جزء من ممارسات احتفالية ودينية في كثير من المجتمعات.

حوافز غريبة

سِمَة شخصية أخرى أُشير إليها وهي الحساسية للحوافز (Reward Sensitivity)، التي تعكس إلى أي مدى يمكن أن يستجيب الأشخاص لمُحفِّز متصل بحافز (يمكن اعتباره الجائزة)، أو ما يُعرف بميول الفرد للكشف عن وتتبُّع والحصول على المتعة من مؤثر أو مُحفِّز إيجابي.

ترتبط تفضيلات الطعام الحار أيضا بسلوكيات المخاطرة، وبحسب مجموعة من الباحثين في جامعة “نانجينغ” (Nanyang University) الصينية، فإن هناك علاقة بين المخاطرة بوصفها سِمَة شخصية وتناول الطعام الحار قد تنتج من السعي وراء الحوافز الجديدة، فاستقبال العقل للخطر يُحفِّز إفراز الناقل العصبي الدوبامين (يُسبِّب الشعور بالسعادة)، حيث يعمل العقل في هذه الحالة استعدادا للحصول على الحافز الناتج عن المخاطرة. وتختلف المخاطرة هنا عن السعي وراء الإحساس في كونها تتضمَّن اتخاذ قرارات بتقبُّل المخاطر التي تتضمَّن خسائر تتراوح بين الصغيرة كخسارة بعض المال وحتى الخسارات الفادحة كفقدان أحد أطراف الجسم، وذلك عندما يُحقِّق القرار فائدة تفوق الخسارة من وجهة نظر المُخاطِر.

أشار البحث أيضا إلى أن تناول الأطعمة الحارة يزيد من ممارسة سلوكيات المخاطرة، لكن هذه النتائج لا تعطي صورة واضحة عن نوع المخاطر التي يمكن خوضها، كما أن هناك احتمالا بأن وجود هذه السلوكيات مرتبط بتفضيل الأطعمة الحارة وليس العكس. أشارت الدراسة نفسها أيضا إلى أن ثقافات مختلفة حول العالم تنظر إلى محبي الطعام الحار بوصفهم أكثر مخاطرة من أقرانهم الذين لا يشاركونهم هذا التفضيل، أما في الصين فيُنظر إليهم بوصفهم شجعانا وطيبين لكنهم سريعو الغضب.

لم يُحيِّرك المسحوق الأحمر الحار وحدك إذن، ولكنه حيَّر الباحثين أيضا. على مدار سنوات، سعى العلم إلى استكشاف العلاقة بين حب الأطعمة الحارة وبين بعض السمات الشخصية. لا تزال الكثير من هذه الروابط ظنية إلى حدٍّ كبير وغير مؤكَّدة، ولكننا أحببنا أن نشاركك إياها. وفي النهاية نطرح عليك سؤالا: إذا كنت من محبي الطعام الحار، فهل تعتقد أن ما طرحناه في السطور السابقة ينطبق عليك؟

—————————————————————————-

المصادر

  1. Spicy foods: To eat, or not to eat
  2. تريد أن تعيش أطول؟ عليك بالفلفل الحار
  3. Sensation-Seeking
  4. Reward sensitivity, affective neuroscience personality, symptoms of attention-deficit/ hyperactivity disorder, and TPH2-703G/T (rs4570625) genotype
  5. Why is piquant/spicy food so popular?
  6. Comparison of sensory, physiological, personality, and cultural attributes in regular spicy food users and non-users
  7. Personality factors predict spicy food liking and intake
  8. The potential relationship between spicy taste and risk seeking
  9. Sensation seeking and risk-taking

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *