وجهة نظر

خطاب البام.. الخطر المحدق

بقراءة سريعة لطبيعة الخطاب الذي يتبناه حزب الأصالة والمعاصرة والذي ارتفعت نبرته في الآونة الأخيرة سواء في بياناته المكتوبة أو خطاب بعض قادته، خاصة بعد نتائج تشريعيات السابع من أكتوبر الجاري، يتضح أنه قد تقمص دور الناطق الرسمي باسم التيار المعادي للإسلاميين وحامل لوائه في الساحة السياسية والمعبر عن طموحاته النزقية وموحد جبهة القصف..

فالمواقف التي تصدر بين الفينة والأخرى عن رموز حزب البام، الوافد قسرا على الواقع السياسي المغربي، تجاه حزب العدالة والتنمية ومرجعيته، وإن لم تكن من مستوى الأدبيات الراسخة المبنية على معانقة ومكابدة السؤال المحدد للخيارات الوجودية الأصيلة، إلا أنها عامل من عوامل التأزيم وترسيخ الفكر الإقصائي المستدعي لشروط التوتر ونفي الآخر المختلف..

منطق الطفرة السياسية، وإن كان بإمكانه تشكيل حزب بمعنى الإطار الجامع لتكتل بشري، إلا أنه يبقى إضافة هجينة تعاني من تشوهات بيِّنة، إذ ليس بمقدوره بناء منظومة فكرية مرجعية تؤسس للاختيارات الكبرى للكيان المستحدث مبنية على القناعات العقلية والارتباطات الوجدانية الخاضعة للنقد والتصويب والضامنة للاستمرارية في وجه المصلحية والانتهازية والوصولية..

إذا كان الحال كذلك فكيف يمكن تفسير الحمولة الإيديولوجية للحقول الدلالية المستعملة والتي يسهل تصنيفها في خانة التطرف؟ هل هي فعلا أيديولوجيا الحزب؟ هل هي قناعات راسخة لدى القمة والقاعدة(إذا وجدت أصلا هذه الهرمية)؟ وهل دائرة الاستقطاب تتوسع حسب هذا المعطى؟

من المتعارف عليه أن الخيارات الإيديولوجية تبنى بالتراكم وتتقوى بالقدرة على الصمود أمام النقد والأفكار المعارضة الأمر الذي يتطلب عقودا من البناء الممنهج المنطلق من مقدمات خاضعة لمنطق معين الهادف إلى نتائج غير متناقضة، هذا المخاض لا يشترط فيه شكل معين أو نموذج مخصص فقد يكون مكابدة عقلية حجاجية وقد يعبر عنه بكتابات وخطوط تحريرية، و قد يكون جماعيا كما يجوز فرديا.. وبتطبيق القاعدة على الأصالة والمعاصرة فإن شيئا منها لا ينطبق عليه، ذلك أنه أسس على حين غرة من التاريخ والجغرافيا السياسية المغربية ولم يمر بالمخاض الطبيعي لولادة المشاريع المجتمعية المستوردة منها والأصيلة، وبالملاحظة البسيطة يتضح أن هناك ثلاثة روافد أساسية ترتكز عليها إيديولوجية الحزب وتؤطر معظم خطابات وبيانات قادته.

أولها الموروث القديم

ويبرز بشكل صريح في لغة بعض قادته وخاصة أمينه العام حيث الاستدعاء الواعي، أو اللاواعي، لمصطلحات ومفاهيم تنتمي لمرحلة تاريخية عاشها المغرب وخاصة إبان أوج الصراع اليساري الإسلامي بكل توتراتها الإيديولوجية والمجتمعية مع الاحتفاظ بنفس النماذج التفسيرية دون مراعاة لتغير الظرفية وتطور الأفكار وتغير معطيات الواقع، وهو استدعاء يتأسس على فرضية مفادها أن قوة الموقف تنبني على التجذر اللفظي وحدية الخطاب وأن كسب الميدان يتطلب الحسم المادي والمعنوي تحت يافطة اللامهادنة.. وهو منطق يتقاطع مع قناعات بقايا اليسار المتطرف خاصة في شقه الطلابي الذي ما زال يعشش ببعض الجامعات والذي تحول بدوره في العديد من المواقع إلى مجموعات وظيفة بيد رموز التحكم في تبادل للأدوار مفضوح.

ثانيها التحالفات الموضوعية أو الصريحة.

خلطة الأصالة والمعاصرة المعدة على عجل كان يؤمل منها، إلى جانب تأميم الحقل السياسي ومصادرة الخيار الديمقراطي، محاربة الإسلاميين وتحجيم دورهم في المجتمع وكبح جماح قوتهم الصاعدة.. وهي أهداف تتقاطع مع توجهات تيارات مجتمعية قائمة داخل السلطة وخارجها، حيث شكلت مساحة الهدف المشترك فضاء لتحالف موضوعي تارة وصريح تارة أخرى، لحظي مرحلي حينا و استراتيجي على طول الخط حينا آخر.

وقد أدى هذا المزيج الغير متجانس من الأيديولوجيات والتركيبة الهجينة (علماني، يساري، سلفي، سلطوي، ليبرالي، حداثي، مصلحي…) إلى بروز هوية مشوهة وانفصاما في شخصية الخطاب السياسي والأيديولوجي لحزب البام يصعب ضبطها أو إرجاعها لأصل مشترك. ومن أسف فإن هذه التيارات قد انسحبت إما طوعا أو كرها من حلبة الصراع الحقيقي مع الاحتفاظ بإيديولوجياتها إلى خوض حروب بالوكالة ظنا منها أن خلو الساحة من الإسلاميين سيفتح أمامها الآفاق للتبشير بما تؤمن به بحرية ودون إزعاج.. والحال أن توالي المواقف والمحطات يرسخ ذوبانها في أمعاء هذا المخلوق الهجين وانطماس معالم هويتها في بوتقته وفقد شخصيتها الاعتبارية لصالح مشروعه الأحادي القطبية.

أما ثالثة الأثافي في تشكيله الإيديولوجي فتتمثل في المصالح المشتركة.

من الواضح أن جهات نافذة في الدولة لا تأبه كثيرا للتمايزات الإيديولوجية ولا للألون السياسية بقدر ما يشغلها الحفاظ على مكاسبها السلطوية والريعية التي ظلت تحتكرها لعقود خلت في غفلة من الوعي الجمعي الذي عرف انتعاشة ملحوظة بعد حراك 2011؛ هذه الجهات التي ليس من مصلحتها دمقرطة المشهد السياسي المغربي نظرا لما يمثله من زحزحة قد تغير معادلة الواقع .. سارعت لعقد تحالف مصلحي على أرضية واحدة تتمل في حماية مكتسباتها بأي وسيلة كانت.

إن شعارات الحداثة والديمقراطية والحرية.. مجرد إعلانات للبهرجة وللتمويه عن الوجه الكالح والمتوحش للخيار الانقلابي على المكاسب الديمقراطية على قلتها وحداثة العهد بها، وعلى القوى الحية في هذا البلد أن تمتلك الجرأة للقفز على تناقضاتها الإيديولوجية وتأجيل التشاكس والخلاف في أفق توحيد المعركة تجاه الخطر المحدق الذي إن استحكم لن يستثني صديقا أو مقربا ولن يراعي إلا ولا ذمة في المبادئ والقيم، ولنا من الأمثلة الحية بالجوار ما فيه مزدجر.