وجهة نظر

دول العالم “الحر” ترسب في امتحان قيم العيش المشترك

المواقف وحدها تفضح حقيقة الشعارات والخطابات التي تدعيها عدد من دول العالم الذي يوصف بـ “الحر” حول التسامح واحترام الآخر والعيش المشترك، وغيرها من الشعارات الرنانة الطنانة.

وكان يوم الأربعاء 12 يوليوز 2023، يوم امتحان لتلك الشعارات بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بمناسبة التصويت مشروع قرار قدمته منظمة التعاون الإسلامي بشأن عدم احترام القرآن والاعتداء عليه.

وفيما صوت لصالح القرار -الذي يدعو إلى إدانة الاعتداءات التي تستهدف القرآن ووصفها بـ “كراهية ضد الدين” -28 عضوا أبرزها دول عربية وّإسلامية ومنها المغرب وقطر والسودان وباكستان، ودول غير إسلامية كالصين والهند وأوكرانيا وفيتنام. عارضت 12 دولة القرار، وأبرزهم فرنسا وألمانيا، وبريطانيا والولايات المتحدة.

فماهي الرسالة التي وجهتها هذه الدول لقرابة 2 مليار مسلم (25% من سكان العالم) وأتباع ثاني أكبر دين في العالم (الإسلام) برفضها إدانة الاعتداءات على القرآن الكريم؟ وهل يستقيم أن يكون الخوف على حرية التعبير مبررا قويا ومتماسكا لموقف الرفض؟ وماذا يعني سماح السلطات السويدية مرة أخرى (بعد جلسة التصويت المشار إليها) بالإساءة للمصحف الشريف أمام سفارة العراق باستوكهلم؟

الجواب الأوَّلِي، أن ذلك فيه استخفاف بـقرابة 2 مليار مسلم، وتأكيد واضح لمن كان ما يزال ينتظر دليلا وحجة على أن حديث العالم الذي يوصف بـ “الحر” عن التسامح والعيش المشترك يقصد به بالأساس، ما يهم مصالحه وقناعاته التي يتبناها، ويريد للباقين تبنيها إما اختيارا واتباعا أو إجبارا بطرق مختلفة فيها الناعم وفيها الصلب. ولا تهمه عقائد الآخرين وقناعاتهم الدينية والحضارية، وخاصة المسلمين.

والجواب الواضح -على الأقل من وجهة نظري-أن ذلك العالم “الحر” لم ير الإساءة للمصحف الشريف جريمة ومس بقيمة العيش المشتركـ بل يعتبرها “حرية تعبير”، لأنه -للأسف-ينطلق في موقفه وتصويته عن تصور متكامل يؤطر تعامله مع قضايا المسلمين عموما، يجد جذوره الحقيقية-قد تخبو وتضعف لأسباب تجارية واقتصادية أو سياسية لكنها لا تغيب-في نظرية صمويل هنتنغتون حول صدام الحضارات وما تحدث عنه فوكو ياما في “نهاية التاريخ” وهيمنة المركزية الغربية.

وهناك شواهد كثيرة ( حالات التضييق على الجاليات المسلمة في عدد من الدول الغربية تؤكدها تقارير رسمية حول تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا بشكل كبير)  تؤكد ذلك، ولا تنفع اللغة الديبلوماسية، ولا اللغة الملساء (التي تفيد الشيء وضده) في التغطية عن هذه الحقيقية، التي فشلت عشرات إن لم تكن المئات من المؤتمرات عن حوار الحضارات والتسامح والعيش المشترك، التي أثبتت وقائع متعددة أنها لمجرد الاستهلاك الإعلامي، والضغط الناعم على البلدان العربية والإسلامية، والتدخل في عدد من سياساتها وبرامجها (التعليمية والثقافية والدينية) في استغلال بشع للوضع الصعب للعالم العربي والإسلامي حضاريا واقتصاديا وتكنولوجيا ورقميا و…

والسؤال المطروح اليوم، هو كيف نواجه هذا التمترس بـ “حرية التعبير” لتبرير السكوت عن الإساءة لرموز المسلمين وأساس دينهم (القرآن الكريم)؟ ولئن كان الجواب المتداول والموسمي على هذا السؤل هو العمل على المقاطعة الاقتصادية للبضائع، لأنها اللغة التي يفهمها هذا العالم “الحر”، فإنه جواب ناقص من جهتين؛ الأولى أنه جواب شفوي عاطفي لحظي، ولايدخل حيز التنفيذ، ولو كان حصل بشكل جماعي في البلدان الإسلامية ولو لمدة قصيرة جدا، لما تكرر التجرؤ على رموز المسلمين وعقيدتهم بهذا الشكل. والثاني أنه جزء من الجواب وليس كل الجواب، فثمة جزء آخر مهم أيضا.

ويتعلق الأمر بضرورة تمسك المسلمين بأمرين أساسيين؛ الأول الحرص المستمر على إعطاء صورة مشرفة عن دينهم في سلوكهم وتعاملهم مع بعضهم، ومع غيرهم بتمثل القيم والأخلاق القرآنية وجعلها قيما وأخلاقا ناطقة ملموسة، ولا شك أن عددا من الغربيين أسلموا بسبب معاملة وسلوك عدد من جيرانهم وأصدقائهم أو زملائهم المسلمين. والثاني التمسك بالتعامل الحضاري وقيم التسامح والعيش المشترك.

وقد قدم المسلمون في ذلك تاريخيا نماذج مشرقة خالدة، لأنها بكل بساطة قيم أصيلة في الدين الإسلامي، ويطول المقام بشرحها وتقديم نماذج منها؛ فضلا عن دعوات في العصر الحديث والحالي إلى بناء الجسور بين الحضارات أو التصالح الحضاري بدل منطق الصدام والصراع، انطلاقا من قول الله تعالى في سورة الحجرات ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير”، وهي كما لا يخفى آية تحث على بناء جسور التعارف والحوار بتجاوز عوائق تنوع الأجناس والأمم. وكذلك في قوله تعالى في سورة آل عمران ” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *