حوارات، مجتمع

“خمسة أسئلة”.. في الحاجة لتدارك تأخرنا في الاهتمام بالصحة النفسية وتقنين الكوتشينغ

تُعوّل دول العالم المتقدمة بشكل كبير على المهارات النفسية والاجتماعية، لتأهيل الناشئة وتعزيز قدراتها المعرفية والمهاراتية، والوقاية أيضا من المشاكل المرتبطة بالصحة النفسية والعقلية عند الأطفال والمراهقين، كالإدمان بأنواعه والسلوكات العنيفة ومشاكل التواصل وغيرها. علاوة على ما لهذه المهارات من فوائد على البالغين، خاصة الاندماج المهني والأسري الجيد.  

هذا النقاش العالمي، ظل غائبا بشكل أو بآخر على المستوى الوطني، خاصة فيما ارتباطه بمؤسسات الدولة، لتبقى مجهودات الفاعلين والمهنيين يتيمة وغير مسنودة بأي دعم رسمي، إلى أن ظهرت آخر سنة 2022، دراسة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، بمناسبة اليوم العالمي للصحة العقلية، ورأي قدمه ذات المجلس فيما يخص مواجهة الإدمانات السلوكية، وتطرقها لهذه المهارات كآليات للحماية.

ولنقاش هذا الموضوع، تستضيف جريدة “العمق” الطبيب النفساني، محمد سعيد الكرعاني، أحد أبرز الوجوه المغربية المدافعة عن المهارات النفسية والاجتماعية، في فقرة “خمسة أسئلة”، للإطلاع أكثر على ماهية هذه المهارات النفسية والاجتماعية وأهميتها في حياة الأفراد، وأثر ذلك على المردود الدراسي والمهني والمجتمعي بصفة عامة، دون إغفال التنبيه للتأثيرات السلبية لما يسمى بـ”الكوتشينغ” والفرق بينه وبين هذه المهارات.

سبق للمجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي أن أصدر توصيات بمناسبة اليوم العالمي للصحة العقلية، من أجل بلورة سياسات عمومية للوقاية من الاضطرابات العقلية والمخاطر النفسية، كيف استقبلتهم هذه الخطوة؟

بطبيعة الحال، أن تهتم مؤسسة دستورية غاية في الأهمية كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بموضوع الصحة العقلية والنفسية وما يتفرع عنها من قضايا مرتبطة بالإدمان وقاية وعلاجا، لا يمكن إلا أن يدخل السرور على المهنيين والمهتمين في قطاع الصحة العقلية.

وربطا لهذا التوصيات بموضوع المهارات النفسية والاجتماعية، يجب الإشارة إلى أن هذه المهارات تندرج في إطار الشق الوقائي من الصحة العقلية، أي تلك القدرات التي أبانت التجارب العلمية عن أهميتها في تدبير الحياة اليومية وصعوبتها على نحو أفضل، وهي الخطوة التي دعا إليها المجلس بإنجاز سياسات عمومية كفيلة بحماية الصحة العقلية للمواطنين.

طبعا، أمر يثلج الصدر أن نرى مؤسسة دستورية تعتني بهذا المحور وتسلط عليه الضوء، وهذا التقرير لا يمكن أن يلقى من طرف المهتمين إلا الترحيب والإشادة.

ألا ترى أننا تأخرنا كثيرا في التفكير في هذا الموضوع؟

لا بد من الإشارة إلى أن الاهتمام بالصحة النفسية كان دائما موجود، لكن درجة هذا الاهتمام هي التي تتسم بالضعف، ويلاحظ نتائج هذا عبر مجموعة من المؤشرات؛ على سبيل المثال، يتوفر المغرب على حوالي 450 طبيب نفساني فقط، وهذا المعطى يبين أن العرض الصحي في مجال الصحة النفسية ما يزال في الحاجة إلى التعزيز والتقوية.

وبالتالي، فتأخرنا في هذا المجال موجود، والوضعية الراهنة تؤكد على أنه لابد لنها فيها من تدارك هذا التأخر، فلم تعد صحة الساكنة تتدهور بسبب الأمراض العضوية فقط، وإنما تبين للفاعلين أن التدهور يرجع في شق كبير منه إلى أسباب نفسية.

 فأمراض الاكتئاب مثلا؛ مسؤولة عن انخفاض المردودية المهنية والأداء الأسري وكل المساهمات في الحياة الاجتماعية. نفس الشيئ يتعلق بالاضطرابات المرتبطة بالادمان، فهي مسؤولة عن الغيابات المتكررة في سوق العمل، والمشاكل المتعلقة بالأسرة ومسؤولة على عدد مهم من حوادث السير وما تسببه من مآسي.

بالتالي، فإن الارتقاء بالصحة العامة وبصحة الأفراد، لم يعد رهين بالاهتمام بالصحة العضوية وحدها، وإنما رهين كذلك بالارتقاء بالصحة النفسية.

أين تبرز أهمية ومكانة هذه المهارات النفسية والاجتماعي في حياة الأفراد، ماهي مجالات تدخلها؟

أولا، يجب التنبيه لكون هذه المهارات هي مجموعة قدرات ذات طبيعة نفسية وتواصلية تمنح الفرد القدرة على تدبير الحياة اليومية وصعوباتها على أفضل نحو، وغيابها يؤثر على حالته الصحية الجسدية والنفسية وعلى مردوده في الدراسة والعمل والأسرة والحياة العامة.

هذا الأمر أثبتته دراسات علمية كثيرة في عدة دول، وأصبح من التوصيات التي تؤكد عليها منظمة الصحة العالمية منذ سنة 1993، لأن المختصين وجدوا علاقة بين غياب هذه المهارات النفسية والاجتماعية وارتفاع تعاطي المخدرات، والسلوك العنيف وتشنج العلاقات التواصلية بين الأفراد، وغيرها من السلوكيات الغير مرغوب فيها.

فبالتالي، اهتمام منظمة الصحة العالمية رفقة هيئات أخرى صحية وتربوية بالمهارات النفسية والاجتماعية، جاء من باب الوقاية في مجال الصحة النفسية، لأن تعزيز هذه المهارات أبان عن قيمته الوقائية لدى الأفراد؛ وهو على قدر ما نمنح الطفل فرصة تعزيز مهاراته النفسية والاجتماعية في سن مبكرة، على قدر ما نمنحه حظوظ أكثر في مجال صحته النفسية مستقبلا، وقدرته على تحقيق تمدرس جيد واندماج مهني جيد واندماج أسري جيد، وإسهام اجتماعي جيد.

وعلى قدر ما يكون التفريط في المهارات النفسية والاجتماعية في سن مبكرة، على قدر ما يرتفع احتمال ظهور مشاكل مرتبطة بالصحة النفسية، من قبيل الإدمان على المخدرات أو الادمانات السلوكية، كإدمان الشاشات والأجهزة الإلكترونية، أو السياقة المتهورة السلوك العنيف، والمشاكل المرتبطة بالتواصل والحياة الأسرية والعلاقات داخل المدرسة، وفي الحياة العامة.

وتبقى المهارات النفسية والاجتماعية، مادة أساسية في التربية، داخل الأسرة والمدرسة معا بدرجة كبيرة، وإعداد الوالدين للتربية وللإشراف على الأسرة، أصبح أمرا ضروريا، وتكوين رجل التعليم في المهارات النفسية والاجتماعية، أصبح أسياسيا كذلك لتحسين أدائه التعليمي والتربوي. لأنها ركن من أركان نجاح عملية التربية، وهي مهارات قابلة للتعلم والاكتساب، لم يعد مبررا إغفالها، بل أصبح من الواجب أن تكون جزء أساسيا في عملية التربية وداخل المدرسة.

كيف يمكن التمييز بين المهارات النفسية باعتبارها مهارات علمية تنهل أساسها النظرية والمعرفية من علم النفس، وبين ما يتم تداوله في تحت مسميات التنمية الذاتية وتطوير الذات؟

في رأيي، من الممكن إيجاد صيغة مفيدة يصبح بها الكوتشينغ لاعبا إيجابيا في دعم الأفراد، ولكن بشرط أن يخرج من المنطقة الرمادية الموجود فيها حاليا، إلى منطقة واضحة ومؤطرة قانونيا بإشراف من المتخصصين، فلم يعد من الممكن القبول بأن يظل مجال التنمية الذاتية بدون إطار قانوني واضح وبدون إِشراف علمي تخصصي.

ولكي يكون الكوتشينغ والتنمية الذاتية مفيد للناس وغير مضر بهم ويهدد صحتهم، لابد من إطار قانوني وإشراف علمي تخصصي، أما إذا تركنا الأمور كما هي الآن، فإن الحالات المتكررة التي تتوافد على الأطباء النفسانيين من أشخاص مروا عبر الكوتشينغ، تسبب في تأخير تشخيص أمراضهم وعلاجها، وكانت المبالغ المالية التي أنفقوها جد كبيرة، في حين أنه كان من الممكن الاهتمام بحالتهم الصحية بشكل مبكر وصحي، دون لجوءهم إلى مجال التنمية الذاتية الذي كان مفتقدا لمنهجية سليمة.

قربنا قليلا من مشروع جمعية المهارات النفسية والاجتماعية التي ساهمتم في تأسيسها، وما هي أبرز أنشطتها والتكوينات التي تشرف عليها؟

بالنسبة لجمعيتنا، المؤسسة المغربية للتكوين في المهارات النفسية والاجتماعية، هي جمعية وطنية، أسسها عدد من أطر التربية والتعليم والصحة، وآباء وأمهات التلاميذ ومهتمين جمعويين بمجال الطفولة والشباب، والغرض منها، هو الإسهام في الوعي المجتمعي بقيمة الوقاية في الصحة النفسية، وأن هذه الصحة النفسية لا ترتبط فقط بالمؤسسات العلاجية والمستشفيات، وإنما تضم شقا وقائيا يتدخل فيه المجتمع عبر الأسرة والمدرسة والجمعيات.

أما بخصوص البرامج التي تسطرها جمعيتنا، فهي مرتبطة بإسداء خدمة تكوينية للمجتمع في مجال الوقاية في الصحة النفسية، وليست بجمعية علاجية، بل هي مشروع تكويني تربوي في مجال الوقاية، وتتوزع العروض التكوينية التي تقدمها هذه الجمعية على محور المهارات النفسية والاجتماعية العامة، فيه يكون الحديث عن التقدير الذاتي والسلوك التوكيدي وتدبير التوتر، وغيرها من المهارات النفسية والاجتماعية. 

وهناك محور ثان، يتعلق بالتربية الوالدية، يكون فيه الحديث عن المهارات التربوية التي يحتاجها الأب والأم في عملية التربية بطريقة صحية تخدم أغراض الوقاية في الصحة النفسية، ثم هناك محور التمدرس الفعال، حيث يكون الحديث عن المهارات التي يحتاجها المتعلم لكي يكون مساره الدراسي مسارا يخدم صحته النفسية وازدهاره التربوي.

كل هذه البرامج التي تقترحها الجمعية تندرج في سياق خلق وعي مجتمعي بقيمة الوقاية في الصحة النفسية، وقيمة التكوين للآباء والأمهات، ولأطر التربية والتعليم في هذا المجال، لأننا نؤمن بأنه كل طفل هو مشروع مستقبل، وكل عرض تربوي قدمناه للوالدين ولأطر التعليم، يكون في خدمة الازدهار التربوي والنفسي لهذا الطفل في المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *