منتدى العمق

عندما يلبس الفاعل المدني قبعة السياسي

المفترض في الفاعل المدني أن يكون ناطقا بنبض المجتمع يتبنى همومه ، ويصبو إلـى تحقيق آماله وطموحاته ، عـلما أن قضايا المجتمع وهمومه تتجدد باطراد فترفع بذلك سقف التحدي أمام الفاعـل المدنـي والجمعـوي والمثقـف بصفة عامـة ، باعتباره مصباحا ينير الدروب المظلمة ، كالشمعـة التي تحـرق ذاتها ليستنير غيرها ، الفاعـل المدني ، يتزود بنـور العلـم لينـور عقلـه وفـكره ويشـع بنـوره في محيطه ومجتمعه ، فينفع بذلك جيله و الأجيال القادمة بعده ، وهذا يفرض عليه ان لا يلبس قبعة السياسي ، حتى وان كانت لـديه ميـولات سياسية ، حتـى لا تزيـغ بوصـلته ، وتـزول مصـداقيته…

فالفاعـل المدني الواعـي هو الذي يحترق ليستنير غيره ، ويتعـب ويعاني ليستريـح غيره من أبناء وطنه ومجتمعه ، يسهم إلى جانب غيره من الفضلاء في بناء نخبة واعية بحقوقـها و واجباتهـا ، تسعى الى رقي أمتها… ، و بهذا المعنى يصبـح المثقف أو الفاعل المدني بصفة عامة ، هو القلب النابض داخل المجتمع ، يتحمل التضييق ليعيش أبناء وطنه في سعة ، والسجن ليعيشوا في حرية ، يحترق ويحترق من أجل سعادة بني وطنه و أمته …،

و هذا لا يتأتى له ، إذا كان لابسا لقبعة رجل السياسة يلمع أفكاره، و يسوغ أعماله حتى و إن كانت خاطئة مقابل أطماع زائلة ومصالح ذاتية، فيسهم في الهدم بدل البناء… ويخلق رأياعاما هجينا تابعا غير مبدع هادما غير بان… وهنا تحضرني مقولة رائعة ، للمفكر والأديب اللبناني ميخائل نعيمة حيث قال : ” ليس المجد أن تمشـي إلى غاياتك الأرضية علـى أكتاف النـاس . إنما المجد أن تحملهـم على كتفيك إلـى غاياتهـم السماوية …”

فما أصعب أن يكون صاحب الفكر والقلم أسيرا عند من يملك سلطة المال، أو سلطة القرار السياسي ، يسبح بحمـده ويلهـج بذكـره ، يقدس قراراته وتوجهاته ويسوق لها بعـدما كان ينتقـد غيره ويفـنـد أقواله و أفعاله، علما أن الفاعل المدني جاء في الأصل ليدافع عن الأغلبية الساحقة من أبناء مجتمعه الذين عاشوا القهر و التضييق والتهميش و التركيع الذي كانت تمارسه عليهم السلطة الحاكمة ، والمتحكمة لعقود من الزمن ليست بالهينة ..

ليس عيبا أن يصبح الفاعل المدني ، فاعلا سياسيا ، ولا ينقص ذلك من شأنه …لا أبدا ، عليه فقط أن لا ينسى القيم والمطالب التي كان يدافع عنها يوم كان فاعلا مدنيا ، مـن حرية و ديمقـراطـية وعدالة اجتماعية وما إلى ذلك …علـيه أن لا ينسـى لائحـة المطالب التي كان يرفعها و يدافـع عنها بشراسة واستماتة أمام صانعي القرار سابقا و أنه كان يرفض تبريراتهم في مرحلة من المراحل خلت …

إذا اشتغل الفاعل المدني في السياسة بهذا المنطق ، ولم ينهزم أمام سلطة المال و إغراءات المنصب وسلطة القرار ، سيحقق الكثير والكثير مما عجز عنه غيره لفائدة أمته ومجتمعه، وسيتميز في أدائه إذا أحسـن توظيف رصيـده الفكـري والثقافـي ، وما راكمه من تجربة وخبـرة فـي العمل المدني الـدي يعتبر المحضن الرئيسي والأساس لعظماء هذه الأمة وبناتها وقائدي نهضتها من مـا نعيبـه علـى بعـض الفاعليـن المدنييـن ليس ممارستهـم للسياسـة بمـا يحملونـه مـن قيـم و أفكــــار و إبداعات، بل نعيب عليهم أن يقعوا في الشرك – المصيدة – فيصبحوا عبيـدا لصاحب الشكارة ممن يملـكون سلطة المال . او خاضعين وموالين لمن يملك سلطة القرار… ، فيلمعـون ما لا ينبغـي تلميعه من أعمالهم و يبررون أخطاءهم ، مقابل ما يغدقونه عليهم من أموال ، أو مقابل الدعم الدي يقدمونه لمـؤسساتهـم التي يرأسونها أو ينتمـون إليها أو مقابـل مصالـح مزعومة ومناصب مخدومـة … ضاربين بالمصلحة العامة عرض الحائط … وهو ما يفقد الأمل فيهم و ييئس المجتمع منهم … إذ نزلوا بأنفسهم من مقام الفكر والثقافة والريادة ، حيث كانوا يوظفون كل طاقاتهم وجهودهم للدفاع عن مصالح مجتمعهم وبني وطنهم مهما كلفهم ذلك من ثمن وصعوبات وتحديات وإكراهات … ، إلى منزلق المصلحة الخاصة وبعض المكاسب الفرديـة ، وما يقتضيه ذـلك من تبعيـة وانبطاح لأولـي نعمتهم…فتزول المصداقية…ومن زالت له المصداقية هل يبقى له من الأمر بقية…؟ فالفـاعل المـدني الحقيقـي ، هو الدي يجعل مصلحـة وطنه و أمتـه فـوق مصلحته الشخصيـة ، فيعيـش للمجتمـع ومـع المجتـمـع يتبنـى قضايـاه الـعـادلـة ، يدافـع عنهـا ويتـرافــع بشأنهـا يعـيـش لمجتمعـه ويمـوت لأجله فمـن الفاعلين المدنيين من سجن لـذات السبب ومنهم هجر ومنهم من حوصر وهمش وألصقت به التهـم ولكنه رغم ذلك لم يستسلـم ولم ينهـزم و اختار خط المقاومـة والبناء على خـط الاستفـادة الشخصية والاستغـناء والاسترزاق والانبطـاح… قـاومـوا الفساد في أنفسهم قبل أن يقاومـوه فـي غيرهـم…

لم يخونوا وطنهم ولا مجتمعم . ولم يذلوا العلم الدي يحملون ، والفكر الذي يدعون ، عاشوا أحرار او لأبناء وطنهم محررين . لم يلبسوا قبعة أحد وعاشوا تحت رحمة الواحد الأحد … لم تغرهم سلطة المال، و لم يخضعوا لسلطة التحكم والقرار … ولم يجرفهم تيار المصالح الخاصة … عاشوا أوفياء وماتوا أتقياء… فلهم جميعا عبر الأجيال والأقطار أنحني تقديرا واحتراما ، نظرا لما قدموه للإنسانية من خدمـات رغم كل ما واجههم من صعوبات وتحديات و إكراهات…

أولائك الدين لم يلبسوا قبعة أحد ، وعاشوا أحرارا يدافعون عن قناعاتهم ، و يساهمون في بناء أوطانهم.