منوعات

لتلطيف المزاج ومقاومة الألم .. إليك لماذا ينبغي تفضيل الموسيقى الهادئة عن الصاخبة؟

رغم أن التوجه الموسيقي اليوم تغلب عليه الموسيقى الصاخبة، والتي أصبحت ملازمة لبعض الأنشطة مثل الرياضة في الصالات، فإن العلم يكشف أن الاستماع للموسيقى الهادئة أكثر نجاعة في تلطيف المزاج ومقاومة الألم.

ويقارب التقرير التالي، حسب الجزيرة نت، موضوع الاختلاف بين النوعين من الموسيقى وتأثيراتهما، من خلال قصة مريضة اكتشفت التأثير السحري للموسيقى الهادئة إلى جانب الرسم، معززة بما توصل إليه العلم في هذا المجال.

فهل للموسيقى الصاخبة أضرار صحية؟ وكيف تتفوق الموسيقى الهادئة على الصاخبة في تحقيق المتعة بالمزاج اللطيف، وفي مقاومة الإحساس بالألم؟

مريضة على وشك التحول بشكل تراجيدي

في 2010، كانت حياة الأميركية كورّينا ثَرستون على وشك التحول بشكل تراجيدي. كورّينا كانت طالبة متفوقة علميا ورياضيا تبدأ حياتها الجامعية، ثم أُصيبت بمرض عضال أبقاها حبيسة الفراش طوال الوقت، مرض لم ينجح الأطباء في تشخيصه أو علاجه.

تركت كورّينا الجامعة مضطرة، وكما هو متوقع، أصابها الاكتئاب لشهور. كانت تعاني من إجهاد عضلي دائم، وصداع نصفي على مدار الساعة، وأرق قاتل، ونوبات قلق عنيفة. أقل درجة من الضوء كانت تؤلم عينيها وتصيبها بالصداع، وكان الحل الوحيد لتخفيف الألم هو أن تبقى في الفراش، مرتدية مناظير شمسية، في غرفة مغلقة الستائر لا يدخلها النور.

الفن كمُسَكِّن

إن كان هناك مزية واحدة للوصول إلى الحضيض، فهي التحرر. تَحقُّق أسوأ كوابيسك يمنحك -للدهشة- قدرا هائلا من الشجاعة والجرأة، شجاعة كانت كافية لكي تزحف كورّينا من فراشها بحثا عن قلم رصاص وورقة تقاوم بهما مللها القاتل. المفاجأة كانت أنهما قاوما ألمها كذلك.

كورّينا لم تكن مثل أغلب الفنانين، لم تكن شغوفة بالرسم منذ طفولتها ولم يتوقع لها أحد أن يصبح الرسم مهنتها الاحترافية، ولكن مع الوقت، أصبح رسم الحياة على الورق معادلا موضوعيا للموت السريري الذي تعيشه.

دولفين يطل برأسه اللطيفة من المياه، أو فيل ضخم مهيب يخطو بثقل، أو عصفور ملون زاهٍ يلتقط إحدى قشريات البحر بين الأمواج، كانت هذه هي رسومات كورّينا، وكانت شديدة الحيوية والواقعية، تبدو من النظرة الأولى وكأنها صور ضوئية حقيقية، رغم أنها لم ترسم إلا بالأقلام الخشبية.

مع الوقت، تحوَّل الموت السريري إلى حياة طبيعية، وتراجع الألم وكأنه كان ظاهرة نفسية لا أكثر، وانطلقت كورّينا من مدينة فيرمونت لتتحدث عن تجربتها، وفي أروع استغلال ممكن لما عاشته، ألَّفت كورّينا كتابا عن كيفية إدارة عمل فني لمحدودي القدرة والطاقة، ثم كتابا آخر عن كيفية التواصل الفعّال بين الفنانين والمبدعين.

كورّينا تعلم

في كتابها الثاني، لاحظت كورّينا أن الموسيقى كان لها أثر إيجابي عليها أثناء فترة مرضها؛ في بعض الأحيان كانت تُحفِّزها، وفي أحيان أخرى كانت تُشعرها بالاسترخاء اللازم للنهوض لاحقا واستكمال العمل، ولكن ما تصفه كورّينا هنا ليس أثرا علاجيا حقيقيا للموسيقى، بل يشبه ما يطلق عليه الأطباء والباحثون “تأثير الدواء الوهمي” (Placebo Effect).

تأثير الدواء الوهمي هو -باختصار- القناعة التي تتولد لدينا بأن عقارا ما أو تصرفا سيساعدنا على التحسن، وهذه القناعة تدفع المخ للتصرف بإيجابية، وإفراز المواد الكيميائية التي تساعدنا على التحسن فعلا في بعض الأحيان، أو تغير مزاجنا للأفضل في أحيان أخرى، وهو ما يمنحنا إيحاء مزيفا بالتعافي، ولكنه قد يصبح حقيقيا إن ساعدت كيمياء الجسم السعيد على زيادة كرات الدم البيضاء، أو زيادة فاعلية الجهاز المناعي مثلا، ومن ثم مواجهة أفضل للمرض إن كان عضويا.

لسنوات طويلة، ظلت الموسيقى بأنواعها تصنع تأثيرا أشبه بتأثير الدواء الوهمي؛ الأطباء يعلمون أنها تُحسِّن المزاج وتساعد على تجاوز الألم، وفي بعض الأحيان يمكنهم حتى قياس ذلك، ولكنهم لا يعلمون كيف تجري هذه العملية، عاجزين عن اكتشاف ما يحدث بين المقدمات، أي الموسيقى، والنتائج، أي الاسترخاء وتخفيف الألم.

ما شعرت به كورّينا فعليا هو ما يسميه الأطباء والمعالجون “الإحساس بالسيطرة على الألم” (Perceived Control Over Pain)، وهو مجرد شعور إيجابي ينتج عندما تستطيع ممارسة مظهر من مظاهر حياتك الطبيعية -مثل الاستماع للموسيقى- رغم ألمك. شعور يمنحك قدرا من القوة والتحكم في حالتك، مما يساعد في تخفيف الشعور بالألم، لا تخفيف الألم ذاته.

في 2013 مثلا، نشرت الدورية البريطانية للممارسة الطبية العامة “BJGP” دراسة بعنوان “الموسيقى بديلا للألم”، حاول صانعوها تعريف الأثر الذي تُحدثه الموسيقى في نفوس أصحاب الآلام المزمنة، وبسؤال 67 طبيبا معالجا في منطقة الميرسيسايد، اتضح أن 12 منهم فقط، أي نحو 18%، كانوا يوصون مرضاهم من أصحاب الآلام المزمنة بالاستماع للموسيقى لتخفيف آلامهم.

كانت هذه نسبة أطباء الميرسيسايد المؤمنين بجدوى الموسيقى مُسَكِّنًا في 2013، رغم أن قدرات الموسيقى المُسَكِّنة كانت قد انتقلت عمليا من حيز الخرافة إلى مساحة العلم التجريبي، إذ اكتشف الباحثون أن حالة الجهل بالمستقبل التي يعانيها أصحاب الآلام المزمنة، وعجزهم عن توقع مسار العلاج، يزيد من معدلات القلق والتوتر، ما يساهم -لا شعوريا- في تضخيم إحساسهم بالألم، وبالتبعية ممارسة أنشطة طبيعية مثل الاستماع للموسيقى أو الرسم، تُشعرهم بدرجة من التحكم في آلامهم.

الأمر يشبه الصراخ عندما ترتطم أصابع قدمك بالطاولة مثلا، وكأنك تُعلن عن وجودك في مواجهة الألم. الصراخ يساعد جسمك على إفراز الإندورفين، إحدى المواد الكيميائية التي يفرزها المخ لمواجهة الألم، التي تُصنَّف من ضمن هرمونات المشاعر الإيجابية. أمر مشابه يحدث مع الموسيقى التي تساعد المخ على إفراز الإندورفين أيضا، وفي بعض الأحيان، تكون الذكريات المرتبطة بالموسيقى تشتيتا مطلوبا للمرضى عن آلامهم.

كورّينا لا تعلم

الدراسة المذكورة أرسلت مجموعة من الأسئلة إلى 318 شخصا من غلاسغو، كلهم يعانون من آلام مزمنة، ولاحظت من إجاباتهم أن الاستماع للموسيقى بأنواعها ودرجاتها المختلفة كان له أثر إيجابي على جودة حياتهم عموما، وبعد عامين، دفع ذلك مؤسسة “فرونتيرز” (Frontiers) لإجراء تجربة أخرى على مرضى متلازمة الفايبروميالجيا؛ متلازمة تصيب صاحبها بآلام مستمرة في كامل الهيكل العضلي، وشعور دائم بالإرهاق.

الدراسة تمت على 30 سيدة مشخصة بالمتلازمة ما بين عمر 41-59 عاما، وكانت تقتضي أن تُسجِّل كل واحدة منهن كلًّا من حدة الألم، والقدرة على السيطرة عليه، ودرجات التوتر، والعادات الشخصية في الاستماع للموسيقى، 5 مرات يوميا لمدة 14 يوما متتاليا، في نظام تقييم نُقَطي.

مع كل تقييم، كان الأطباء يسحبون عينات من اللعاب لقياس مستويات الكورتيزول، هرمون التوتر والضغط العصبي، ولكن في النهاية، كانت النتائج مشابهة؛ الموسيقى تساعد المرضى على الشعور بدرجة من التحكم في آلامهم، ولكنها لا تخفف الآلام ذاتها.

مرت سبع سنوات منذ تلك اللحظة حتى حدث السبق العلمي الحقيقي؛ ففي يوليو/تموز الحالي، نشر موقع “ساينس” (Science) الشهير دراسة حديثة أُجريت على مجموعة من الفئران، تضمَّنت دهن كفوفهم بمادة مُلهبة للجلد، ثم مراقبة نشاط أمخاخهم أثناء الاستماع للموسيقى، لاستنتاج ما إذا كانت قادرة على تخفيف آلامهم.

التجربة استخدمت ثلاثة أنواع من الموسيقى؛ قطعة كلاسيكية، ثم القطعة ذاتها ولكن معادة التوزيع بشكل مربك وغير فني، ثم ما يُعرف بالضوضاء البيضاء (White Noise)، أي الضوضاء التي تحتوي على كل الترددات المسموعة للأذن البشرية، مثل الضوضاء الاستاتيكية الخارجة من المذياع أو التلفاز المعطوب، أو صوت دوران المراوح، أو محركات المكانس الكهربائية.

المثير أن القائمين على التجربة اكتشفوا أن الفئران لم تتأثر بنوع الموسيقى التي يستمعون إليها، سواء كانت قطعة كلاسيكية رفيعة المستوى، أو أخرى رديئة، أو حتى ضوضاء بيضاء، بل بدرجة علو أو انخفاض أيٍّ مما سبق. الموسيقى الهادئة كانت تقلل ردود أفعال الفئران لالتهاب كفوفها، خاصة الميل للعق الكف المتكرر أو الإجفال من الألم.

كورّينا لا تعلم أنها تعلم

السبق الذي حققته هذه التجربة لم يكن في ملاحظة ألسنة الفئران وكفوفها وحسب، بل في ملاحظة أمخاخها، ومع التكرار، نجح العلماء في تعريف ممر عصبي يصل ما بين القشرة السمعية، المسؤولة عن استقبال الأصوات ومعالجتها، وما يُعرف بالمَهاد (Thalamus)، أي المادة الرمادية التي تقع بين فصي الدماغ، والمسؤولة عن استقبال إشارات الألم ومعالجتها في المخ.

بتقليل مستوى صوت الموسيقى لما يزيد على صوت الخلفية بقليل، أي ما يكفي فقط لعزل الأذن عن باقي الأصوات، لاحظ العلماء أن عدد الإشارات العصبية المستقبلة من المَهاد قد تراجع، ما يعني أن الألم الواصل للدماغ قد تراجع بدوره.

دكتور هال ماكدونالد، بروفيسور الأدب وعلم اللغة في جامعة مارس هيل، والمهتم بالكتابة في علاقتهما بالطب النفسي، استنتج أن الموسيقى المنخفضة، خاصة الكلاسيكية منها، لها أثر في تهدئة الأعصاب بالمعنى الطبي العضوي الحرفي، وهو ما يساعد بالتبعية في تخفيف الآلام، على العكس من الموسيقى الصاخبة التي تُهيج المستقبلات العصبية، ومن ثم تُسهم في توصيل أكبر وأكثر كفاءة للألم.

غالبا كان هذا هو ما يحدث مع كورّينا وهي راقدة في فراشها تعصف الآلام برأسها وجسدها. كانت تجد تشتيتا عن ألمها في أنشطة بسيطة هادئة مريحة مثل رسم الحيوانات والاستماع للموسيقى الهادئة، حتى تحوَّل التشتيت إلى حياة كاملة لا تعرف غيرها، كانت تشعر بالأثر، ولكنها لم تكن تملك معملا وفئرانا وأجهزة لقياس النشاط العصبي في المخ.

أحيانا تكون أبسط الأمور وأكثرها بدائية هي الأكثر فعالية؛ تخيل أن الإنسان كان بحاجة إلى كل هذه التجارب المؤلمة لكي يدرك حقيقة أن أنشطة ببساطة الرسم والاستماع للموسيقى الهادئة يمكن أن يكون لها أكبر الأثر على حالته المزاجية والنفسية وحتى العضوية.

الطريف أن ماكدونالد شبَّه تجربة كفوف الفئران بما يعانيه في صالة الألعاب -الجيمنِزيوم- عندما يرفع الأثقال ويمارس التدريبات البدنية العنيفة، فبينما تلتهب كفوفه من الاحتكاك والدفع والشد، كان يعتقد أن الموسيقى الصاخبة هي ما يساعده على تجاوز هذا الألم، بينما كانت في الحقيقة تزيده. لذلك في المرة القادمة التي تذهب فيها إلى صالة الألعاب، تذكر أن عليك أن تخفض صوت الموسيقى، وأن هذه النصيحة مدعومة بالتجارب العلمية في اللحظة الراهنة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *