نقد مسار مراجعات الحركات الجهادية بين النموذج المصري والمغربي في ظل المقاربات العربية والغربية

في خضم الصراع الذي شهده المشهد الإسلامي المصري خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، برزت تجربة الجماعة الإسلامية المصرية كمثال فريد على التحولات الفكرية والتنظيمية في الحركات الإسلامية. كانت الجماعة، التي نشأت في السبعينيات كحركة دعوية ثم انزلقت إلى العمل المسلح بفعل الظروف السياسية والاضطهاد الأمني، قد وجدت نفسها في مأزق فكري وعملي مع نهاية التسعينيات. فأطلقت في 5 يوليو 1997 مبادرة وقف العنف، لتبدأ بذلك رحلة مراجعات فكرية عميقة، غيرت مسارها ومسار العمل الإسلامي المعاصر.
تُعد هذه المراجعات واحدة من أكثر التجارب الجريئة التي شهدها العالم العربي، حيث اعترفت الجماعة بوضوح بأخطائها في حمل السلاح، وتصحيح مفاهيمها حول الجهاد، والتكفير، والعلاقة مع المجتمع والدولة. وقد رسخت هذه المراجعات في سلسلة من الكتب الفكرية، مثل مبادرة وقف العنف. رؤية شرعية ونظرية واقعية، حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين، تسليط الأضواء علي ما وقع في الجهاد من اخطاء، وأخيراً النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم هذه المؤلفات لم تكن مجرد تنظير، بل جاءت حصيلة تجربة عملية طويلة، ونقد ذاتي صريح، وجرأة نادرة في مواجهة الذات والموروث.
تميزت مراجعات الجماعة الإسلامية بأنها لم تكن تراجعا تكتيكيا أو استسلاما للضغوط الأمنية، بل كانت تحولا استراتيجيا عميقا، استند إلى تأصيل شرعي جديد، وفهم أعمق للواقع، وفقه للمآلات، واستيعاب لمخاطر الانغلاق الفكري والانجرار إلى العنف. لقد رفضت الجماعة من خلال هذه المراجعات مشروع “الصدام لأجل الصدام”، الذي تتبناه تنظيمات مثل القاعدة وداعش، وأكدت أن التدافع الحضاري لا يعني الصراع الدموي، بل التنافس السلمي والتكامل بين الحضارات.
كان للمجتمع المصري دور مهم في دعم هذه التجربة، حيث لقيت المراجعات ترحيبا من مختلف الشرائح الفكرية والسياسية، واعتُبرت خطوة نحو ترسيخ السلم الأهلي ومواجهة الفكر المتطرف. ومع انفتاح المشهد السياسي بعد ثورة يناير 2011، أسست الجماعة حزب البناء والتنمية، لتنتقل عمليًا من العمل السري إلى العلني، ومن التنظيم المغلق إلى الحزب السياسي، في تحول يُعد من أجرأ تحولات الحركات الإسلامية في العالم العربي.
إن تجربة الجماعة الإسلامية المصرية تطرح نموذجا يمكن البناء عليه عالميًا: كيف يمكن لجماعة مسلحة أن تتحول إلى شريك في بناء الدولة والمجتمع، وكيف يصبح النقد الذاتي وتصحيح المفاهيم ركيزة للعمل الإسلامي الراشد. هذه التجربة، رغم تعقيداتها وظروفها الخاصة، تظل مصدر إلهام للباحثين والممارسين في مجالات الفكر السياسي والديني، ودليلاً عمليًا على أن التغيير ممكن إذا توفرت الإرادة الصادقة، والجرأة في الاعتراف بالأخطاء، والرغبة في تصحيح المسار.
بين المراجعة والانغلاق: لماذا نجحت تجربة الجماعة الإسلامية ولم تنجح تجربة تنظيم الجهاد الإسلامي؟
1- الاختلاف في المنهجية والقدرة على النقد الذاتي:
- الجماعة الإسلامية تميزت بجرأتها الفكرية في ممارسة النقد الذاتي. أطلقت مراجعات فكرية شاملة بعد تجربة عنيفة، واعترفت بوضوح بأخطائها في قضايا كبرى مثل الجهاد والتكفير والاغتيالات. هذا النقد الذاتي تُوج بسلسلة من الكتب الفكرية مثل تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء، وحرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين.
- في المقابل، تنظيم الجهاد الإسلامي ظل في حالة إنكار للأخطاء، ولم يقدم مراجعات فكرية جادة بنفس المستوى، بل تمسك بفكره الصدامي، وخاصة في رؤيته للصراع مع الدولة والمجتمع، وظل أسير فكرة “حتمية المواجهة“، مما جعل خطابه متصلبًا، لا يستجيب للتغيرات، ولا يقبل بإعادة النظر في مفاهيمه الكبرى.
2- التحول نحو العمل السلمي والسياسي:
- الجماعة الإسلامية انتقلت من العنف إلى العمل السلمي المعلن، وأسست حزب البناء والتنمية، وشاركت في الانتخابات، وأصبحت جزءًا من الحراك السياسي الشرعي. هذا التحول منحها شرعية اجتماعية وشعبية، ورسخ صورتها كطرف إيجابي يسعى للإصلاح في إطار الدولة.
- أما تنظيم الجهاد الإسلامي، فلم يتمكن من التحول إلى كيان سياسي مشروع، ولم يقدم بديلاً عمليًا للعمل المسلح، بل بقي معزولًا عن المجتمع، ولم يخترق الأطر القانونية أو المؤسساتية، مما جعل تجربته محصورة في المواجهة الأمنية فقط، وأفقده أي أفق للتأثير الإيجابي في الحياة العامة.
3- البعد الفكري والرؤية الحضارية:
- الجماعة الإسلامية طورت خطابًا فكريًا متوازنًا، يقوم على فقه المآلات وفقه الواقع، ويعترف بالتعددية، ويؤكد أن التدافع الحضاري لا يعني الصراع الدموي. هذا الخطاب أكسبها قبولًا واسعًا، حتى من خصومها السابقين.
- في حين أن تنظيم الجهاد الإسلامي ظل أسير الخطاب الصدامي التقليدي، المتأثر بأدبيات سيد قطب والقاعدة، حيث ركز على فكرة التغيير بالقوة، وشيطنة الدولة والمجتمع، ورفض الآخر، مما جعله بعيدًا عن الواقع المصري ومتطلبات التعايش.
4- المرونة في التعامل مع المتغيرات السياسية:
- الجماعة الإسلامية أظهرت مرونة عالية، فقد التزمت بمبادرة وقف العنف رغم المتغيرات، وشاركت في الثورة المصرية، وتفاعلت مع الأطر السياسية الجديدة بعد 2011.
- أما تنظيم الجهاد الإسلامي، فلم يُبدِ القدرة نفسها على التكيف، وظل معزولًا عن التحولات الكبرى، بل إن بعض كوادره انخرط لاحقًا في تنظيمات أشد تطرفًا مثل القاعدة أو داعش، بدلًا من العمل ضمن الأطر السلمية.
5- التأصيل الشرعي والفكري للمراجعات:
- الجماعة الإسلامية أصدرت سلسلة كتب معتبرة دعمت مراجعاتها، ونالت تزكية الأزهر ومؤسسات علمية معتبرة، مما أعطاها مشروعية دينية قوية. أما تنظيم الجهاد، فلم يُنتج هذا النوع من الأدبيات المنهجية المعتبرة، وبقي خطابه أسير الشعارات والمواقف دون تأصيل علمي رصين.
نجحت تجربة الجماعة الإسلامية لأنها تحولت من حركة صدامية إلى مدرسة فكرية مجددة، قادرة على المراجعة والتطور، والتواصل مع المجتمع والدولة، بينما فشل تنظيم الجهاد الإسلامي لأنه ظل حبيس الرؤية الصدامية المغلقة، وفشل في بناء خطاب بديل أو مشروع سياسي أو فكري قابل للحياة.
الفرق الجوهري بين مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر وتجربة المصالحة في المغرب
1- المراجعات الذاتية: التحول من الداخل
- مراجعات الجماعة الإسلامية كانت نتاجًا لحوار داخلي صادق، بين قيادات معتقلة فكرت وتساءلت وناقشت، وأنتجت رؤى جديدة، قائمة على فقه الواقع وفقه المآلات وواجب الوقت.
- هذا التحول جاء بعد تجربة مريرة مع العنف، وبعد إدراك عميق لفشل المنهج المسلح، فكانت النتيجة مراجعات فكرية أصيلة، صدرت في كتب مثل تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء وحتمية المواجهة وفقه النتائج.
- قوة هذه المراجعات أنها نابعة من قناعات حقيقية، وليست نتيجة ضغط خارجي، ولهذا اكتسبت شرعية داخلية، واستطاعت أن تؤثر حتى على القواعد والأنصار في الخارج، وليس فقط على القيادات.
2- المراجعات المفروضة: المساومة مقابل الحرية
- أما في التجربة المغربية، مثل تجربة “مصالحة المعتقلين السلفيين“، فقد كان هناك دور مركزي للدولة في دفع المعتقلين نحو المراجعة، غالبًا تحت عنوان “المصالحة” أو “العفو الملكي“، حيث يُطرح الخيار: إذا كتبت مراجعة أو عبرت عن ندمك، يمكن أن تحصل على العفو.
- هذه الديناميكية تجعل المراجعة أقرب إلى شرط إداري وليس تحولًا فكريًا نابعًا من قناعة داخلية، مما قد يؤدي إلى انفصال بين ما يُقال في الأوراق وما يُؤمن به الشخص في داخله.
- هنا تغيب الشرعية الفكرية التي تكسب المراجعات قوة التغيير، لأن المراجعة قد تُرى كـ“تذكرة خروج” من المعتقل، لا كمسار قناعة متينة.
3- لماذا المراجعة الذاتية هي الأمثل؟
- لأن التغيير الحقيقي ينبع من الداخل، من حوار صريح مع النفس، مع الفكرة، مع النص الشرعي، مع فقه الواقع. حين يوازن الإنسان بين قناعاته السابقة وواقع تجربته، وينضج عبر الألم والتأمل، تكون المراجعة أصيلة، وقابلة للاستمرار والتأثير.
- أما المراجعة التي تُفرض من الخارج، فهي غالبًا سطحية، وقد تنهار عند أول أزمة أو صدمة، لأنها لم تُبنَ على قناعات راسخة، بل على منطق الضرورة والمساومة.
- المراجعة ليست نصًا يُكتب، بل هي تحول داخلي عميق، لا يكتمل إلا إذا انخرط فيه الشخص بإرادته، واستطاع أن يوازن بين مثله العليا وواقعه، ويعيد ترتيب أولوياته.
- المراجعات الحقيقية تفتح بابا للتجديد والتأثير، بينما المراجعات المفروضة قد تصبح مجرد أوراق إدارية لا تغيّر شيئًا في البنية الفكرية العميقة للفرد أو الجماعة.
بين المخيال الإسلامي والعلمانية المضمرة: مقاربة الدول العربية والغربية لمراجعات السلفية الجهادية
- تُظهر المقارنة بين مقاربة الدول الغربية والعربية لملف معتقلي السلفية الجهادية مفارقةً لافتة تُسلط الضوء على اختلافٍ جوهري في التصورات والآليات. ففي حين تنطلق الدول الغربية من خلفية علمانية واضحة تضع حرية المعتقد كحق فردي مصون دستوريًا، فإنها لا تُلزم المعتقلين بمراجعة أفكارهم الدينية أو إعلان توبتهم الفكرية، بل تركز على المعالجة النفسية والاجتماعية لهؤلاء الأفراد باعتبارهم ضحايا لمسارات معقدة من التهميش، والصدمات، وفقدان الانتماء. بالتالي، فإن البرامج التي تعتمدها الدول الغربية في هذا السياق غالبًا ما تُصاغ في إطار التأهيل النفسي وإعادة الإدماج المجتمعي، عبر تقديم الدعم التعليمي والمهني والأسري، دون الدخول في نقاشات عقائدية أو فرض شروط تتعلق بالمعتقد الديني أو الفكري.
- في المقابل، تكشف المقاربة العربية عن تناقض دلالي بين خطاب الدولة الذي يدّعي العلمانية أو على الأقل فصل الدين عن السياسة بشكل براغماتي، وبين ممارسةٍ ميدانية تجعل من التوبة الفكرية والدينية شرطًا أساسيًا للإفراج أو التخفيف من الأحكام. وهذا الشرط يعكس حضورًا قويًا لما يمكن تسميته بـ”المخيال الإسلامي” الذي يتعامل مع التطرف الجهادي بوصفه ردة دينية أكثر منه تعبير عن المقاومة. ولعلّ هذا التناقض يعبر عن ما يمكن وصفه بـ”العلمانية المضمرة” في الدول العربية، حيث يتم استخدام الدين كأداة للضبط السياسي والاجتماعي عند الحاجة، حتى في الأنظمة التي لا تعلن التزامًا صريحًا بالشريعة الإسلامية في دستورها أو قوانينها.
- لكن الإشكال الأعمق لا يتعلق فقط بهذا التناقض بين الخطاب والممارسة، بل في غياب طرح السؤال الجوهري حول المراجعة نفسها: هل هي ممكنة؟ وهل هي ناجحة بالفعل داخل السجون وخارجها؟. تبدو الدول العربية في كثير من الأحيان وكأنها تتجنب الخوض في هذا السؤال، ليس فقط لأنه يعيد فتح ملف السياسات الأمنية القمعية التي أنتجت التطرف، بل لأنه يهدد بنيتها الخطابية التي تُحمِّل المعتقلين وحدهم مسؤولية العنف، دون الاعتراف بأن البيئة السياسية والاجتماعية الإقصائية، والسياسات الأمنية العشوائية، والقضايا الكبرى مثل القضية الفلسطينية، تظل عوامل مركزية في استمرار جذوة العنف.
- في هذا السياق، تبدو المراجعات الفكرية التي تطلبها الدول من المعتقلين كحلقة معزولة عن الواقع، خصوصًا مع استمرار مشاهد العدوان الإسرائيلي المتكرر على الشعب الفلسطيني، وما يصاحب ذلك من صور القصف والتدمير وقتل الأطفال والنساء، التي تُبَثُّ عبر الشاشات، وتعيد إلى أذهان المعتقلين (وغيرهم) صورة “الجهاد” بوصفه الرد الأخلاقي والشرعي الوحيد على الظلم والاستعمار. فكيف يمكن إذًا إقناع المعتقلين بأن التراجع عن قناعاتهم الجهادية هو الأصل، بينما العالم من حولهم يزداد انقسامًا واحتقانًا، والعدالة الدولية تبدو غائبة، والدول العربية نفسها عاجزة عن تقديم بديل سياسي حقيقي يُشعر الأفراد بأن هناك أفقًا للتغيير السلمي؟
- إن هذا التحدي يضع الدول العربية أمام سؤال محوري: هل هي قادرة على إقناع المعتقلين (والمجتمع الأوسع) بأن المراجعة هي خيار صادق وناجح، أم أنها مجرد أداة لإدارة أزمة مؤقتة داخل السجون؟ وهل يمكن للمراجعات الفكرية أن تصمد أمام رياح العنف الرمزي والمادي التي تهب من فلسطين وساحات الصراع الأخرى؟ أم أن هذه المراجعات ستظل هشة، وقابلة للانهيار أمام كل حدث سياسي أو عسكري يعيد إنتاج سردية المظلومية الإسلامية؟
وعليه، فإن شرط التوبة الفكرية في السياق العربي لا يُفهم فقط كإجراء أمني، بل كآلية رمزية لضمان الولاء السياسي والديني معًا، في حين أن الدول الغربية، رغم التهديدات الأمنية التي تشكلها بعض المجموعات الجهادية، تلتزم بالفصل بين الفعل الجرمي كموضوع للمحاسبة القانونية، وبين الفكر الديني كجزء من الحرية الفردية. هذا الاختلاف الجوهري يعكس بعمق تباين البنية الفلسفية والقانونية للدولتين: فالغرب يُعلي من شأن الفرد وحقوقه، بينما تسعى الدول العربية إلى ضبط المجال الفكري والديني كجزء من أمن الدولة ومشروعها السياسي.
اترك تعليقاً