وجهة نظر

بوبكري يكتب عن “الغول” .. الأسطورة والواقع

تحكي الأسطورة أنَّ قبيلة عربية تُسمَّى “الغول” كانت تسكن في شبه الجزيرة العربية، وكان أفرادها يعيشون على أكل لحم البشر أحياء. كما تحدثت القبائل العربية عن مخلوق خبيث غريب كان يشبه الحيوان، فأصبح نصفه حيوانا ونصفه الآخر بشرا، وذات مرة أصبح شيطانا… وقد تطورت الأسطورة واختلفت جراء تناقلها من لسان إلى لسان. وورد في حكايات عديدة أن الغول عملاق الجسد، ضخم الهيأة، يأكل الرجال والنساء والأطفال والأنعام والأشجار والنباتات، ويلتهم الأراضي والجدران والأحجار…وقد اعتقد العرب في الجاهلية أن “الغول” هو ساحر الجنّ، وأن “الغولة” تخرج على المسافر ليلا وتتحوَّل، فتأخذ شكل حيوان أليف أو امرأة فاتنة الجمال، إلى أن تكتسب ثقة المسافر وتنقض عليه وتمتصّ دمه وتفترسُه. وكثيراً ما أطلق العرب على الشياطين والجان اسم “الغول”، كما ظل هذا المخلوق الخرافي في اعتقادهم كائنا متوحشا يغوي ويغتال المسافر، إنسانا كان أو حيوانا أو ثعبانا أو شيطانا.

فالغول من القتل غيلة (غدراً) لأنه يغتال فريسته اغتيالاً. وقديماً أطلقت العرب على الأفاعي والثعابين الضخمة اسم “غيلان”، جمع غول. ونلاحظ اليوم أن هذه الصور قد انتقلت إلى العديد من أفلام الرعب الحديثة. 

لم تتوقف استعمالات لفظة “غول” عند هذا الحدِّ، بل تطورت وتعدَّدت وشملت مجالات شتَّى، فأصبحنا نسمع من يتحدث عن “الغول الاقتصادي” و”الغول السياسي”، وما إلى ذلك. وقد سمعت مؤخرا مجموعة من الشباب المغاربة الناقمين سياسيا ينعتون زعيم إحدى “الغابات السياسية” في بلادنا بـ “الغول”، ما دفعني إلى التفكير مليّا في أقوال هذا المخلوق وأفعاله، فخلصت إلى أنه يفتقر إلى عقل مفكر يوجِّهه ويمكِّنه من قيادة نفسه ذاتيا، ما جعله يتحوَّل إلى كائن أعمى، وأهوج ممسوس بالجنون. ويتجلى ذلك في تحركاته وما يترتب عنها من نتائج على الأرض وفي محيطه. فـ “غولنا” يتفجر طاقة، لكنه لا يعرف كيف يصرفها، ولا كيف يُحوِّلها إلى قوة بناء، لهذا تراه يركض ويصرخ ويعوي دون انقطاع، يمشي وهو يتمايل يميناً ويسارا، ويدهس كل من (وما) يصادفه في طريقه غير عابئ بما إذا كانت ضحيته من أصدقائه أم من أعدائه، حيوانا أم جمادا.

إنه هائج لا يأبه أصلا بأن تكون له دوائر أصدقاء أو أعداء، وهو يعاني من غباء منقطع النظير جعله لا يكفُّ عن خلق أعداء له ومضاعفة أعدادهم إلى ما لا نهاية، بل إنه يعيش على ذلك ويقتات منه. كما أنه أهوج؛ يصيب بالإحباط كل الذين يَرَوْن أنه يمكنهم التعويل عليه، أو الاستفادة من رعونته، ولو عن بُعد.

يتسم هذا الغول بانعطافات حادَّة وجنون مُرَكَّب ومفاجآت مدهشة لا يسندها عقل ولا منطق، وبذلك لا يمكن التنبؤ بِها. كما أنها تهزأ بكل من يتورط في المراهنة عليها. ولذلك لا يمكن الرهان على هذا الأعمى والأرعن والمجنون، الثقيل الوطأة والبالغ الوزن، الذي لا يكفّ عن التحرك في كل الاتجاهات بهدف تلبية شهواته، كما لا يعي تناقضاته الخاصة، بل يصرّ على التشبث بها ضدا على إرادة الجميع وتحليلاتهم وحججهم، اعتقادا منه أنه لا يخطئ. زد على ذلك أنه يجهر دوما بتعارض الأخلاق مع السياسة، ويتخذ ذلك مبررا للتفاخر بـ “ذكائه” وتبرير انحرافاته وانقلاباته…

فضلا عن ذلك، يُكِنُّ هذا المخلوق عداء خارقا للإنسان، فصار يتوجس خيفة من أصدقائه وأعدائه وحتى أقربائه، وأصبحَ لا يتوقف عن نصب الفخاخ لهم، وذلك دون أن يعي أن من هم على شاكلته لا يكونون محطَّ ثقة أحد، بل ينتهي بهم الأمر إلى أن يجدوا أنفسهم غرباء وحيدين. فمن يحترف نصب الكمائن للناس ينتهي حتما بالوقوع في ما ينصبُ، فيقع في فخاخه، ويسقط في النهاية في حفرة لا قرار لها. وما يؤكد ذلك هو أن أغلبية سكان غابته قد غادروها، فجفت عيونها ووديانها، وفقدت خضرتها، وماتت أزهارها وأشجارها، فصارت أرضا قاحلة، لا يسكنها سوى قطاع الطرق والتائهين. فبعد أن كانت غابته واحة جميلة مفعمة بالحياة والحيوية ومُجسِّدة لآمال المواطنين، عاث فيها فسادا، وطرد شبابها ونساءها ورجالها ومثقفيها وأطرها، فسادها ظلام دامس، وأصبح الغول محط سخرية من قِبَلِ الجميع، بل يصفعه الصغار كما يشاؤون، حيث أصيب كلامه وفعله بالتضخم، وصارت عملته بائرة لا يستعملها أحد. وما يجهله هذا المخلوق هو أن الأفكار والمشاريع النبيلة لا تموت، إذ قد تشاء الظروف أن تخفت، لكنها سرعان ما تنبعث بقوة من رحم المجتمع…

إضافة إلى ما سبق، فقد تجاوز هذا الغول كل الحدود، فقام مؤخرا بالاعتداء في “تيرانا” عاصمة “ألبانيا” على الوطن بغية الابتزاز لجني مزيد من الريع، لكن السحر انقلب على الساحر، فأصبح عرضه لاحتقار المواطنين، وقريبا سيُصبِح نسيا منسيا، بل قد ينتهي به المطافُ هو وقرينه وتوأمه في ارتكاب المصائب في “فندق عكاشة” يومَ تُفتَحُ ملفاتهما الطافحة بما قاما به من أفعال خطيرة في حق الوطن والمواطنين…

لقد فقد الغول كل شيء، وانتهى أخلاقياً وسياسيا وتنظيميا، فأصبح عاجزا عن الاستمرار، ولم يعد أمامه من اختيار سوى الرحيل.