منوعات

النرجسية .. هل زاد منسوبها أكثر مما كانت عليه من قبل؟

أصبحنا نرى النرجسية في كل مكان، وفي كل نشاط، فنسمع عنها داخل الأسرة، وفي العمل، وفي الشارع، وفي شبكة العلاقات الاجتماعية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المقاولة، وفي الحزب والمجال السياسي، وبين القادة والسياسيين والزعماء … وكل ذلك سواء تعلق الأمر بدولة متخلفة أو دولة متقدمة، إلى درجة أن أصبح المصطلح شائع الاستعمال.

فكيف أصبح لهذا للمصطلح كل هذا الحضور؟ وهل أصبحت النرجسية أكثر حضورا وانتشارا اليوم عما كانت عليه من قبل؟

التقرير التالي، حسب الجزيرة نت، يتناول بتفصيل الإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها، ويعالج الأسباب المختلفة لظاهرة النرجسية، ودور السياسة ومواقع التواصل الاجتماعي وكورونا في انتشارها، ودور الفوارق بين الأجيال في انتشارها…

وباء النرجسية: تصاعد السمات النرجسية في السنوات والأجيال الأخيرة

من الواضح أن مصطلح “النرجسية” أصبح أكثر تداولًا في عالم اليوم، ويمكن التدليل على ذلك مثلًا من خلال إحصائيات “غوغل” لتريندز الكلمات التي يبحث عنها الناس في جميع أنحاء العالم.

تختلف المقاربات في تفسير هذا الاهتمام الكبير بمفهوم النرجسية، إلّا أن أحد أكثر التفسيرات رواجًا هو التغيّر الكبير في الظروف السياسية والاجتماعية، وتأثيراته المتعددة.

في عام 1979، كتب “كريستوفر لاش”، أستاذ التاريخ في جامعة “روتشستر”، كتاب “ثقافة النرجسية”، وقد كان من أوائل مَن بدأ الحديث عن النرجسية بوصفها مشكلة رئيسية في السياق الأميركي تحديدًا. ومنذ ذلك الوقت، بدأ الاهتمام بها يتضاعف مع تقدم الزمن.

ولأن علم النفس ليس بمعزل عن حياة المجتمعات وثقافتها ونظمها السياسية والاقتصادية القائمة، ازداد حضور النرجسية في الأبحاث النفسية والممارسة الطبية بشكل كبير (تمّ إضافة اضطراب الشخصية النرجسية في الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية عام 1980)

بعد ذلك، اقترح بعض الباحثين دراسة الفروقات في نسب النرجسية بين الأجيال المختلفة. ومن أهمّ ما أكسب النرجسية زخمًا كبيرًا وأثار حولها المزيد من الجدل في الأوساط العلمية هو الكتاب الذي ألّفاه “جين توينغي” و”كيث كامبل” (عالما النفس الأميركيان من جامعة سان دييجو وجامعة جورجيا) عام 2009، وكان تحت عنوان “وباء النرجسية”

في هذا الكتاب، جادل المؤلفان بقوة بأنّ النرجسية في تصاعد مستمر وكبير مع تقدم الأجيال، إلى الدرجة التي يجب علينا التفكير فيها باعتبارها وباءً عامًّا. وكان ذلك اعتمادًا على تحليل إحصائي لنتائج مقياس الشخصية النرجسية (Narcissistic Personality Index)، وهو استبيان أُجري سنويًّا على طلبة الجامعات منذ عام 1980 وحتى سنة تأليف الكتاب (ونُشرت نتائج التحليل كبحث مستقلّ كذلك عام 2008). ويُظهر البحث أن معدلات النرجسية التي قِيست عن طريق هذا المقياس في تصاعد مستمر منذ البداية وإلى وقت نشر الكتاب، وعادةً ما يُوصف جيل “الميلينيالز” (الذين وُلدوا في الفترة ما بين 1980-1996) بأنه الأكثر نرجسية بناء على هذه النتائج. بالإضافة إلى ذلك، اعتمد الكتاب على بيانات أخرى مثل تحليل الكلمات والضمائر المستخدمة في أكثر الكتب والأغاني شيوعًا ونجاحًا في السنوات الأخيرة (ما قبل نشر الكتاب)، وكانت النتيجة واضحة بتراجع الضمائر الجماعية مقابل صعود الضمائر الفردية.

بالإضافة إلى ذلك، أسهمت نتائج أبحاث أخرى أُجريت في الفترة نفسها تقريبًا في زيادة الاهتمام بظاهرة النرجسية المتزايدة. على سبيل المثال، وجد بحثٌ تتبّعي أنّ نسبة الذين وافقوا على جملة “أنا شخص مهمّ” زادت من 12% من المشاركين عام 1963 إلى 77%   1991.

هل يمكن الحديث عن “وباء نرجسية” في الأجيال حقًّا؟

تعرّضت الأبحاث التي تقول بتزايد النرجسية مع الأجيال الحديثة إلى نقدٍ قاسٍ من قبل باحثين آخرين رأَوا أن هناك مبالغة كبيرة في هذه الخلاصة، وتركّزت الانتقادات على أنّ التحليل الإحصائي لم يُجرَ بالشكل اللازم، كما أنّ نسب الزيادة ليست كبيرة، ولذلك من الصعب القول بأن الجيل أصبح نرجسيًّا بسبب زيادة طفيفة كهذه. وشكّك البعض بأنّ عدد الطلاب الذين تم استبيانهم ليس كافيًا ولا ممثّلًا (Representative) للخروج بأوصاف حسّاسة من هذا النوع على أجيال كاملة

من جهة أخرى، شكّك البعض بأداة القياس التي استُخدمت نفسها (NPI) (وهي الأداة الأشهر في الدراسات المسحية العامة للنرجسية)، حيث قالوا بأنّها تختلف في تصوّرها عن النرجسية عن التوصيفات الطبية الرسمية، كما تساءلوا عن مدى صحّة أسلوب السؤال وعرض الخيارات فيها

رغم هذا النقد الكبير، بقيت “جين توينغي” مصرّة على آرائها وأبحاثها، ونشرت أكثر من مقال تدافع فيه عن النتائج، وتعرض المراجع التي اعتمدتها للخروج بهذه الخلاصات

وهكذا بقيت مسألة اختلاف نرجسية الأجيال موضوعًا خلافيًّا حتى في سياق علم النفس وبين العلماء أنفسهم. من الجدير بالذكر طبعًا أن جميع هذه الدراسات أجريت في مجتمعات غير عربية، إلّا أنه يمكن تلمّس العديد من التشابهات بينها وبين السياقات العربية

مشكلة أجيال أم مشكلة ثقافات؟

على صعيد آخر، يلعب الجانب الثقافي والاجتماعي دورًا محوريًّا في تحديد الهويّات الفردية وأنماط السلوك للأشخاص في المجتمع. ويحظى هذا الجانب باهتمام الكثير من الباحثين الذين يَرَون أن تقسيمات الأجيال ليست المقاربة الأفضل لمسألة النرجسية، بل ينطلقون من فرضيّة أن نمط الحياة الفرداني والحديث في جميع أنحاء العالم وتحديدًا في دول الغرب قد يكون السبب الرئيسي في زيادة نسب النرجسية. مثلًا، استحياء شخص ما عند تلقّيه مجاملة أو مديحًا قد يُعتبر ضعفًا في الشخصية أو عدم ثقة بالنفس في الكثير من المجتمعات الغربية، إلا أنّ هذا الأمر يُستقبَلُ بإيجابية أكبر في ثقافة المجتمعات الشرقية (ومنها المسلمة والعربية)، حيث الحياء ووضع النفس تحت المراقبة الدائمة من الصفات الحميدة والسلوكات الأخلاقية بشكل عام

إذن، بعد أن أدّى صعود الحياة الفردانية وازدياد قيمة المسيرة المهنية للفرد إلى خفوت القيم الجماعية بشكل عام وصعود القيم الفردية، ظهرت نتائج هذا الأمر في دراسات علم النفس على شكل اختلاف تعريف النجاح الفردي ما بين المجتمعات الفردانية (Individualistic) والمجتمعات الجماعية (Collective)، ففي الأولى يركّز معظم الأفراد على قيمة النجاح المهني للفرد، بينما في الثانية يتحدد النجاح أكثر بقيمة إسهام الفرد في الدوائر والمجتمعات المحيطة به.

أما على صعيد النرجسية تحديدًا، فقد وجدت الدراسات فعلًا اختلافات بين المجتمعات الفردانية والجماعية، حيث سجّلت مناطق أميركا وأوروبا وكندا أعلى معدلات على مقياس الشخصية النرجسية (15.3 و15.0 و14.8 على التوالي)، بينما سجلت منطقة الشرق الأوسط أكثر المعدلات انخفاضًا (13.9). كما أكدت دراسات أخرى هذه النتائج أيضًا، بالمقارنة تحديدًا بين المجتمعات الشرق آسيوية والمجتمعات الغربية (أميركا وأوروبا)

ومن أحدث الأبحاث وأكثرها إثارة للاهتمام في هذا السياق دراسةٌ أجريت في ألمانيا ونُشرت قبل 3 سنوات (2018)، وخَلُصت إلى أنّ نسب النرجسية كانت أعلى بشكل دالّ إحصائيًّا لدى الأشخاص الذين نشؤوا في ألمانيا الغربية (قبل سقوط جدار برلين)، بينما كانت أقل لدى أولئك الذين نشؤوا في ألمانيا الشرقية. ولم يجد الباحثون أيّ فروقات لدى الأجيال اللاحقة التي نشأت في ألمانيا الموحّدة. ومن المعروف أن ألمانيا الشرقية كانت ذات طابع اشتراكي قبل سقوط الجدار وتوحيد ألمانيا، فاعتُبر هذا البحث دليلاً تجريبيًّا مباشرًا على قدرة العوامل الثقافية والاجتماعية على التأثير على نسب النرجسية في أفراد المجتمع

من المهمّ هنا القول بأن ثقافة المجتمعات ليست صلبة تمامًا، بل في تغير مستمر، فحتى المجتمعات الجماعية قد تبدأ بالتحول إلى الطابع الفرداني شيئًا فشيئًا، والعكس صحيح كذلك. ويدلّل على ذلك دراسة أُجريت في الصين عام 2012، ووجدت أن نسب النرجسية في تزايد بسبب تغير الثقافة، رغم أنّ الصين تعتبر مثالًا مهمًّا جدًّا على البلد ذي الثقافة الجماعية. وهكذا، يبدو أن تغير الثقافات وانزياحها نحو النمط الفرداني أصبح أمرًا عالميًّا رغم اختلاف نسب هذا التغير وتسارعه في المجتمعات المختلفة. ومن الصعب على البلدان العربية والمسلمة أن تكون استثناءً في ظلّ هذه التغيرات التي أصبحت واقعًا على الجميع

لقد انحسر دور الدين في المجال العام في مجتمعاتنا، وأصبحت خطابات التدين الفرديّ أكثر شيوعًا، وإذا عرفنا أنّ تهذيب الإنسان وتطويع شهواته ورغباته وطغيانه هو أحد المقوّمات الرئيسية لخطابات الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاصّ، فمن السهولة بمكانٍ فهمُ أبعادِ هذا الانحسار مقارنة بتمدّد القيم الليبرالية والثقافة الفردانية وأنماط الحياة الحديثة

هل هناك دور لثقافة التربية الحديثة في خلق النرجسية؟

في سياق مشابه، يشير بعض علماء نفس التربية إلى أنّ ثقافة تربية الأولاد تغيّرت في السنوات الأخيرة، تحديدًا في الدول الغربية. فقد أصبحت أكثر تركيزًا على بناء الإحساس بالتميّز والتفرّد في الطفل، وزراعة الشعور بالاستحقاق منذ الصّغر، ومحاولة بناء شخصية لا تقبل إلّا الكمال (Perfectionism)، لكي يكون له قيمة تنافسية في الحياة الأكاديمية وسوق العمل الرأسمالي بعد ذلك.

ومن الأدلة التي تُساق على ذلك مثلًا أنماط تسمية الأولاد وتغيرها عبر الزمن، فقد سُمّي أقل من 10% من المواليد الجدد عام 2011 بالعشرة أسماء الأكثر استخدامًا، بينما سُمّي أكثر من 40% من المواليد الجدد بالأسماء العشرة الأكثر استخدامًا في فترات نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

هل تكون النرجسية مشكلة مراحل عمرية ومسألة مرحلية عابرة؟

يطرح بعض علماء النفس أيضًا نظريةً مثيرة للاهتمام ومدعومة ببعض الأدلة الإحصائية، وهي أنّ ازدياد النرجسية ظاهرة زمنيّة تتعلق بمراحل حياة الإنسان أكثر من كونها متعلّقة باختلاف الأجيال، فهي تزداد بشكل طبيعي في جميع الأجيال وجميع المجتمعات لدى مرحلة الشباب، لكنها سرعان ما تنخفض مع تقدّم الإنسان في العمر. وتبعًا لأنّ مرحلة الشباب أصبحت أطول زمنًا لأسباب اقتصادية واجتماعية، كان من الطبيعي أن تبدو نسب النرجسية مرتفعة بشكل أكبر في الأجيال الحالية. وحتى في حال سلّمنا بوجود ارتفاع في نسب النرجسية لدى الأجيال الحديثة، فهو ارتفاع طفيف لا يُقارن بالانخفاض الكبير في نسب النرجسية مع تقدّم العمر.

أثر ترامب

“في حياتي، أعظم أمرين امتلكتهما هما ثباتي النفسي وذكائي الكبير. لقد تحوّلتُ من رجل أعمال ناجح جدًّا إلى نجم تلفزيون على مستوى القمّة، ثم إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية (في أول مرة ترشحتُ فيها). أعتقد أن هذا يؤهّلني لأكون ليس ذكيًّا فقط، بل عبقريًّا وعبقريًّا ثابتًا ومتوازنًا في عبقريته”. (دونالد ترامب، تغريدة على حسابه الرسمي في 6 كانون الثاني 2018)

من غير المعقول الحديث عن النرجسية في هذا الزمان دون التعريج على الشخصية الأهم والأكثر ارتباطًا بسياق هذه الكلمة، دونالد ترامب!

يُلحَظ أن الاهتمام بالنرجسية أخذ منحىً أكثر حِدّةً في السياق الأميركي بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، فقد زادت نسب البحث عن كلمة “نرجسية” على محركات البحث الرئيسية خلال فترته. كما أنّ العديد من المتخصصين النفسيين الأميركيين أنفسهم أسهموا في زيادة ربط المفهوم بظاهرة ترامب عن طريق إدخال التشخيصات الطبية المتخصصة إلى السياق السياسي والمجال العام، إلى درجة أن 27 طبيبًا ومعالجًا نفسيًّا ألّفوا كتابًا يحللّون فيه ترامب نفسيًّا ويصفونه وأفعاله بشكل واضح وصريح بالنرجسية

أحد المعالجين النفسيين الأميركيين الأكثر شهرةً على منصّة يوتيوب (تود جراندي)، تحدّث في أكثر من مناسبة عن الجانب النفسي من شخصية الرئيس، وتحدّث عن دوره في أحداث الكابيتول كذلك. وغيره من المعالجين والمتخصصين أدلى برأيه في وسائل الإعلام، في مخالفة للتقليد السائد تاريخيًّا من عدم تدخل المتخصصين في المجال السياسي العام إجمالًا، تبعًا لأن استخدام المصطلحات والمفاهيم العلمية التخصصية فيه الكثير من المحاذير على جميع المستويات.

لا يمكن إنكار أن ترامب أسهم في زيادة حضور مفهوم النرجسية في المجال العام والاهتمام بها، فهو تمثيل جيد جدًّا لها (تحديدًا في صياغته لشخصيته العامّة) بحيله وتصويره الكاذب لنجاحاته المُفترضة المتتالية وذكائه منقطع النظير على حد تعبيره، لكن البعض لا يوافق على تحميل ترامب مسؤولية كبيرة في ازدياد النرجسية، ويرى بأنّ ترامب كان نتيجة لثقافة مترسخة من النرجسية، وليس سببًا وحيدًا أو حتى رئيسيًّا لها، أي أنّه كان مُسرّعًا لظهورها وتجلّيًا لها

هذا كله مرتبط أيضًا بصعود الحركات الشعبوية حول العالم كذلك، فالشعبوية (Populism) تعتمد على الخطاب العاطفي الذي يُساق عادةً للناس عبر قيادات تدّعي تمثيل “الشعب النّقي” مقابل “النخب والمؤسسات الفاسدة”، وتمتلك قدرًا جيدًا من الجاذبية الشخصية التي تؤهلهم للحديث بثقة والتأثير بالناس. ويمكن فهم خطاب الشعبويين عمومًا على أنّه خطاب “نرجسية جماعية”، لأنه يفترض الحقيقة المطلقة، ويسفّه من جميع أطروحات الخصوم السياسيين بل وانتماءاتهم، حتى في المساحات التي تبدو ضبابية ومن الطبيعي أن تختلف الآراء فيها. وهذا يتقاطع مع ما تم وصفه سابقًا من صفات النرجسية النفسية، من حيث إنها اعتداد بالنفس بما يشمله ذلك من آراء وأفكار وأفعال وغيرها، واعتبارها أرفع قدرًا وأعلى مكانة من الآخرين

درست بعض الأبحاث العلاقة بين الظروف الاقتصادية ونسب النرجسية كذلك، ووجدت علاقة قوية بين نسب النرجسية المتدنّية وحالات سوء الاقتصاد العامة، مثل الكساد أو الأزمات الخانقة، ويفسر العلماء ذلك على أنّ النرجسية لا تكون ممكنة إلا في حال شعر الشخص بأنه غير معتمد على غيره لتأمين حاجاته اليومية، وإلّا فسيكون من الصعب أن يحافظ على شعوره بالتميز والاختلاف في ظل ظروف كهذه.

منصّات التواصل الاجتماعيّ.. مُسارعٌ مثالي للنرجسية

تخيّل أن العالم تحوّل إلى حَلبةٍ كبيرة للمسابقات، ما بين عروض مختلفة للجمال والقوة والشهرة والثروة. كم يشبه هذا الخيال عالمَ السوشيال ميديا الذي نعايشه ونعيشه يوميًّا في حياتنا؟

تبدو العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) والنرجسية بديهية بعض الشيء، فهي مكانٌ يوفّر مساحةً مستقلّة للإنسان لكي يقول أي شيء في أي وقت، ولكي يعرض ما لديه (حتى نفسه) كسلعة في سوق المتابعين واللايكات. كما أنّها مكان يسمح لك أن تُظهر ما تريد وأن تخفي ما تريد، على عكس الحياة الواقعية التي لا يستطيع الشخص فيها دائمًا الاختباء وراء الأقنعة أو خلق شخصية افتراضية واستدامتها.

إضافةً إلى ذلك، تعطينا منصات التواصل الاجتماعيّ فُرصة وإمكانية التواصل الافتراضي مع عدد كبير من الناس دون أن يكون هذا التواصل ذا عمقٍ أو قيمة بالضرورة. معظمنا لديه الكثير من الأصدقاء، لكنه يتواصل بشكل دوريّ مع نسبة محدودة منهم، ناهيك بأنّ خوارزميات هذه المنصّات تتعمّد أن تُظهر للمستخدم ما يحبّ من المنشورات والصور والإعلانات، جاعلةً منها أداة لتعزيز ما نحن عليه من تصورات عن كل شيء (بما فيه أنفسنا)، وهذا تمامًا ما يسميه الناشط والكاتب “إلي باريزر” “فقاعة الفلتر (Filter Bubble)”. لكن الفرق بين هذه الفقاعة والفقاعات الأخرى أنّها لا تنفجر بسهولة، فالتّعزيز الكثيف والمستمرّ من المتابعين والغرباء والمعجبين يجعل منها عوالمَ بحد ذاتها لا يكترث الكثيرون فيها لحقيقة أنّها افتراضية، بل تأخذ منهم ويعيشون معها وفيها بقدر العالم الحقيقي إذا لم يكن أكثر.

ولا يمكن تجاهل ثقافة “السيلفيز” التي انتشرت كثيرًا بعد السوشيال ميديا، وتعتبر تمظهرًا واضحًا للتمركز حول الذات، ورمزية مهمّة حتى في فعل بسيط كالتقاط الصور

تناولت كثير من الأبحاث النفسية العلاقة بين النرجسية ومنصّات التواصل الاجتماعيّ تحديدًا في السنوات الخمس الأخيرة. أحدها كان مسحًا شاملًا أُجري عام 2017 على أكثر من 23 ألف شخص في النرويج، ووجد أنّ النرجسية مرتبطة بنسب استخدام أعلى للسوشيال ميديا وإدمانها، نتيجة يفسرها الباحثون بأنّ هذه المنصّات تشكّل مساحة ممتازة لتعزيز فردانية الشخص وتغذية نرجسيته.

وتدعم أبحاث مشابهة في بلدان أخرى نتيجة هذا البحث، أحدها كان تحليلًا إحصائيًّا ممنهجًا وجد أن النوع الأول من النرجسية تحديدًا (الواضحة، Overt) مرتبط بشكل أكبر بالاستخدام المفرط للسوشيال ميديا، وهو أمر منطقي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن النوع الثاني (الخفيّ، Covert) يكون أكثر قلقًا وخجلًا، بينما أضاف تحليل إحصائي ممنهج آخر أنّ منصات السوشيال ميديا ليست سواء في آثارها على النرجسية، فـ”تويتر” مثلًا يعتبر أقل تأثيرًا وارتباطًا بالنرجسية من “فيسبوك” أو “إنستغرام”

وبالحديث عن “السيلفيز”، وجد باحثون نتيجة مثيرة جدًّا للاهتمام، وهي أن النرجسية ليست فقط مرتبطة بالمزيد من سلوك التقاط “السيلفيز” ونشرها، بل أيضًا أن هذا السلوك (التقاط الصور والنشر على منصات السوشيال ميديا) يعزز النرجسية نفسها. بمعنى آخر، ارتفعت معدلات النرجسية لدى النرجسيين أنفسهم بسبب وجود منصات ينشرون عليها صورهم، وكأن هذه المنصّات لعبت دور المُسارع والمحفّز

وتشير الأبحاث إلى أنّ المشاهير عمومًا يسجّلون معدّلات أعلى من النرجسية مقارنة بغير المشاهير؛ ما قد يُستخدَم للتدليل على دور السوشيال ميديا بوصفها مُسارعًا للنرجسية، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها أسهمت في تحقيق شهرة واسعة لدى العديد من الأشخاص، وتحديدًا في أعمار الشباب، ممّن أصبحوا يُدعَون بـ”المؤثّرين” أو “الإنفلونسرز”.

“كورونا” و”زوم”، وتضخم المساحات الافتراضية على حساب الواقع

ما زالت البشرية تعيش آثار جائحة كورونا التي ضربت البشر عام 2021 والتي ستمتدّ آثارها غير المباشرة على مدى سنوات وربما عقود، أصبح التواصلُ البشري غير المباشر أكثر حضورًا بكثيرٍ من المباشر. هذا، وإن كان له الكثير من المبرّرات الصحّية بطبيعة الحال، إلّا أنه ولّد الكثير من المشكلات النفسية والاجتماعية، فالاعتماد الكبير على العمل من البيت والاجتماعات الإلكترونية جعلنا نحن البشر مُجبَرين على أن نكون تحت مجهر تكنولوجيا التواصل بأشكالها المختلفة، واختزل وجودنا نوعًا ما بصورة متحركة على مربّع في شاشة “زوم”، ولم تَعُد هذه الأشياء خيارًا، بل ضرورة وسط ظروف قاهرة

المزيد من العوالم الافتراضية والتواصل غير الواقعي يعني مزيدًا من الاهتمام بالصّورة أكثر، ولا أدلَّ على ذلك من ازدياد الإقبال على عمليات التجميل والاستشارات والشكاوي النفسية (الخاصة بصورة الجسد، Body Image) بشكل كبير بعد الشّروع بالإغلاقات وإجراءات الحظر حول العالم، وشيوع التواصل عبر برامج التواصل الإلكتروني بشكل رئيسي. فهل من الممكن أن يُسهم ذلك كله في تعزيز السلوك النرجسي أو زيادة ظهوره؟ يظلّ هذا السؤال يرسم الإجابة في ظلّ عدم وجود إجابات بحثية واضحة عليه

وقد تناولت بعض الدراسات الحديثة جدًّا (نُشرت في 2020 و2021) اختلاف بعض أنماط السلوك لدى النرجسيّين في التعامل مع الجائحة ومعتقداتهم تجاهها، خصوصًا في مَعرض الحديث عن نظريات المؤامرة وخطابات “النرجسية الجماعية” التي ترفض الإغلاقات والتحفّظات الطبّية والإجراءات الصحية بخصوص الفيروس، إلّا أن الكثير من الأسئلة حول النرجسية في زمن الجائحة وما سبّبته من ظروف تبقى مفتوحةً، حيث إن الفرضيات المطروحة كثيرة والعوامل المتغيرة أكثر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *