مجتمع

بروايات العلم والفلسفة والدين .. قصة التقويم في محاولة من البشر لترويض الزمن

تعج الثقافة البشرية بعدد من التقويمات التي جسدت سعي الإنسان الدائم إلى ضبط الزمن وتطويعه لما ييسر معاشه ويحقق سعادته، أو يعطيه ميزة حضارية بخلفية سياسية أو دينية.

والتقويم هو نظام عد زمني لحساب تواريخ الأيام وكذلك تنظيمها لأغراض اجتماعية أو دينية أو تجارية أو إدارية، حسب ويكيبيديا. ويتم ذلك بناء على معايير مختلفة في التقاويم المختلفة ويتم في كل من تلك التقاويم إعطاء أسماء معينة لفترات من الزمن، عادة تكون أياما أو أسابيع أو شهورا أو سنوات. وحسب نفس المصدر، عادة ما تكون تلك الفترات (مثل الأشهر والسنين) متزامنة مع دورة الشمس في السماء أو بالأدق موقع الارض في مدارها حول الشمس أو متزامنة مع ميلاد ونهاية القمر كما أن هناك تقاويم تعتمد على دورتى القمر والشمس معاً، ولكن ليس بالضرورة أن تعتمد كلها على الشمس والقمر، فهناك تقاويم تعتمد على كواكب أخرى معينة، وغيرها مالا يعتمد على أي عامل واضح.

تعاقب الليل والنهار.. منطلق الإنسان الأول لفهم الزمن

منذ القدم واجه الإنسان الأول الزمن بريبة كبيرة، حسب الجزيرة نت، فكان بالنسبة إليه في بادئ الأمر قوة غامضة تنشر النور ثم تسدل الظلام، وكان تعاقب تلك الحركة منطلقا لفهم الزمن.

يقول عالِم الرياضيات “فرانسوا بلوندال” -الذي عاش في القرن السابع عشر- في كتابه “أصول وتاريخ الروزنامة الرومانية”: إن أول ما شدّ نظر الإنسان وفاجأه هو ذلك الشيء المختلف الواضح الذي يظهر دائما أمام أعيننا، وهو تعاقب النور والظلام الذي تسببه الحركة السريعة للشمس حول الأرض، وهو ما مكّن الإنسان من تقسيم ما يُعرف باليوم إلى قسمين وفق دورة كاملة للشمس حول الأرض، وهما الجزء المضيء الذي يُسمى النهار، والجزء المظلم الذي يُسمى الليل. وفي ذلك الوقت كان يرى العالَم أن الشمس هي التي تدور حول الأرض.

ويقول الأنثروبولوجي البريطاني “ريتشارد رودغلي” في كتابه “حضارات العصر الحجري الضائعة”: تطورت حاجة الإنسان إلى فهم الزمن وتحديده منذ عصور ما قبل التاريخ، حتى أصبحت تلك الحاجة رغبة كبيرة في استئناس الزمن وترويضه، وقد تكون سبقت ما يُعرف باستئناس النبات والحيوانات في العصر الحجري الحديث، فالوعي بالزمن بالقدر ذاته مع المكان بدأ بالوعي بالليل والنهار والفجر والمغرب، وكان بالضرورة جزءا من ملاحظات الإنسان الأول في ذلك الوقت، كما كانت معرفة الفصول ذات أهمية كبيرة في العصر الحجري القديم والأوسط.

لكن ذلك المسار الطويل لتقسيم الزمن -أو ما يُصطلح على تسميته بالتقويم- لم يكن كافيا للإنسان رغم تطوره  ليوحّد قواعد تجزئة الزمن، فقد حكمت الثقافات والأديان تلك القواعد، فاختلفت التقويمات حسب الثقافات، وكان يمكن أن تجمّد تلك الاختلافات تطور الحضارات لولا التقسيم الجزئي لليوم الذي يرتكز أساسا على وحدة تسمى الثانية.

ففي تمجيده لذلك الجزيء الصغير من الزمن يقول “المكتب الدولي للأوزان والقياسات” في إحدى نشراته: إن العمل التجريبي قد أظهر فعلا أن المعيار الذري للفاصل الزمني بناء على الانتقال بين مستويين من الطاقة (الذرة أو الجُزَيء) يمكن تحقيقه وإعادة إنتاجه بدقة أكبر، ولنضع في اعتبارنا أن التعريف الدقيق للغاية للوحدة الزمنية أمر لا غنى عنه للعلم والتكنولوجيا.

فلولا تقسيم الزمن لما تمكن الرحالة “فرناندو ماجلان” مثلا من أن يكمل دورته حول الكرة الأرضية في النصف الأول من القرن السادس عشر، حيث وجهت 18 ساعة رملية كل سفينة أبحرت معه لاستكشاف الأرض.

ضبط الزمن.. آثار معضلة أرقت الحضارات القديمة

يرى علماء القرون الوسطى أن الإنسان كان قد بدأ بالتعامل مع الزمن، ووضع تقويما وفقا لحركتي القمر والشمس في مرحلة متقدمة نسبيا، وهي مرحلة الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويقول عالم الرياضيات والمعماري “فرانسوا بلوندال”: من المرجح أن المصريين الأوائل والآشوريين كانوا قد قسموا الزمن إلى سبعة أجزاء، أو ما يعرف الآن بالأسبوع، والعبرانيون أيضا قسموا الزمن إلى سبعة، وذلك وفقا لقانون إلهي بالامتناع عن العمل في اليوم السابع، حتى يتذكروا جيدا لغز خلق العالم.

لكن اكتشافات مذهلة أثبتت أن إنسان العصر الحجري القديم العلوي استعمل رزنامة وتقويما قسّم به القمر منازل، ويقول عالم الآثار “فيتالي لاريشاف” إن القطع الأثرية السيبيرية التي عُثر عليها هي رزنامة قمرية وشمسية ترجع إلى 22 ألف سنة، أو ربما إلى 36 ألف سنة خلال العصر الحجري القديم العلوي.

ويرى الأنثروبولوجي “ريتشارد رودغلي” أن الإنسان البدائي في العصر الحجري المتوسط قد استعمل العظام لقياس الزمن. ويقول: يعتقد أن العلامات المحفورة على العظام التي اكتشفت في الكونغو، وتعود إلى العصر الحجري المتوسط، حوالي 8500 قبل الميلاد؛ كانت تحمل معنا وهدفا محددا للغاية، فهي علامات زمنية، فبمقارنة العلامات على العظام وتجميعها مع مراحل دوران القمر تبدو تلك العلامات متطابقة مع الدورة القمرية. إن هذه الأداة العظمية يمكن أن تكون دليلا على تدوين دورة القمر التي وقع التعرف عليها، من خلال وضعها في مجموعات مع فواصل أو علامات خاصة تشير إلى مرحلة من الدورة القمرية.

وبتطور الإنسان زادت حاجته إلى ضبط تقويم دقيق في فترة مبكرة جدا من وجود الإنسان، وغالبا ما كانت تلك الحاجة مرتبطة بالزراعة، فالبحوث التاريخية أثبتت أن المهارة والتقاليد الفلكية موجودة في أوروبا مثلا قبل العصر الحجري الحديث، وأن تبنّي أسلوب الحياة الزراعية جرى التمهيد له بمساعدة التقويم الاقتصادي و”الطقسي الموسمي” لصيادي العصر الحجري القديم.

حضارة الفراعنة.. أول من وضع التقويم وصنع الساعة

بدا أن الإنسان العاقل قد فهم معنى الزمن على أنه تعاقب دوري ومتجانس في الحياة، فأفلاطون مثلا وصف الزمن بأنه “فترة حركة الأجسام السماوية”، وتذكر نصوص “فيدا” الهندية (نصوص فلسفية مقدسة هندوسية عمرها 3500 عام تقريبا) أن الكون يعيش دورة متجانسة، تبدأ من الخلق ثم الفناء ثم البعث، وتدوم كل دورة أكثر من 4 مليون سنة.

ويبدو أن الإنسان في ذلك الزمن البعيد قد بدأ يربط الزمن بقوى ما وراء الطبيعة، لكن عينيه لم تفارقا السماء، وظلت النجوم والأقمار محددة للتقسيم الزمني الذي يعرف بالتقويم أو الرزنامة، فأول رزنامة واضحة تعود إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد، حيث اكتشفت في جنوب مصر في “نبتة بلايا”، واعتمد ذلك التقويم على حركة القمر، فكان من الممكن إضافة أيام أو شهور حتى تتلاءم مع الفصول.

بتطور الإنسان وتنظمه ضمن مجموعات والاعتماد على الزراعة كنظام إنتاج، بدأت كل حضارة بخط رزنامتها الخاصة، وبنت اختلافاتها على اعتبارات متشابكة، فالفراعنة هم أول من وضع التقويم، وقسموا الزمن إلى أشهر وأعوام وأيام وساعات، بناء على مواسم الزراعة وجمع المحاصيل بالأساس، والفراعنة هم أول من وضع التقويم بدقة بعد أن اخترعوا آلة لقياس الوقت تُسمى المزولة منذ أكثر من 3500 عام، وهي تعمل على نظام أجزاء اثني عشرية، كما أن أقدم وأدق ساعة مائية تعود إلى الفراعنة، واكتشفت في قبر الفرعون “أمنحتب”.

تنقسم السنة المصرية في ذلك العصر إلى 13 شهرا، معدل طولها ثلاثون يوما باستثناء الشهر الأخير الذي يمتد على خمسة أيام فقط، أما شعوب المايا القديمة التي ظهرت قبل أربعة آلاف سنة من الآن، فقسمت السنة إلى 18 شهرا، طول الشهر فيها 20 يوما، واعتمدت تلك الشعوب القديمة على تقويمين، الأول يستند إلى اعتبارات دينية يسمى “تزوكين”، والثاني مدني يسمى “هاب”، ويتكون من 360 يوما، وتنقسم إلى 18 شهرا تختلف عدد أيامها، وتُضاف إلى ذلك التقويم خمسة أيام، وهو ما يعني أن ذلك التقويم يعتمد على حساب فلكي، رغم أن الرزنامة وتقسيم الزمن لدى تلك الشعوب قائم على نظرة ميتافيزيقية للكون المقسم إلى تسعة منازل حسب معتقدهم.

“إن ما نسميه تقويما أو رزنامة ليس سوى تقسيم سياسي للزمن، وقد وضعه أشخاص استنادا إلى حاجات معينة. وأنا أسميه سياسيا لأنه ينتمي أساسا إلى كل ما هو بشري، ولأن التقويم يختلف حسب الأمم، ويحتسب بالسنوات حسب حاجيات مختلفة، ونسميه بالعصور المقسمة إلى أجزاء تختلف من أمة إلى أخرى”.

إن هذا التوصيف هو اختزال عالم الرياضيات “فرانسوا بلوندال” لاختلافات التقويم الزمني الذي عرفه الإنسان منذ تشكل وعيه، وهو توصيف منصف ومنسحب على أدق التقويمات، فأعرق الحضارات ربطت تقسيمها للزمن بالسياسة والدين أساسا، بدءا من الحضارة الرومانية، وصولا إلى التقويم العبري والإسلامي والغريغوري المعروف بالميلادي.

التقويم الروماني.. تاريخ بين سلطة الأباطرة ورجال الدين

اختار الرومان تقسيمهم للزمن على القمر في القرن السابع قبل الميلاد، وكانت أول رزنامة مع الإمبراطور الروماني “نوما بومبيليوس”، وتكونت السنة الرومانية من 304 أيام، وقسمت إلى عشرة أشهر فقط، ومنها استمدت الأشهر سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر أسماءها، وكانت بداية السنة الرومانية القمرية في شهر مارس وتتوقف عند شهر ديسمبر، في حين تبقى المدة التي تفصل بين شهري مارس وديسمبر فارغة، ويبدأ عدّ السنوات من تاريخ نشأة روما في القرن السادس قبل الميلاد.

خضع التقويم الروماني إلى تأثير أدى إلى تغيير عدد أشهر بداية السنة وترتيبها في كل مرة، وقد تأرجحت بين مارس/آذار ويناير/كانون الثاني طيلة أكثر من خمسة قرون، فحوالي العام 700 قبل الميلاد أدت فجوة بين التقويم المعمول به آنذاك وبين الفصول إلى قيام الملك الروماني “نوما بومبيليوس” بإضافة شهري جانواريوس (يناير – 29 يوما) وفبراريوس (فبراير – 28 يوما)، وكان جانواريوس مخصصا للإله الذي يحمل ذلك الاسم، وهو إله المداخل والبوابات، وكان شهر فبراير يسبق شهر يناير في ذلك الوقت. وفي القرن الثاني قبل الميلاد نُقل بداية العام من مارس إلى يناير.

في الواقع، كانت الحياة السياسية في زمن الإمبراطورية الرومانية نشيطة، وكان موعد انتخاب القناصل هو السبب في اتخاذ قرار في العام 153 قبل الميلاد ليصبح شهر يناير هو بداية العام، حتى تكون السنة متوافقة مع ولايتهم، عوضا عن شهر مارس الذي يوافق احتفالا دينيا على شرف إله الحرب “مارس” كما كان التقليد.

كانت سلطة زيادة ما يسمى بـ”الشهر المُقحم” (وهو أيام تضاف إلى شهر فبراير كل سنتين زوجيتين) بيد رجال الدين الذين كانت قراراتهم مدفوعة في أغلب الأحيان باعتبارات سياسية أكثر من كونها اعتبارات فلكية، فخلّف ذلك اضطرابا في ملاءمة الأشهر مع الفصول، لذلك قام “يوليوس قيصر” في العام 46 قبل الميلاد بإصلاح هذا التقويم بمساعدة عالم الفلك “سوسيجينس” الإسكندري، وأضاف تسعين يوما لذلك العام حتى يتماشى التقويم مع الفصول، حتى بلغ عدد أيام تلك السنة 445 يوما.

استفاد “يوليوس قيصر” من الرزنامة المصرية، فوضع ما يعرف بالتقويم “اليولياني” المقسم لـ365 يوما، وسنة يُضاف لها يوم في شهر فبراير كل أربع سنوات، وهي ما يعرف بالسنة الكبيسة.

وفي سنة 8 قبل الميلاد فرض “أغسطس قيصر” تعديلا على التقويم “اليولياني”، وأمر بإلغاء كل عمليات الإقحام في شهر فبراير التي قام بها رجال الدين كل ثلاث سنوات عوضا عن أربع سنوات، وفرض التقويم “اليولياني” في كل الإمبراطورية الرومانية، وظل ذلك التقويم ساريا إلى غاية القرن السادس عشر الميلادي.

التقويم الميلادي.. فوضى الرهبان تفسد حساب التاريخ

اعتمد “التقويم اليولياني” على التقويم الروماني القديم الذي يعتبر سنة تأسيس روما بداية للتاريخ، لكن في منتصف القرن السادس الميلادي دعا الراهب الأرمني “ديونيسيوس” الصغير إلى تغيير التقويم، ليكون تاريخ ميلاد المسيح بداية التقويم لدى المسيحيين، وذلك بعد أن توصل إلى تحديد تاريخ ميلاد يسوع في 25 ديسمبر/كانون الأول من العام 753 منذ تأسيس روما. وحتى نهاية القرن التاسع الميلادي، لم يكن التقويم المسيحي الجديد واسع الانتشار، لكن مع انجراف التقويم اليولياني بفارق ثلاثة أيام عن الفصول والاعتدال الربيعي في أربعة قرون، مما سبب خللا في مواعيد عيد الفصح وميلاد المسيح.

أمر مجمع “ترنت” البابوي بحل تلك المشكلة، واجتمعت لجنة مؤلفة من كاردينالات وعالم الرياضيات الإسباني “بيدرو شاكون” برئاسة الكاردينال “غوغلييمو سيرلتو “، وتقرر في العام 1582 إزالة عشرة أيام من شهر أكتوبر/تشرين الأول حتى تستعيد الفصول تزامنها مع الأشهر والمواعيد الدينية، وأصبح اليوم الموالي ليوم الخميس الرابع من أكتوبر؛ هو يوم الجمعة الخامس عشر من أكتوبر، وأصدر البابا “غريغوريوس الثالث عشر” أيضا أمرا بإزالة ثلاث سنوات كبيسة خلال أربعة قرون.

كان أمر البابا “غريغوريوس الثالث عشر” الذي يُنسب إليه التقويم الغريغوري مُطاعا، غير أنه واجه مقاومة خاصة من الكنيسة الكاثوليكية الشرقية والكنيسة الأرثوذكسية التي استمرت في الاعتماد على التقويم “اليولياني”، حتى أن الفارق بين الاحتفال بميلاد المسيح باعتماد التقويمين يصل إلى 13 يوما.

لم تحسم سلطة البابا بسهولة توحيد التقويم، فقد سبق قراره تقليدا سار عليه الملوك، ففي القرن الثامن الميلادي زمن حكم “شارلمان” مثلا، كان العام الجديد يبدأ في عيد ميلاد المسيح، واستمر ذلك حتى القرن الثاني عشر، وفي القرن التاسع الميلادي استخدمت دول جنوب أوروبا الخامس والعشرين من شهر مارس/آذار بداية للعام الجديد طيلة قرابة ثلاثة قرون.

في العام 1785 انتفض الفرنسيون على سلطة الكنيسة في علاقتها بتحديد الرزنامة ، فألّف الشاعر الفرنسي “فرانسوا فابر ديجلانتين” ما يُعرف باسم “التقويم الجمهوري”، أو “التقويم الثوري”، أو “التقويم الفرنسي”، وفك الارتباط مع أسماء القديسين في تسمية الأيام، أما الأشهر فارتبطت أسماؤها بالفصول والمواسم الزراعية، فأصبح بموجب مرسوم في 24أكتوبر/تشرين الأول 1793 اسم شهر أيلول هو “فاندمير” (أي موسم  قطف العنب) وهو الشهر الأول من السنة، وكانت أسماء كل الأشهر متطابقة مع الفصل الذي تقابله، فشهر آذار مثلا -وهو الشهر السابع حسب التقويم الجمهوري- أصبح اسمه “جيرمينال” (أي الشهر البرعمي)، ثم أعاد “نابوليون الأول” التقويم الغريغوري في العام 1806.

التقويم اليهودي.. خط زمني من وحي الكتاب المقدس

حسم الكتاب المقدس العبري رزنامة الزمن، وتحددت نقطة بداية الزمان مقارنة بالتقويم الميلادي استنادا إلى خلق الكون، فكان ظهور الهلال الأول (أي اليوم الأول حسب التقليد) يوم الاثنين السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 3761 قبل الميلاد إلى سنة 2021، غير أن تقاويم أخرى استندت إلى أحداث يحفظها التراث اليهودي، فأصبحت قاعدة لاحتساب الزمن، مثل فترات حكم ملوك وأباطرة في فترة الهيكل الثاني التي سبقتها تقويمات تحيل إلى سنوات حكم ملوك وقضاة ذكرهم الكتاب المقدس، وخلال ما يسميه اليهود بثورة “بار كوخبا” التي قاموا بها بين العامين 132-135م ضد الحكم الروماني، فقد أصبحت تلك السنوات تسمى بسنوات “حرية إسرائيل”.

وبعد تدمير الهيكل الثاني -حسب المعتقد اليهودي- استخدم تقويم جديد مرجعه تدمير الهيكل، غير أن اليهود يرجحون دائما التقويم من بداية الخلق، وهو التقويم الذي وضعه “السنهدرين”، وهو مجلس ديني يهودي في القرن الأول قبل الميلاد.

يعتمد التقويم اليهودي على دورتي الشمس والقمر، ويبلغ طول السنة العادية بين 353-355 يوما، في حين تصل السنة الكبيسة ما بين 383 إلى 385 يوما، حيث يضاف شهر كامل إلى السنة يسمى آذار الأول، ويصبح عدد الأشهر ثلاثة عشر شهرا.

يتحكم الكتاب المقدس اليهودي في الرزنامة، فزيادة شهر ورؤية الهلال لتحديد عدد أيام الأشهر خلال السنة وحساب ملاءمة التقويم للفصل يجري بحذر شديد، حتى يصادف عيد الفصح الذي خرج فيه اليهود من مصر موسم الربيع في نيسان، وحتى لا تصادف الأعياد الدينية مثل الفصح ورأس السنة والتي تكون في تشرين يوم الأربعاء أو الجمعة أو الأحد، وذلك وفقا لوصايا الكتاب المقدس.

اليوم الذي يلي الليل”.. عادة مأخوذة من حضارة بابل القديمة

يبدأ اليوم في التقويم العبري بغروب الشمس، وينتهي بغروب شمس اليوم التالي. تسمى تلك الدورة التي تعطي أسبقية المساء قبل الصباح في التقليد اليهودي “اليوم الذي يلي الليل”، لذلك تعني كلمة “مساء السبت” أو “مساء العيد” مثلا اليوم السابق ليوم السبت والعطلة وغروبها وشروقها وليس العكس.

ويرجح أن أصل عادة تحديد بداية النهار في المساء يرجع إلى بابل القديمة، وهو ما جاء في سفر “التكوين” الذي يحدد اليوم وبدايته، فيقول في إحدى آياته “ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا، وكان مساء وكان صباحا يوما واحدا”.

في الماضي كانت المحكمة مسؤولة عن تحديد أشهر التقويم العبري، لكن في العام الميلادي 359 غيّر الحاخام “هليل نصيع” ذلك التقليد، وأصبح تحديد دخول الشهر يتم عبر حسابات فلكية خشية الاختلاف، خاصة بعد انتشار اليهود في أماكن متفرقة من العالم، لكن المتفق عليه هو أن السنة العبرية تبدأ في الخريف في شهر تشرين، أما ما يلتزم به كل اليهود فهو حفظ كلمة الرب التي تقول في الكتاب المقدس “احفظ هلال الربيع واصنع الفصح للرب إلهك، لأنه في شهر الربيع أخرجك الرب إلهك من مصر ليلا”. وبالتالي فإن كل الزيادة والنقصان وقرار رؤية الهلال من عدمها يجب أن تتوافق مع حلول عيد الفصح في نيسان، على أن يكون نيسان متوافقا مع فصل الربيع.

في الواقع لم يكن العبرانيون وحدهم في مأزق عدم توافق الفصول مع الأشهر بسبب اعتمادهم على دوران القمر حول الأرض الذي يسبب اختلالا بمرور الزمن، وتقريبا كل الشعوب التي تعتمد رزنامة قمرية تشترك في ذلك.

التقويم العربي.. اجتماع في مكة لضبط الحج والتجارة

في العام 412 من الميلاد اجتمع سادة القبائل العربية في مكة من أجل الاتفاق على تقويم قمري واحد، وتحديد عدد الأشهر وأسمائها، حتى يتجنبوا انعكاس التباين بين القبائل في شبه الجزيرة العربية في تحديد الأشهر القمرية على موسم الحج والتجارة.

ارتبط التقويم فيما عرف بالعصر الجاهلي بمبدأين مترابطين هما الحج والتجارة، لذلك اتفقت القبائل على ربط التقويم بهذين النشاطين، وحددت أشهرا أخرى سميت بالأشهر الحرم، لأنه يحرم فيها القتال، وهي عبارة عن عقد سلمي يحمي الأمن العام في المحيط الذي تتشارك فيه القبائل.

يذكر الباحث التونسي محمد الحاج سالم المتخصص في علم الأناسة (وهو من المباحث الأنثروبولوجية) في كتابه “من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية، قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى”؛ أن العرب على عكس ما ذُكر من أنهم اتبعوا دورة القمر في تقويمهم الزمني، فقد ساروا نحو النجوم ليجزئوا وقتهم، ولمّا كان للنجوم دور كبير فيما أسميناه العقيدة العربية الصابئية، وما انجر عن ذلك من اعتقاد كان يدعمه الواقع بشأن علاقة تواتر الفصول الطبيعية، وتغيّرات المناخ بتحرك الأفلاك العلوية وظهور مجموعات نجمية في القبة السماوية؛ فقد قام العرب بتقسيم الزمان إلى فترات بحسب تواتر ظهور تلك النجوم التي اعتقدوا أنها المحدثة للظواهر الطبيعية، أي أن ما يحدث على الأرض ليس إلا نتيجة لما يحدث في السماء، ومن هنا فإن أي خلل طبيعي إنما هو نتيجة خلل في السير العادي للنظام الفلكي، أو هو غضب إلهي من تصرفات إنسانية يجب التكفير عنها عبر القيام بطقوس من شأنها استحداث وقائع أرضية.

اعتمد العرب على النجوم لتحديد الزمن، وقُسّمت دورة القمر حول الأرض إلى ثمانية وعشرين جزءا، ويصل عدد أيام السنة إلى 360 يوما وربع اليوم، وارتبطت الأشهر في العصر الجاهلي بحاجات القبائل إلى الماء وإلى التجارة وإلى أداء طقوسها الدينية، فشهر رجب كان من الأشهر الحرم التي يمنع فيها القتال، ويصادف موعد تجمع القبائل حول المياه لتقاسمها، ويذكر الباحث محمد الحاج سالم أنه في ذلك الشهر الذي يصادف الاعتدال الخريفي تزور القبائل الآلهة للتقرب منها في طقس يسمى بالعمرة، ثم يأتي شهر ذي الحجة، وهو موعد حج القبائل إلى الكعبة، وهو أيضا من الأشهر الحرم لدى تلك القبائل.

لم يكن المجتمع العربي قبل الإسلام مجتمعا زراعيا، لكنه في المقابل كان يستعطف الآلهة من أجل المطر والخصب، لذلك ارتبط التقاء الشمس والقمر في الاعتدال الربيعي بالتزاوج بين الإبل، ويصادف ذلك شهر  ذي الحجة.

التقويم الهجري.. نسخة إسلامية من التأريخ الجاهلي

بعد قرابة 200 عام من اجتماع أسياد قبائل الجزيرة العربية، جعل الخليفة عمر بن الخطاب للمسلمين رزنامة لهم، واختار هجرة الرسول عليه السلام في العام 622 ميلادية لتكون نقطة بداية ذلك التقويم.

يعتمد التقويم الهجري على دورة القمر لتحديد بدايات الأشهر وتقسيم عدد أيامها، وتتكون السنة الهجرية من 12 شهرا قمريا، وتتراوح بين 354-355 يوما، وقد حسم القرآن في طبيعة التقويم في سورة البقرة إذ يقول الله تعالى “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ”.

تحدد البيئة وحاجات المجتمع طبيعة التقويم وتقسيم الأشهر، فبعد بناء الدولة الإسلامية، ظلت الطبيعة الصحراوية وبعض نظم المجتمع الجاهلي ملقية بظلالها على طبيعة المجتمع الإسلامي في زمن الإسلام المبكر، فقد حافظ المسلمون -حتى بعد تغيير التقويم- على ارتباط الحج وشهر الصيام ودفع الزكاة.

احتفظ المسلمون بأسماء الأشهر في عصر الجاهلية، واحتفظوا أيضا بمعانيها، فشهر رجب مثلا لدى الجاهلية سمي نسبة لترجيب الرماح من الأسنة، حيث تنزع منها للتوقف عن القتال، وهو شهر محرم، وحافظ الإسلام على معنى “ذي الحجة” موعد الحج في العصرين الجاهلي والإسلامي.

التقويم الجلالي.. دقة أعلى من التقويم الميلادي

في بداية الألفية الأولى ميلادي ظهر التقويم الهجري الشمسي الذي عرف بالتقويم الجلالي نسبة لملك السلاجقة جلال الدولة ملك شاه، ويعتمد ذلك التقويم على مدار الأبراج الفلكية التي تمر من خلالها الشمس، حيث تقطع برجا كل شهر، ويمثل هذا التقويم دقة أعلى من التقويم الميلادي بنسبة خطأ لا تتجاوز يوما في 3.8 مليون سنة.

يقول العالم “إسحاق نيوتن” في كتابه “المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية”: إن الزمن المحض الحقيقي والرياضي يمر دون أي علاقة مع أي شيء خارجي، وبالتالي دون مرجع أو تغيير في  طريقة احتساب الزمن (الساعة واليوم والشهر والسنة)، لكن للزمن أوجها كثيرة، فهو يسير وفق ثقافات وحاجيات اجتماعية وميتافيزيقية.

ورغم اختلاف التقويمات على مر العصور فإن السماء واحدة فصل فيها الله في سورة التوبة حين قال (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *