منتدى العمق

التوظيف بالعقد وإلغاء مجانية التعليم

شيئانِ تفَتَّقَتْ عنهما مُخيِّلةُ الحكومة ـــــ وهذا قبل تشكلها ـــــ وهما التوظيف في الإدارات العمومية بالعقد، وإلغاء مجانية التعليم العمومي.

التوظيفُ بالعقد هو فرصة للكثير في الشغل. من طبيعة الحال هناك سلبيات في هذا المنحى: فالشخص الذي يقضي مثلا خمس أو ثمان سنوات في قطاع ما وبعد انتهاء عقده سيكونُ معرَّضاً للبطالة…هذه مسألة لا جدال فيها لأننا نعرفُ أنه لم يخرج من البطالة إلا بشق الأنفس،فكيفَ بهِ إنْ عادَ إليها. ثمَّ في هذا العقد سيكونُ ملزماً عليه الانضباط لكلِّ شروطِ الإدارة وإلا سيكون مصيره فسخُ عقدِهِ. إذن هذا العامل هو على شفا جرفٍ هارٍ.

لكننا نعرف جيداً أن الأغلبية من الذين يعملون لا يعملون بجدية وإخلاص، وهذا راجع إلى أنه ليس هناك أي شرط مفروضٌ عليهم ليُسحبَ المنصبُ من بين أيديهم…فهم اطمأنوا إلى مستقبلهم وتقاعدهم.
ولو نظرنا إلى المسألة من زاوية منطقية سنجِدُ أنَّ العقد في العمل هو شيءٌ معقول ونافعٌ، ليسَ للعامل وإنما لمصلحة الشعب…غير أنه هناك إشكالية… وهي أن هذا الإنسان الذي يعملُ بعقد قد تسنح لهُ فرصة تكوين أسرة…فهذه الأسرة في حاجة إلى مصاريف…فإن حدثَ وسُحِبَ من المنصب وقد أصبح لهُ أبناء، فهذا قد يعود بالوبال على تلك الأسرة…إذن المسألة فيها حسنٌ وقبح.

لكن هناك حلول…فمثلا،يُمنحُ هذا الشخص الذي يعملُ بعقد، بعد انتهاء عقده شهادة تُخَوِّلُ لهُ أن يَلِجَ أعمالاً أُخرى دون أن يلقى أي إشكال…ففي بريطانيا مثلا، تعملُ خادمة في منزل ما والمؤسسة التي أرسلتها لذلك البيت تضعُ شروطا مع العقد. وبعد انتهاء عقدها تمنحُ لها شهادة حسن السيرة والكفاءة، وتلك الشهادة تخولُ لها أن تعمل في أي منزل دون تعقيد…لكن هل يمكن مثلا للأستاذ أن يعمل كرجل نظافة أو ككهربائي أو كنادل؛ لأنه إذا أردنا تطبيق مسألة التوظيف بالعقد فيجبُ أن نعمِّمَها على جلِّ القطاعات…هذا ممكنٌ في بريطانيا أو السويد، أما في المغرب فذلك مستحيل. ولكي نصل إلى هذا النمط من التوظيف يجبُ أن تكون لدينا حكومة مكونة من أفراد بريطانيين أولا…مستحيل ومستحيل أن ينجح الأمرُ في المغرب…فما يمكنُ أن نستنتِجه من هذا الاتجاه السياسي هو إثارة الفتنة لأن الكثير من الأسر سيتسبب لها ذلك في التشتت وسيُلقى أبناؤها للتهلكة والإجرام…وفرض سياسة غربية على مجتمع عربي هو مسألة لاعقلانية ومرفوضة، لأن البنية العقلية ونمط التفكير والمعاملات الإنسانية الغربية ليست بنفس شكل المنهج العربي…إذن، ما يمكنُ أن نختِمَ به هو أن الحكومة تفكرُ في المزيد من الإضرار بالشعب.
المسألة الثانية وهي إلغاء مجانية التعليم.

بالطبع، من يُدرِّسُ أبناءهُ في هارفارد أو ماسوشيتس بأمريكا لا يعنيه أمر التعليم العمومي لا من بعيد أو من قريب. ولنسألْ هؤلاء المشرفين على المجلس الأعلى للتربية والتكوين هل أبناؤهمْ درسوا بالمغرب أم بالغرب.

فالإحصائياتُ تقول ــــ وهي إحصائيات أمريكية ـــــ بأنَّ ثُلُثيْ سكان المغرب يعيشون ظروفا قاسية وحرجة والكثير منهم لا يجدُ طعاماً إلا بصعوبة كبيرة؛ومع ذلك،هذه الأسر تدفع بأبنائها للمدارس عسى أن يتخرجوا بشواهد وينقِذوا آباءَهُمْ من الفقر والتعاسة…والكثيرُ من الأسر الآن وجدوا الفرصة سانحة لتدريس أبنائهم لأنَّ الملك يهبهم الأدوات المدرسية… وقد قادني القدر إلى جبال الأطلس الكبير مع إحدى الجمعيات ورأيت الفقر المدقع الذي يستحوذ على أهالي تلك المناطق بحيث كانوا يرفضون أن يُدرِّسوا أبناءَهُم لأنه ليست لهم القدرة على شراء الكتب المدرسية…فكانوا يدفعون بأبنائهم للكُتَّاب لأنه لا يكلِّف إلا خشبة طول دراسة الطفل.

فالغرض من إلغاء مجانية التعليم ”يظهر للأعمى ” كما يقولُ المغاربة، وهو أن لا يدرسَ أبناء الشعب وينتشر الجهل وتبقى تلك المناصب العليا خالصة لأبناء النخبة الذين لهم الباءة والاستطاعة على التعليم المدفوع الأجر…فهل بنَّاء أو حدّاد أو إسكافي أو بائع الخبز،أو،أو…سيستطيع تحمل نفقات التدريس طيلة خمسة عشر سنة…غير ممكن…هؤلاء يريدون أن يصبح المواطنُ الفقير لصًّا أو متسوِّلا حتى يمكنهُ دفع تكاليف التدريس…

وما عليك إلا أن تقوم بإطلالة على الأحياء الفقيرة في هذا الوقت الذي تهاطلتْ فيه أمطارُ الرحمة وسترى المعاناة لا يُخفيها أي حجاب…فهل بائع الخبز بإمكانه أن يربح شيئا والأمطارُ خيوط من السماء وهو الذي يعرض خبزه على جانب الطريق؟…ويمكنك أن تسأل من شئتَ من آباء الأسر الفقيرة عن هذا القانون المُجحف في حقهم وسيُجيبونك قائلين بأن هذا لمنكر…

هناك مسألة أخرى يجبُ أن لا ننساها:فالحكومة قد أغرقت البلاد بالقروض؛وصندوق النقد الدولي ليس مؤسسة توزع القروض بالمجان…فهو يُعطي القرض مع الفوائد…وحين يصل موعد جني تلك الفوائد فالدولة تكون مُجبرة على الدفع؛وإن تَعَذَّرَ عليها ذلك،فتلك المؤسسة تُضيف مُهلَةً جديدة مع زيادة في الفوائد وتقترح،أو لنقل تفرض، على الحكومة أن تطبق قانونا من القوانين يساعد في الفكاك من تلك القروض.والحكومة الآن قد جاوزت الحد المسموح به في القروض،والحل أمامها للخروج من عنق الزجاجة هو إلغاء مجانية التعليم…أي أنهم أكلوا القروض هنيئا مريئا والشعب سيعيدها من جيبه.
لكن الأمر المُخيف هو أنه ليس التعليم العمومي من سيعرف هذا التطور المشين،فربما…سيأتي يومٌ سيكون المُواطنُ مضطراًّ أن يدفعَ إذا أراد زيارة قريبٍ لهُ في المستشفي،وووووو…” وإنَّهُ لشيءٌ يُراد…”.
ومن لم يكن قدْ جلَدَه الصبر سيعرف يومَ ذاك معنى الجَلْد.