منتدى العمق

الدكتور شكدالي يرصد التحولات النفسية والاجتماعية للإنسان المرقمن

  1. براديغمات ومفاهيم جديدة في زمن الثورة التكنولوجية

   أ. التنشئة الاجتماعية الخوارزمية وبناء الهوية الرقمية

أوضح الدكتور المصطفى شكدالي، الباحث في علم النفس الاجتماعي أن التكنولوجيا الرقمية باتت متحكمة وموجهة للإنسان المستخدم لها وهو ما يعني أنه صار “مرقمنا” بدل أن يكون رقميا أي فاعلا ومتحكما وهو ما يتمثل في الخضوع للتطبيقات والإعدادت والبرمجيات التي تنطلق منذ ولوج شبكات التواصل الإجتماعي الرقمية، بدءا بالتسجيل فيها عن طريق إدخال البيانات الشخصية التي تصير ضمن سجل قاعدة البيانات الضخمة (Big Data) مما يعني أن الإنسان المرقمن في نظر الدكتور شكدالي هو الذي تتحكم منصات التواصل فيه، التي جعلت الهوية متحورة لأن المجتمع صار متصلا كليا بالأنترنيت مما يجعل إنسان الألفية الثالثة يعيش داخل بيئة افتراضية هي فضاء سيبراني لكائن مرقمن وجوبا وضرورة، في الوقت الذي تندرج سلوكاته وأنشطته وممارساته في سجلّ البيانات المرقمنة للسلوكيات الانفعالية یُصطلح عليه بالحوسبة العاطفية.

إن المفاهيم الكلاسيكية الدّالة على التنشئة الاجتماعية والهوية انقلبت في غمرة التكنولوجيا الرقمية التفاعلية وهو مايبرز من خلال اشتغال الباحث على تأسيس المفاهيم وبنائها على اعتبار أن كل المفاهيم الكلاسيكية عرفت انقلابا جذريا كمفهوم القرابة والصداقة والرابط الإجتماعي الذي انتفى بعد أن صار التواصل عن بعد تواصلا عن قرب، أي أنه تواصل حضوري بطريقة ما، وهو ما دفع الدكتور شكدالي إلى العمل على نحت الباحث مفاهيم جديدة في محاولة منه لبناء براديغمات من قبيل التنشئة الخوارزمية، التحكمية الخوارزمية، الإنسان المرقمن بدل الإنسان الرقمي، التفاعل الرقمي، الجراحة التجميلية الرقمية، الترميم السيكولوجي للجسد، المرقاب الرقمي، انتحال صفة داخل الشبكات الاجتماعية الرقمية، خلق الذات… وهي مفاهيم صارت محايثة لواقع جديد بمفاهيم جديدة كمفهوم المجتمع الشبكي  «La société en réseau»  ومفهوم الفضاء السيبراني التفاعلي «Le Cyberespace interactif »، ومفهوم المجتمع المتصل «La société connectée» وغيرها من المفاهيم التي ظهرت مع تطور التكنولوجيا الرقمية التفاعلية.

لقد أتاحت منصات التواصل الاجتماعي التفاعلية من تطابق الأشخاص بصرف النظر عن الإختلاف الثقافي والخصوصيات المحلية بعد أن صرنا اليوم أمام ارتباط كلي “كوني” بـ”الويب” لأن الإنسان المرقمن توجّهه الخوارزميات إلى إنتاج مضامين ومحتويات كتعبير عن خرائط ذهنية تكشف عن الأداء النفسي للمستخدم من خلال التحيزات المعرفية باعتبارها وعيا مزيفا تنتج عنه إعادة تشكيل أنماط من التفكير وبناء نماذج إدراكية- معرفة بحمولتها التكنو- معرفية مادامت الرقمنة تعزز سلوك الفرد كما تريده، بل تتعداه إلى تأثير على وظائف الدماغ  من خلال لغة بصرية مكثفة معبرة عن مشاعر أفراد المجتمع المرتبط رقميا بالأنترنت  لاسيما مع ظهور الميتافيرس/ « le metaverse » باعتبارها مساحة افتراضية جماعية ومشتركة تبني واقعا رقميا ماديا بحيث تجمع بين الواقع المعزز والمساحات الافتراضية.

ب. الفضاء السيبراني وعرض الذات داخل المنصات الرقمية التفاعلية

في كتاب “سيكولوجيا الإنسان المرقمن” يؤكد الدكتور شكدالي على أن الناس يتوهّمون أن الفضاء السيبراني ليس افتراضيا غير أنه في الحقيقة هو واقع لتواصل عن بعد لأن الحياة  السيبرانية ليست عالما منفصلا عن الحياة الواقعية لكون التكنولوجيا الرقمية تلغي الحدود بين الواقعي والإفتراضي. هذه الحياة الجديدة تجعل كل مستخدم قادر على البوح وعرض ذاته بالإنتقال من الحميمية- العادية (l’intimité )  الى الحميمية المفرطة  (l’extimité) وهو شكل من لأشكال فضح الذات وذلك عن طريق إظهار جوانب معينة من الذات والتي تعتبر حتى الآن مرتبطة بالحميمية للحصول على صورة ذاتية جيدة من خلال ممارسة الإغراء والاستثارة وهو ما يسميه الباحث “التثمين النرجسي” كعملية لبناء الأنا الرقمي عن طريق انتقاء أجزاء محددة من الجسد بدلالاتها السيكو اجتماعية كتعبير عن عودة المكبوت مما يؤدي إلى سقوط الأنا الأعلى كما في التحليل النفسي  من عرشه.

2 تحولات التنشئة الخوارزمية والهوية الرقمية في مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية

أ. من الرقمي إلى المرقمن

طرح الباحث أسئلة جوهرية وهو  يقتفي أثر الخيط الناظم للكتاب وهي: لماذا الانسان المرقمن وليس الرقمي؟ كيف تطورت التكنولوجيا الرقمية وكيف تحولت من الاستهلاك لمضامينها والمعلومات التي توفرها لمستعمليها إلى إمكانية التفاعل معها والانخراط في انتاج محتوياتها؟  ما الذي ترتب عن ظهور الشبكات الرقمية الاجتماعية وانتشارها الواسع في الأوساط الاجتماعية عن طريق التواصل والتفاعل من خلالها بين الأفراد والجماعات في تجاوز للحدود الفيزيقية؟ وكيف تتلاعب الخوارزميات بالإنسان؟

في سياق البحث في الخوارزميات الرقمية بدا أن مستعمل التكنولوجيا الرقمية يظل، بطريقة ضمنية، تحت تأثير هذه التكنولوجيا الرقمية التي توجه سلوكه على الشبكات والمنصات فاقدا للإرادة ليصبح بذلك “مرقمنا” أي مبرمجا وفق الإعدادات والحيثيات والبرمجيات التي أعدت مسبقا لإنتاج مضامين ضاربة في المماثلة لما ينشر ويتقاسم بين المبحرين في المنصات الرقمية التفاعلية، لذلك فكتاب “سيكولوجيا الإنسان المرقمَن: التنشئة الخوارزمية وبناء الهوية في عصر الثورة الرقمية – مقاربة سيكو سيبرانية” الذي هو امتداد لإنتاجات سابقة من قبيل “المجتمع والإفتراضي” بمعية الدكتور عبد الحق محتاج وأطروحة دكتوراه في علم النفس الاجتماعي بجامعة محمد الخامس بالرباط بعنوان:  الشبكات الاجتماعية الرقمية، فضاء سيبراني للتنشئة الاجتماعية وبناء الهويات، فضلا عن مجموعة من المقالات في مجلات محكمة. هذا التراكم الذي جعل المُؤَلِّف يميز بين مفهومين أساسيين هما: الرقمي والمرقمن بحيث يرى أن الإنسان الرقمي يستعمل التكنولوجيا، أما الإنسان المُرَقْمَن فـهو الذي تستعمله التكنولوجيا  باعتبارها شكلا من أشكال الإنكشاف حسب الفليلسوف هيدغر،  وهي بذلك تؤدي وظائف نفسية لا يستطيع الإنسان أن يحققها بعيدا عن أي تكنولوجيا مما يجعل سلوكه واتجاهاته وقيمه يتغير داخل البيئة الرقمية وخارجها.

ب. التكنولوجيا الرقمية وتفكيك بنية المجتمع التقليدي

لم يعد المجتمع كما كان من قبل بعد أن أنتجت التنشئة الخوارزمية مجتمعا مرقمنا بطريقة أخرى، وهي بذلك تكون قد خلقت إنسانا آخر في ظل الإرتباط المكثف بالشبكة العنكبوتية، ذلك وأنه من أصل ثمانية مليارات من البشر على كوكب الأرض، أزيد من ستة مليارات متصلون بـ”الويب”،  وهو ما يعني أن هويتنا وعلاقتنا بذاتنا، إنه موقف تجاه الذات، تجاه الآخرين وتجاه العالم، كما عبر عنه ميشيل فوكو في كتابه: جرأة الحقيقة. هذا التغيير  طرأ كذلك على ممارساتنا  المقدسة مستها الطقوس الرقمية كما هو حال الطقوس الجنائزية المرقمنة، التي تبثّ رقميا تحوّلها إلى فرجة مَرَضِيَّة، تغيب عنها قدسية الموت، أو ما الذي يعنيه سيلفي الخروف في عيد الأضحى مثلا بعد أن تمت رقمنة كل  أفعالنا بما فيها العادات والتقاليد.

لقد بات الفضاء السيبراني، حسب الدكتور شكدالي، فضاء خاصا بالتنشئة الإجتماعية الغارقة في الخطورة بالنظر لطابعها الخطيرة التكنولوجي، مشيرا إلى أن “الأنا سايبورغ” (…) كان شخصية أسطورية هلامية، لا توجد إلا في أفلام الخيال بيد أنها باتت تتحقّق في حالات طبية تعزز الحياة والسمع والحركة، وهو الأمر الذي ظهر مع كتابات فريديريك توردو الذي يعتبر أن “الأنا سايبورغ” هو إسقاط لواجهة عضوية وتكنولوجية وليس إسقاطا جسديا فقط  مثل الأنا الفرويدي، لذلك فإن الأنا المعزّز بالتكنولوجيا يوجد داخلنا مما يجعلنا نفكر بالتكنولوجيا غير أن هذا الإدراك الذي ندرك به الأشياء يعزز طريقتنا في التعامل لأن ثمة نماذج مصطنعة تسيطر على العقل وهي تبحث عن الحشود من خلال  التحكمية الخوارزمية، لطن المفارقة في هذا السياق تتمثل في ردم الهوة  بين الواقع والمواقع لأن ما هو سيبراني يتشكل فعليا في الواقع مما يدفعنا إلى النظر بعمق في هذا التحول ومعرفة  الميكانيزمات المتحكمة في التكنولوجيا التي تستعملنا أكثر مما نستعملها.

3 اختراع الذات أو الذات المفلترة

إن صناعة الذات عن طريق نشر صور السلفي  «Selfie» تحمل دلالات ذات بعد سيكولوجي على مستوى إدراك الذات والكيفية التي تتم بها عملية تقديمها للآخرين على شاشات المرقاب الرقمي، حيث أشار الباحث إلى أن “السيلفي” يحيل على هوية رقمية متحوّرة سبقت الفيروس إلى التحوّر، وفي السياق، دحض الباحث طرح إلزا غودار القائل: أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، معتبرا أنه في إطار تصوير الذات فأنت لست موجودا وإنما تبحث عن الوجود، بحيث إن تأويل هذا الكوجيطو هو: أنا أوسيلفي إذن أنا مرئي لذلك فـــ”السيلفي” بحث عن الوجود، وكأن الإنسان موجودا بالفعل لما قام به عن طريق تصوير الذات.

وإجمالا، فإن صناعة الذات تقوم على استعمال المرشحات بوجوه مفلترة تغيّر ملامح الوجه ولون العينين والجلد غير أنه حين نعود إلى الواقع  فثمة هوّة سحيقة بين الواقع والمواقع، بسبب إعادة خلق الذات لأن الشخص يرغب أن يكون مرئيا بشكل آخر غير الواقع الذي هو بصدده، كما أنه وهو يقف أمام المرآه، يطرح مشكلة بين “الأنا الواقعي” و”الأنا المثالي” أي بين ماهو كائن وما هو ممكن داخل بنية الخفاء والتجلي، فالنظر الى المرآة يخلق جرحا نرجسيا بحيث إن الإنسان  عاش تجربة حياة واحدة بمستويين أحدهما داخلي والآخر خارجي قبل ظهور التكنولوجيا الرقمية  بيد أنه يعيش داخل الفضاء السيبراني حياة موازية الأمر الذي يدفع إلى محاولة إعادة خلق الذوات من جديد، وكأن هذا الإنسان غير رَاضٍ عن ذاته بسبب  المسافة الكبيرة بين التصورات المثالية والواقع  لأن ما نعيشه اليوم يولّد لدى الإنسان فلنا خوفا مرضيا من فقدان الهاتف الذكي بحيث يسابق الزمن إلى حمل هاتفه أو البحث عنه بمجرد ما يتوصل بإشعارات وتنبهيات وهي استجابة شرطية كما هو الحال لكلب بافلوف.

محمد الشاوي

*باحث في علم النفس الإجتماعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *