وجهة نظر

حديث في الأسبوع العالمي للأرشيف

احتفاء بالأسبوع العالمي للأرشيف (9 يونيو 2024)، دشنت مؤسسة أرشيف المغرب معرضا وثائقيا تحت عنوان “عبدالواحد الراضي (1935-2023) .. شاهد متميز على العصر”، وذلك يوم الخامس من شهر يونيو 2024 بمقرها بالرباط، ويأتي هذا المعرض الوثائقي الذي ينظم تحت الرعاية السامية للملك محمد السادس، تثمينا للهيبة التي  بموجبها، ائتمن الراحل  في آخر أنفاس حياته، المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي، على إرثه الوثائقي، وتكريما لمسار حياتي ونضالي وسياسي وحقوقي وجمعوي على جانب كبير من الغنى والثراء، يجعل من  فقيد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، و الوزير الأسبق و قيدوم البرلمانيين المغاربة، “شاهدا متميزا على العصر”، كما وصفته “أرشيف المغرب”، ويكفي قولا، أنه  عاصر ثلاثة ملوك، وعايش مغرب الاستعمار ومغرب الاستقلال؛

 

إذا كان الراحل قد ترجل عن صهوة الحياة بعد رحلة حياتية ومهنية ونضالية لافتة للنظر، فقد ترك آثاره دالة عليه، في “أرشيف المغرب” التي قابلت الثقة بالثقة، وواجهت  الاعتراف بالاعتراف،  وهي تعيد “ذاكرة الراضي” إلى الواجهة السياسية والنضالية والبرلمانية، عبر معرض وثائقي، يوثق لذكرى ومسار  رجل مفرد، لكن  بصيغة الجمع،  استحضارا لما راكمه  طيلة عقود من الزمن، من خبرات وتجارب  سياسية ونضالية، واعتبارا لما تقلده من مهام ومسؤوليات سياسية وحزبية وبرلمانية، حولته إلى معلمة بارزة، عاكسة للذاكرة الوطنية في أبعادها ومستوياتها السياسية والحزبية والنضالية والبرلمانية وغيرها؛

 

والاحتفاء بالراحل عبدالواحد الراضي عبر  تركته الوثائقية، ما كان له أن يتحقق، لولا وجود مؤسسة أرشيفية “مجتهدة” لم تتردد في تثمين “هدية الراضي” بعد أشهر من رحيله، وهي تسارع إلى إعادة تشكيل مساره الحياتي والسياسي والنضالي والمهني، عبر ما خلفه من نفائس أرشيفية، أبت المؤسسة إلا أن تقربها من  الباحثين والمهتمين بالشأن السياسي وعموم الجمهور، تكريما للرجل وتقديرا لذاكرته المتعددة الزوايا؛

 

معرض الراحل عبدالواحد الراضي، هو أكثر من وثائق أرشيفية موثقة لتاريخ وذاكرة رجل دولة بارز “شاهد متميز على العصر”، هو علاوة على ذلك، مرآة عاكسة لمجهود شاق وعسير للمؤسسة الأرشيفية في شخص مديرها الأستاذ جامع بيضا والطاقم المساعد له، سواء تعلق الأمر بجمع المعطيات الخاصة بالسيرة الذاتية للفقيد، أو بتصنيف تركته الأرشيفية المتوصل بها، أو بحسن تنظيمها وانتقائها، أو في اختيار العنوان الجامع المانع المعبر عنها، أو بعملية تصميمها وإخراجها وتصريفها في معرض وثائقي، يضع الزائرين في صلب تجربة حياتية وسياسية ونضالية متفردة، لرجل لم يكن فقط “شاهدا متميزا على العصر”، بل كان أيضا، فاعلا ومؤثرا فيه؛

 

وفي هذا الصدد، وبقدر ما ننوه بمجهود “أرشيف المغرب”، ونثمن أدوارها الطلائعية في تثمين الأرشيفات الخاصة، تقديرا للواهبين واعترافا بمسؤولياتهم “المواطنة” في خدمة التراث الأرشيفي الوطني، بقدر ما ننوه بنفس الدرجة  بالراحل عبدالواحد الراضي، الذي ائتمن قبل وفاته، المؤسسة الوصية على الأرشيف العمومي، على تراثه الوثائقي، في خطوة مواطنة دالة على ثقته واعترافه بوزن وقيمة مؤسسة عمومية بحجم أرشيف المغرب، ونثمن مجهود كريمته، التي  لم تتردد في استكمال الإجراءات المرتبطة بالهيبة، تنفيذا لرغبة والدها رحمه الله؛

 

معرض”عبدالواحد الراضي.. شاهد متميز على العصر”، ليس فقط “تذكرة سفر مجاني” نحو  شعاب ذاكرة أحد الرموز السياسية والنضالية البارزة في تاريخ مغرب الاستعمار ومغرب الاستقلال، بل هو أيضا، لحظة بالنسبة للبعض، للتعبير عن مشاعر الحسرة والأسف، عما وصل إليه المشهد السياسي من مظاهر التراجع  والتواضع، في ظل بنية سياسية عقيمة، تعيش أزمة نخب ورجالات وكفاءات. لذلك، كلما ترجل عن صهوة الحياة “زعيم” أو “قيادي” أو “مفكر” أو “عالم” أو “مبدع” من “جيل الرواد”، كلما كانت الخيبة كبيرة في زمن التفاهة والرداءة، وحتى لا تكون الخيبة “خيبتان” (خيبة الرحيل وخيبة فقدان الأرشيف والذاكرة)، بات من واجبات المواطنة، حماية الإرث الوثائقي والتراثي عموما للرواد، سواء من لازال على قيد الحياة، أو من رحل منهم إلى دار البقاء، من زاوية صون التراث الوطني بكل تعبيراته، ومن باب تعريف الأجيال المتعاقبة، بالمحطات الوضاءة والمشرقة في سجل الذاكرة الوطنية المشتركة، إذا ما استحضرنا كما تمت الإشارة إلى ذلك، ما بتنا نعيشه من تراجع ووهن في كافة المجالات؛

 

وفي هذا الإطار نوجه رسالة مفتوحة إلى عدد من رموز السياسة والعلم  والفكر والثقافة والفن والإبداع ، ممن يملكون أرشيفات خاصة من شأنها الإسهام في إثراء التراث الأرشيفي الوطني، ندعو هؤلاء من خلالها، إلى العمل على مد جسر التواصل والتعاون مع أرشيف المغرب، بما يضمن حفظ هذه الأرشيفات وتثمينها وضمان استمراريتها، على غرار الخطوة التي أقدم عليها الراحل عبدالواحد الراضي، وقبله رفيقه في النضال عبدالرحمان اليوسفي، وشخصيات سياسية ونضالية وفكرية وعلمية وثقافية وإبداعية أخرى، أما من رحل منهم إلى دار البقاء، فالدعوة موجهة إلى ذوي الحقوق، الذين لابد أن يتحملوا كل فيما يتعلق به، مسؤولياتهم المواطنة أمام المسألة الأرشيفية الوطنية، خدمة للتراث الأرشيفي الوطني، الذي لا يمكن البتة، أن يكون موضوع تردد أو تقاعس أو امتناع أو ما شابه ذاك؛

 

أرشيف المغرب وفي ظل افتقادها للأدوات القانونية الحازمة التي من شأنها المساعدة على استهداف الأرشيفات الخاصة، ليس أمامها سوى الرهان على ما تمتلكه من وسائل تواصلية، يتأسس رأسمالها على عملة التواصل والإقناع والترغيب والتحبيب والتحفيز، وعلى الرغم من محدودية هذه الوسائل، فقد أثبتت بدون شك، جانبا من الفعالية والنجاعة، بدليل أن الكثير من القلاع الأرشيفية المنيعة، أمكن فتحها، كان آخرها “قلعة عبدالواحد الراضي”، وقبله “قلعة عبدالرحمان اليوسفي”، وغير ذلك من القلاع الأرشيفية التي لا يسع المجال لاستعراضها، لكن في ذات الآن، نرى حسب تقديرنا، أن المؤسسة ومهما ارتفعت درجة اجتهادها وحماسها، فيصعب عليها وحدها، كسب رهانات الأرشيفات الخاصة، ما لم تتحول المسألة الأرشيفية إلى “قضية وطنية” بالنسبة لمالكي الأرشيف، في ظل غياب قواعد قانونية ملزمة،  تجبر هؤلاء على التعاون الإيجابي مع المؤسسة الأرشيفية، من منظور المسؤولية الفردية والجماعية أمام التراث الوطني الذي يعد ملكا مشتركا للمغاربة قاطبة؛

 

مؤسسة أرشيف المغرب وهي تحتفي بذاكرة وترات قيدوم البرلمانيين المغاربة الراحل عبدالواحد الراضي، بمناسبة الأسبوع العالمي للأرشيف، أبت إلا أن تخصص حفل استقبال على شرف  مجموعة من واهبي الأرشيفات الخاصة، وزعت خلالها دروعا تذكارية، تعبيرا عن عرفانها وامتنانها للواهبين، ويتعلق الأمر بالآتي ذكرهم:

 

-عائلة محمد بن عبدالهادي زنيبر، التي تفضلت بتقديم زهاء 3000 وثيقة أصلية، هبة خالصة لأرشيف المغرب؛

-المخرجة السينمائية الكبيرة إيـزا جينينـي، ابنة الدارالبيضاء، التي أبت إلا أن تأتمن المؤسسة على وثائقها الخاصة؛

-السيدة مريون ستانلـس التي تبرعت للمؤسسة بمجموعة من الصور التقطت ما بين 1934 و1956، وهي الفترة التي قضاها جدها جورج بينــوش وجدتها ماري – أنطوانيت بينـوش في المغرب؛

 

وهذا الحفل الذي نظم بتاريخ 06 يونيو 2024 تحت شعار “الأرشيفات الخاصة .. تراثنا جميعا”، لايعكس فقط، ثقافة الاعتراف والامتنان والتقدير، التي تتحكم في “السياسة الناعمة والحميدة”  لمؤسسة “أرشيف المغرب” في علاقتها بالواهبين للأرشيفات الخاصة، بل ويعبر أيضا، عن  ارتفاع منسوب الوعي بالأرشيف لدى هؤلاء الواهبين، واتساع دائرة مسؤولياتهم أمام التراث الأرشيفي الوطني، وهذا السخاء الأرشيفي، يقوي من جرعات الاقتناع في أن التحلي بروح المواطنة الحقة، والوعي بالمسألة الأرشيفية والإحساس بالمسؤولية أمام التراث الأرشيفي الوطني، هي شروط ومتطلبات تكفي لفتح ممرات آمنة بين أرشيف المغرب والأرشيفات الخاصة، وهذه الشروط والمتطلبات، تبقى الطريق الوحيد والأوحد، لكسب رهان ثقافة الأرشيف، وبلوغ مرمى مماسة أرشيفية واعية ومسؤولة في مختلف الإدارات والمؤسسات المنتجة للأرشيف العمومي؛

 

ولا يمكن أن نختم المقال، دون التقدم بخالص الشكر وعظيم الامتنان للواهبين سواء المحتفى بهم بمناسبة الأسبوع العالمي للأرشيف، أو الواهبين الآخرين الذين وضعوا ثقتهم في أرشيف المغرب منذ تأسيسها، ففي ثقتهم، ثقة في المؤسسات العمومية، وإسهام في خدمة الوطن عبر بوابة التراث ومدخل الأرشيف، عسى أن تصل الرسالة لكل مالكي الأرشيفات الخاصة، الذين يكتفون بالتردد أو التقاعس أو الفرجة أو الرفض والممانعة، في علاقاتهم بالشأن الأرشيفي العمومي، وفي هذا الإطار، فمن غير اللائق، أن نتوقف عند أجانب يساهمون بدون تردد في تشكيل “هويتنا الأرشيفية”، بينما نجد مواطنين مغاربة يلعبون “دور الكومبارس”، ما لم نقل يرفعون شعار “الرفض” و”الامتناع”… فرحمة الله على الفقيد عبدالواحد الراضي، الذي وإن رحل إلى دار البقاء، فستبقى ذكراه وذاكرته حية داخل أرشيف المغرب، تحت عنوان بارز: “عبدالواحد الراضي .. شاهد متميز على العصر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *