وجهة نظر

العنصرية ضد السود أو حين يعض الكلب رجلا

سياق هذا الكلام ما تعرض له الصحفي المغربي الأستاذ محمد لغروس من شتائم عنصرية يشمئز منها كل إنسان سوي. لم تتضمن تدوينة الصحفي أي شيء يستدعي كل ذلك العنف المنفلت، فهو لم يكن مذنبا لا باللفظولا بالفعل، معذلك انفلت هوس البياض من عقاله ينفث حقدامجانيا لا يرتوي.

يجب التأكيد بداية على ان استدعاء صورة كلب يعض رجلا هو من باب مجاز تطلبه السياق وليس بغوايةالإنجرار إلى مجاراة العنف اللفظي والسباب الرقيع،لأن السقوط الأخلاقييتطلب رصيدا معتبرا من الحقد والوضاعة لا قبل لي بهما.

وجه المجاز أن استباحة كرامة السود في شمال افريقيا والشرق الأوسط، أضحت ممارسة مستقرة وشعيرة ثابتةقلما نسمع اعتراضاعليهامسموع الصوت من ساستنا أومثقفيناأوإعلامنا،فبلغت اللامبالاةمبلغا تمر معهاكل إهانة في صمتجريا على قاعدة محترمة يعرفها كل صحفي مبتدئ،تقول «إذا عض كلب رجلا فهذا ليس خبرا، اما إذا عض رجل كلبا فهذا هو الخبر الذي يستحق الاهتمام».

قد يجادل البعض أن الحادثة معزولة وإثارتها تهويل وضرب من ضروب جلد الذاتلا يقف عنده الا من يستهويه صنع قضية من عدم، لكن لنا على ذلك اعتراضات ليس أقلهاإن التهوينمشاركة في الإسكات وانخراطفي نشاط أجهزة الأمن الرمزي.

مع التزام الحذر من التعميم الجائر،يجب الإقرار أنفي شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ما ان يحصل خلافـبل أحيانا لقاءـ بين أبيض وأسود حتى يكون الأبيض مقروءا ككتاب مفتوح، يظل معه مجاز سيكولوجيا الكلاب صالحا لتقريب الصورة؛إذكلما سنحت فرصة الإهانة ينفجر المعتدي في سلوك أقرب الى ما وصفه باڤلوڤ بالمنعكس الشرطي المسيل للعاب، تعقب فيه الاستجابة رنين المنبه ولا تحكمه الروية او التفكير. يغوص الجاني في عالم متمركز حول وهم تفوقالبياض، ينطلق من حام بن نوح عابراالسودان والأحباش والزنوج والعبيد اسلاف الحراطين المعتوقين،يجلبهم الجلاب طوابيرا ويسوقهم النخاس الى السوق بعد توقف في مركز الإخصاءلمطابقتهم مع معايير العرض والطلب.

عالمنا الرمزي الراهنوريث ثقافة لا تشترط ذنبا من الأسود لاستباحة كرامته، فهي تستند إلى رصيد ضخم من تاريخ وفقه وسير ومرويات صيغت عبر قرون في إطار امبراطوري حكمه التوسع بالقوة والإخضاع على غرار جميع الامبراطوريات في التاريخ.أورثتنا هذه المرويات تراتبيات طبقية وإثنية ودينية يتعالى فيها بعض العرب على اغلب العرب،كلالعرب على العجم وكل البيض عربا وعجما على كل السود.تراتبيات لم نخضعها للسؤال فأحكمت حصارها على حاضرنا في سجن نسق ثقافيننظر عبره الى السود على أنهم شياطين برسم الولادة.

وجدنا أرواحنا خارج جغرافيتها الافريقية بفعل قنوات الإمداد الثقافي والرمزي التي ما فتئت تسقيناحروب داحس والغبراء ومبارزات سوق عكاظ، لكنها لم تحدثناعن طوابير العبيد وهم يساقون مشيا عبر الصحراء الى أسواق لها طعم وقواعد أخرى… نعرف بالتفاصيل المملةشعر الحطيئة وسيرة سيف بن دي يزن، لكن بالكاد وردت الى مسامعنا أسماء النجاشي،روزا پاركس، الشيخأنتا ديوب وتوسان لوڤيرتور… حتى إننا لا نكاد نجد في مداركناموقعالأمجاد ومعاناة وبطولات وحتى جرائم السود. بين مطرقة الإطراء الصاخب على طرف وسندان الصمت المطبق على طرفآخر، جرى صقل وجداننا على عفوية مستعلية نوزع بموجبها صكوك الرفعة والوضاعةبمعايير مختلة بأثقال الأصل واللون.

نتيجة وطأة ما ورثناه من تاريخنا ومروياتنا إذن، لا يحتاج أسود البشرة لأن يكون مذنبا بالقول أو الفعلأو حتى بالنوايا، فلقد قر قرار مجتمعنا الأبيض،بناء على مواردنا الثقافية،أن الأسود مذنب بالكينونة والخليقة متلبس بجريمة سواد البشرة، فاضحينا نستسهل بناء قضية ضد أي أسود من شركائنا في الإنسانية والوطن، لا مجال فيها للمراجعة أو الشعور بالذنب، فنحن أهل تراث اتفق جله علىأن الأسودمذنب انطولوجيا.

من أسباب إعاقتنا الثقافية، كون قرون من العبودية توقفت فجأة ومرت في صمت؛فلقد فُرِضَ علينا منع الرق من الخارج من طرف القوى الاستعمارية واستقبلناه كأمر واقع.لم يصدر عن ارادتناولم يواكبه نقاش عام يولد قفزة ثقافية تكسبه الشرعية. الصمت حرم مجتمعاتنا من عملية نقدية نطور بموجبها منظومات تحررية تولد تجارب جديدة في الثقافة والقيم والاجتماع والتشريعوالاخلاق، بالتاليلم نصنع مناعة ضد النكوص فبتنا محنطين ثقافيافي ماضـلأننا لم نُجْرِ معه عملية تصفية حساب نقديةـينفجر فينا عنصرية كلما تهيأت الظروف والأذهان.

نتج عن هذا التحنيط الثقافي جبن على قول الحق في وجه المجتمع من طرفإعلام ومثقفين ومؤسسات أضعف من أن يتجاسروا على المساس بثقافة لُقِّنَتْ أنها ثقافة عادلة تقوم على دين الفطرة، فاستكانت الى الطمأنينة الى ذاتها. ويا ليته كان الضعف وحده، بل هناك من لايزال يصر على التمادي في إسكات التاريخ؛ يحضرني هنا مثال قناة الجزيرة التي اقتنت فيلما وثائقيا فرنسيا في جزئين حول تجارة الرقيق، وبثت جزأه الخاص بالرق الغربي عبر المحيط الاطلسي وأحجمت عن بث الجزء الذي يعرض تجارة الرقيق في الشرق الأوسط وشمال افريقيا عبر الصحراء.هذا سلوك لا يمكن فهمه إلا في إطارإصرار أدوات صنع الإجماع علىخفض الحواجز الأخلاقية والثقافية التي تمنع الإعتداءعلى جماعة بعينها.

لاباس مادام الأمر لا يتعلق في النهاية إلابالسود!فلماذا على الجزيرة أن تنشغل؟ لكن هل يطلقون في قناةالجزيرة اسماآخر غير الكذب على التساهل في معايير قول الحقيقة؟
نحن بشر مثل كل شعوب العالم، تاريخنا لم يصنعه مجتمع من الملائكة أو الشياطين؛واستمرار الإنكار يحول دون التئام الجرح ويُبْقِي الإهانة معاصرة لأحفاد المهانينلأنهبقدر ما يطيل (الإنكار) عمر تعرية جماعة بشرية من الحمايات الثقافيةوالقانونية، يمنح حصانة للمعتدين.امتلاكتاريخناوالإفصاح عن المكبوت وحدهما يسعفاننا في بناء ضمير وطني عابر للجماعات. نحن نحتاج الى فتح نقاش تكون فيه عنصرياتنا موضوعا للمعرفة من اجل تشييد سياج ثقافي وقانوني يحصن الضحايا ويفرض على من يريد تناولهمإخضاع كلامه لرقابة ذاتية صارمة.

في النهاية، بدلا من التمادي في هذيان كوننا كبار الأصل واللون والحضارة والتاريخ، نحلم بفتح أمريكا والصين؛ يلزمنا أن نلج عالم كبار العقل والفعل والأخلاق فنفتح عوالمنا الثقافية الدفينة وصفحات تاريخنا لإعادة قراءتها ومواجهتها بالنقدلعلنانصنع عالما مشتركا بديلا من الرموزيعيننا على تجاوز حداثتنا الركيكة،لأن التعافي الأخلاقي والسياسي يمر عبر الإفصاح عن المكبوت، ولن يسعفنا غير الافصاح للقطع مع هدر الإنسانومع تجديد ضربالمواعيد مع فاشية موجودة فينا بالقوة لا تنتظر غير الشروط التي تنقلها من حيز الممكن الى حيز التحقق.
احمد معليكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *