وجهة نظر

الداخلة.. بوابة المغرب نحو افريقيا والعالم

قمت خلال الأيام الماضية بزيارة لمدينة الداخلة للمشاركة في ندوتين تعرضت من خلالهما إلى موضوع “الترافع الاقتصادي عن الأقاليم الجنوبية للمملكة” وموضوع التوجهات الاقتصادية للمملكة من خلال البوابة المينائية، الأقاليم الجنوبية أنموذجا”، وهي أول مرة تطأ فيها قدماي أرض جزء عزيز من تراب هذا الوطن، لطالما تعرضت له في عدد من المقالات والأبحاث والبرامج التلفزية والإذاعية من جوانب مختلفة، تارة ، تاريخية – دبلوماسية، وتارة أخرى اقتصادية وقانونية، وذلك دون أن يكون لدي تصور واقعي عن هذه الأقاليم، ومهما كانت التصورات القبلية التي تشكلت لدي من خلال قراءاتي المتعددة أو مشاهدتي لبرامج عن تتحدث عن المنطقة أو عبر لقاءات جمعتني مع بعض أهلها أو ممن وفدوا عليها، إلا انني اعترف أن تمثلاتي ظلت قاصرة عن إدراك واقع هذه المناطق وخصوصياتها الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية وايضاً الثقافية.

انفتاح وتعايش وتقاليد عريقة

لقد سعدت كثيراً وأنا أتجول بين شوارع وأزقة مدينة الداخلة، مدفوعاً بشغف وفضول طفولي، تارة ألج إلى أسواقها وبعض دروبها الضيقة وتارة أخرى أختلط بسكانها واتبادل أطراف الحديث معهم، وأحاول من خلال ذلك فك رموز هذه المدينة المتميزة جغرافياً وساكنةً وثقافةً وقريبا ستكون متفردةً اقتصادا وتنميةً. لقد جذب انتباهي خلال هذه الرحلة تنوع سكاني فريد، سكان محليون وآخرون وافدون، أجانب مقيمون وآخرون عابرون، الكل يتعايش فوق هذه الأرض المضيافة المعطاء، تعايش لا تكاد العين تخطئه، وهو ما يدحض فرضية انغلاق المجتمع الصحراوي بجنوب المملكة، فهو مجتمع فخور بجدوره العربية الامازيغية وتقاليديه الصحراوية العريقة وفي الآن ذاته منفتح على الآخر بالقدر الذي يجعلك تغفل عن الحدود اللغوية والثقافية التي تفصل بينهما. هذا الانفتاح لمسته أيضاً من خلال حديثي مع عدد من الشباب الصحراويين على هامش الندوتين أو خلال جولاتي بالمدينة وأحوازها. شباب مثقف متطلع للنهوض بهذه المناطق، يجمعون بين الأصالة والحداثة بين الانتماء الكبير لهذا الوطن وبين الافتخار بالخصوصية، شباب يتحدثون بلغات عديدة في اطار تواصلي راق لم أستطع معه الا الاستسلام للإنصات المتمعن لما يقولون، تحدثوا عن المشاكل التي تواجههم كما تحدثوا عن تطلعاتهم وعن رغبتهم في الاسهام في تنمية المنطقة، تعددت سبلهم غير أن ما يجمعون عليه هو سعي موحد للنهوض بالداخلة وجعلها قاطرة أخرى من القاطرات التي ستجر هذا الوطن نحو النمو والازدهار.

رحلتي قادتني لما هو ابعد من الداخلة، باقتراح من صديقنا أحمد الصلاي أحد أبناء المنطقة توجهنا الى عمق الصحراء المغربية، إلى الكركارات، رحلة اكتشفنا من خلالها وجها آخر للصحراء المغربية، امتداد كبير، وفرص اقتصادية واستثمارية واعدة، على امتداد الطريق تصادفك خيام عديدة لمن اختار من سكان الصحراء البقاء وفيا لتقاليده البدوية المتميزة كما تصادفك من حين لآخر قطعان من الابل تخترق كثبان الصحراء المتناثر وهي تتنقل من مرعى لآخر في أمان، فلا حرب هنا ولا قصف، كل ما هنالك استقرار وتنمية متدرجة لهذه الأقاليم الشاهد عليها أيضاً قرى عديدة توقفنا عنها بالمهيريز وبير كندوز، قرى ومراكز حضرية مجهزة بالخدمات الأساسية عل الرغم من قلة كثافتها السكانية، ماء وكهرباء وصرف صخي ومراكز صحية ومصارف ومحطات وقود ومقاه وفنادق أيضاً، هذا ما رأيناه على امتداد الطريق الى الكركارات، مع غياب تام لكل مظاهر العسكرة.

الكركارات، أقصى نقطة حدودية في جنوب المملكة، لا أنكر انه عند بلوغي هذه النقطة اعترتني مشاعر خاصة، مزيج من الفخر والاعتزاز ، مشاريع أنجزت وأخرى في طور الإنجاز، ومدينة صغيرة في طور النمو والاكتمال، بوابة المغرب نحو افريقيا، نقطة اتصال وعبور وتجارة .. بكل بساطة إنها شريان حياة؛ مدينة نواذيبو على مرمى حجر تعتمد بشكل كبير على هذا المعبر للتزود بحاجياتها من الغذاء والمواد المصنعة، قوافل طويلة من الشاحنات تنتظر العبور في كلال الاتجاهين، أمر مفرح .. فقبل سنوات عدة كانت هذه المنطقة تدعى قندهار .. لا سلطة و لا أمن ولا أمان … سوى الفوضى والاعتداءات على السائقين والعابرين، .. انتهى ذلك الزمن ولن يعود .. هذا ما أكده لي عدد من أفرد قوات الامن المغربي، رجال أرفع لهم القبعة اعترفا بتضحياتهم الجسام واحتراماً وتقديراً لما أسدوه لهذا الوطن.

هوية اقتصادية جديدة

أوراش عديدة في طور البناء، طرقً ومناطق صناعية ومزارع وقرى سياحية ترى النور، الكل يتغير بسرعة، لا حديث هنا إلا عن مستقبل المنطقة بعد انتهاء الاوراش، وهو الامر الذي جعلني أقارن بين الداخلة ومسقط رأسي بطنجة، فلكل يعلم أن المناطق الشمالية للمملكة كانت حُبلى بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وكلنا يستحضر فترة الثمانيات وبداية التسعينيات حيث شهدت المنطقة عدة اضطرابات اجتماعية، ارتبطت بالوضع الاقتصادي الهش الذي كانت تعيشه. اقتصاد كان يقوم على الأنشطة غير المهيكلة والتهريب، إلى جانب تفشي شبكات الهجرة غير النظامية وبعض الشبكات الاجرامية التي كتنت تنتعش من هذا الوضع الذي كان يغديه أيضاً الوضع الخاص لمدينتي سبتة ومليلة المحتلتين، وهو الأمر الذي دفع باتجاه التفكير في حلول جذرية تخرج المنطقة بأكملها من هذه المعضلة الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تهدد بالانفجار من حين لآخر.
الحل كان يكمن في خلق هوية اقتصادية جديدة للمنطقة بالاعتماد على خصوصيتها الجغرافية والبشرية، وبما أنها تقع بالقرب من أوروبا وعلى وتطل على أهم الطرق التجارية البحرية الدولية، ارتأت المملكة استغلال هذه الإمكانيات من خلال إنشاء مركب مينائي ضخم فاقت تكلفته ملايير الدولارات، بعضها كان جزءاً من عائدات الخصصة التي قامت بها الدولة لعدد من المقاولات العمومية خلال فترة التسعينيات.

هذا التوجه الجديد أثمر مركبا مينائيا بمواصفات دولية أسندت مهام تدبيره لوكالة مستقلة واستغلاله للمستثمرين الخواص، وهي مقاربة جديدة في التدبير والاستغلال تجميع بين العام والخاص في مقاربة تشاركية متفردة كانت إحدى عوامل نجاح هذا الميناء، الذي أصبح من الموانئ الرائدة على المستوى الافريقي والدولي أيضا.

هذا المركب المينائي خلق حركية اقتصادية شملت معظم المنطقة بل امتدت إلى عموم المملكة، فسرعان ما اصبح المركب المينائي أكبر منطقة صناعية حرة إقليماً، وأحد أكبر الموانئ المصنعة والمصدرة للسيارات في العالم، هذه الدينامية كان لها أثر آخر على بعض القطاعات الخدماتية والفلاحية حيث دفع النمو المطرد للمركب المينائي الى انخراط المطنقة في مجموعة من مشاريع البنية التحتية العملاقة ( الطرق السيارة- الطربق السريع المزدوج – القطار الفائق السرعة – موانئ الترفيه – المركبات الفندقية – مؤسسات التكوين المهني والبحث العلمي …..)، وهو ما انعكس مباشرة الحركية الاقتصادية وضاعف خلق مناصب الشغل بالمنطقة التي تراجعت فيها الأنشطة غير المهيكلة بشكل كبير، كما تراجعت أنشطة التهريب، الامر الذي مكن المملكة المغربية من اتخاذ أحد ابرز القرارات في هذه الصدد وهو منع التهريب المعيشي، الامر الذي حرم مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من ثقلهما الاقتصادي وحولهما إلى عبئ على الموازنة الاسبانية.

هذا الوضع الجديد قوى الموقف التفاوضي للمملكة مع أهم شركائه الاقتصاديين وهي اسبانيا، التي عملت على احتواء هذا الصعود الاقتصادي للمملكة المغربية من خلال السعي لعقد شراكات مع المغرب حتى تستفيد من هذا الوضع عوض ان تسلك منطق المواجهة والصدام كما فعلت بعض الدول الجارة، كما عمدت إلى ملائمة مواقفها السياسية إزاء المملكة المغربية عبر الاعتراف بمشروع الحكم الذاتي كحل واقعي للنزاع المفتعل حول الأقاليم الجنوبية، كما سعت للانخراط في مشاريع كبرى مع المملكة المغربية كمشروع النفق القاري ومشروع التنظيم المشترك لكأس العالم إلى جانب مشاريع أخرى مرتبطة بالطاقات المتجددة والنقل.

خلاصة القول، لقد ارتأيت تدوين هذه الارتسامات عن مدينتي الداخلة وطنجة لِما لمست من تقاطعات بين المدينيتن، فالنموذج التنموي الذي اعتمد في الأقاليم الشمالية يمكن اسقاطه بنجاح على المناطق الجنوبية عبر جعل مدينة الداخلة بوابة مينائية موجهة نحو القارة الإفريقية وأمريكا الجنوبية، وهو الامر الذي ستكون له حتما انعكاسات جد إيجابية على المنطقة من حيث تقوية جاذبيتها الاستثمارية، وخلق فرص الشغل وتقوية البنية التحتية، وهي الدينامية الاقتصادية التي سيكون لها حتما أأثر سياسي داخلي وخارجي؛ فخلق مناصب الشغل ورفع الدخل الفردي وتقوية القدرة الشرائية من شأنه تعزيز أواصر الارتباط بالمجال وتعزيز الاستقرار والسلم الاجتماعي، شأنها في ذلك شأن الأثر الذي خلفته هذه السياسية بعدد من المناطق الشمالية

على المستوى الخارجي من شأن تقوية العلاقات الاقتصادية مع دول القارة الافريقية وأمريكا اللاتينية أن يجعل مواقفها أكثر اعتدالا واتزانا اتجاه المملكة المغربية، والامثلة على ذلك كثيرة وعديدة. المطلوب اليوم هو تسريع إخراج مشروع ميناء الداخلة الأطلسي الى حيز الوجود والمشاريع الملحقة به، وفتح أبواب تطوير المقاولات المحلية خاصة الشابة منها وتعبيد الطريق امام انخراطها في هذه الدينامية الاقتصادية دون اغفال تحفيز الاستثمار الأجنبي وجلب الخبرات الخارجية.

مدينة الداخلة تمتلك اليوم كل المقومات لتصبح منارة اقتصادية ودبلوماسية يمتد اشعاعها عبر الجنوب نحو آفاق قارية ودولية واعدة، شأنها في ذلك شأن مدينة طنجة شمال المملكة المغربية، فلا حرب يخوضها المغرب اليوم بالجنوب سوى حربه على الفقر وجهاده الأكبر من أجل تحقيق التنمية والرقي.

* أستاذ باحث في قانون الأعمال
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية – المحمدية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *