وجهة نظر

قمة ألاسكا: انتصار رمزي لبوتين وتراجع استراتيجي لترامب

جرت في ولاية ألاسكا الأميركية قمة وصفت بأنها استثنائية من حيث التوقيت والسياق والرمزية، جمعت بين الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ورغم غياب النتائج الصريحة، فإن ما حدث على هامش اللقاء وما سبقه وما تلاه، يؤشر إلى تحول في مسارات العلاقات الدولية، وربما بداية توازن جديد في النظام العالمي.

منذ اللحظة الأولى، كانت القمة حافلة بالرسائل، تتجاوز لغة البروتوكول نحو دلالات استراتيجية. فلم تكن المبادرة روسية، بل جاءت بدعوة أميركية، وهو ما يحمل في طياته نوعًا من التراجع الرمزي من قبل واشنطن، التي لطالما كانت تقود جبهة دولية ضد موسكو، خاصة في عهد بايدن، حيث وُصفت روسيا بـ”التهديد الأكبر للاستقرار العالمي”.

اختيار ألاسكا كموقع للقمة لم يكن مجرد قرار لوجستي أو تكتيكي. هذه الأرض، التي كانت يومًا تابعة للإمبراطورية الروسية، وتحولت إلى ولاية أميركية بعد صفقة شهيرة في القرن التاسع عشر، حملت دلالة استرجاعية تلامس الذاكرة التاريخية الروسية. فللقاء هنا طعم النصر الرمزي؛ فبوتين، الذي يسعى منذ سنوات لإحياء أمجاد روسيا القيصرية والسوفييتية، وجد نفسه اليوم يجلس على أرض “كان يمتلكها أجداده”، بدعوة من زعيم أميركي، وفي غياب شركاء الحرب: أوكرانيا وأوروبا.

المفارقة الأبرز في قمة ألاسكا لم تكن فقط في مكان اللقاء، بل في من غاب عنها. فالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لم يُدعَ، رغم كونه الطرف المعنيّ الأول بالحرب القائمة، ووجد نفسه يتابع مجريات القمة عبر شاشات التلفاز. أما أوروبا، التي أنفقت مئات المليارات في دعم كييف عسكريًا واقتصاديًا، فقد تحوّلت إلى متفرّج، تنتظر ما يمكن أن يسفر عنه اللقاء دون أن يكون لها موطئ قدم فيه.

هذا الإقصاء لم يكن اعتباطيًا، بل يُظهر بوضوح أن واشنطن، أو بالأحرى ترامب، يملك نظرة مختلفة لتحالفات بلاده، لا تعتمد كثيرًا على التشاور أو التنسيق، بل على منطق الصفقة والمصلحة. وهي رسالة صادمة للحلفاء التقليديين، خصوصًا في ضوء التوتر المتزايد بين البيت الأبيض السابق والمؤسسات الأوروبية.

إذا كانت اللقاءات السياسية تُقرأ من خلال التصريحات، فإن لقاء ألاسكا قد فُكّت شيفرته عبر لغة الجسد. فللمرة الأولى، بدا ترامب متوترًا، فاقدًا لزمام السيطرة، على عكس ما اعتاده المراقبون من حضوره الطاغي. بوتين، في المقابل، كان واثقًا، حاسمًا، وقدّم نفسه باعتباره رجل دولة يُجالس أعتى الخصوم بندية. استقبال ترامب له كان فخمًا، أما ظهورهما المشترك فقد كشف تباينًا في المزاج والرسالة، خصوصًا بعدما غادر ترامب اللقاء من دون نتائج حقيقية، فيما أنهى بوتين زيارته بابتسامة ورسالة مفادها: “المرة القادمة… في موسكو”.

ورغم الطابع الاحتفالي الذي ساد اللحظة الأولى من اللقاء، فإن البيان الختامي خلا من أي اختراق سياسي فعلي. لا هدنة، لا وقف إطلاق نار، ولا خارطة طريق. تصريحات ترامب بعد اللقاء اتسمت بالتوتر والغموض، إذ أعلن عن “تقدم كبير” من دون أن يقدّم دليلًا ملموسًا، مكتفيًا بالتلميح إلى مشاورات قادمة مع الحلفاء في الناتو وزيلينسكي.

وبينما لم تُحرز واشنطن أي مكسب حقيقي، تمكنت موسكو من إعادة تأهيل بوتين دبلوماسيًا، بعد عزلة طويلة فرضتها العقوبات الدولية وتهم جرائم الحرب. فالجلوس إلى جانب ترامب، مهما اختلفت التقييمات، منح الرئيس الروسي شرعية رمزية، وفتح له نوافذ جديدة على المسرح العالمي.

بعيدًا عن الخطاب العلني، فإن الرسائل الضمنية للقمة كانت أكثر بلاغة. أولها أن العلاقات الدولية تُدار بلغة المصالح والقوة، لا العواطف أو القيم. ثانيها أن النظام الدولي يعيش لحظة فراغ استراتيجي، حيث لم تعد أميركا قادرة على فرض شروطها كما في السابق، بل باتت تسعى إلى تسويات حتى مع خصومها التقليديين. ثالثها أن بوتين، رغم التحديات الداخلية والخارجية، لا يزال لاعبًا أساسيًا في المشهد الدولي، وقادرًا على فرض حضوره في أكثر اللحظات تعقيدًا.

رغم فشل اللقاء في صياغة اتفاق، فإنه كشف عن نوايا، بعضها معلن والآخر مضمر. ترامب، إن عاد إلى البيت الأبيض، قد يكون بصدد إعادة هندسة التحالفات الأميركية، بطريقة قد تقلق الأوروبيين وتطمئن الروس. وبوتين، الذي خرج من اللقاء منتشيًا إعلاميًا، سيحاول استثمار هذه اللحظة لتقوية موقفه في أوكرانيا، وربما دفع كييف للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولكن هذه المرة بشروط أقرب إلى موسكو منها إلى الغرب.

قمة ألاسكا لم تكن مجرد لقاء بين رئيسين، بل كانت اختبارًا لإعادة ترتيب موازين القوة في النظام العالمي. بوتين كسب شرعية ميدانية، ولو بدون ورقة رسمية. ترامب، في المقابل، خسر بعضًا من هيبته السياسية، وفتح على نفسه أبواب النقد الداخلي والدولي. أما أوكرانيا، فقد تلقت صفعة دبلوماسية قاسية، حين وجدت نفسها خارج مسرح المفاوضات.

ما حدث في ألاسكا يؤكد أن العالم يعيش لحظة انتقالية، لا يحكمها القانون الدولي، بل معادلة “من يملك القوة، يفرض شروط الحوار”. إنها عودة للعقل الواقعي في العلاقات الدولية، وقد تكون قمة موسكو، إن تمت، هي بداية الفصل القادم من هذا التحول الجيواستراتيجي العميق.

* كاتب صحفي مقيم في ايطاليا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *