وجهة نظر

كبرت في عين الوطن يا ناصر الزفزافي

لا يمكن أن ينكر من تابعوا حراك الريف بأنك أخطأت، بدون قصد، أو أنك تأثرت بزخم مثير لكل مناضل في عز شبابه، يتولى قيادة شعبية للتعريف بقضايا اجتماعية كانت تحتاج إلى حوار مسؤول، وليس إلى مواجهات غير مضمونة العواقب. دخلت مسجدا وأوقفت خطبة، ونسيت أن المكان مقدس وأن معاندة الدولة لها من العواقب ما لا يغتفر وذلك منذ قرون. تبعك الكثيرون بكثير من الثقة وشيء من البراءة، ولم يقدم لك عقلاؤهم النصح لتفادي مواجهة مع الدولة ومؤسساتها، ولو كانت، ولا زالت، توصف بالعميقة. تعرف جيدا أن هذه المواجهة أكبر من ألف مظاهرة تحمل كل الشعارات المهيجة لبعض محبيك ممن اختلطت لديهم المساندة بلعب أدوار الحراسة التي ترافق كبار الشخصيات. قلت في البدء أنك لا تطلب من الإصلاح إلا ما استطعت. وركب تجار الأزمات على ما وصلت إليه من رمزية عفوية، وأرادوا أن يسخروك لخدمة أجندات أجنبية. قلت، رغم عنف المرحلة، أنك تسعى لإيصال صوت أبناء الحسيمة، بعد أن كان للصيد البحري موعد مع خطإ تدبيري أدى إلى موت تاجر أسماك، لم يتوقع أحد إلى ما وصلت إليه مأساة كان بالإمكان اجتنابها.

وقفت في لحظة تاريخية لتوصل صوت الحسيمة، وكثير من أبناء الريف، إلى قلب العاصمة. كان ذلك إبان سيطرة أحزاب على المكان، وكان دورهم في خدمة موقعهم في حزب، أو في سعي وراء مصلحة دنيوية صرفة. كنت من الغائبين حين سيطرت نخبة على المنطقة، ولم ترفع مطالب اجتماعية بنفس الصدق الذي أدى بك إلى التضحية بحريتك. خدعتك الأضواء لحد نسيت خلاله أن الدولة لن تسمح بالمس بموقعها أمام شاب اتخذ لنفسه حرسا خاصا، وكان ضحية من أرادوا الركوب على قضية اجتماعية. وكان ما كان من مواجهات تدخلت في تسخينها جهات أجنبية متطفلة على الواقع المغربي. وسيظل السؤال المركزي هو ما يمكن فعله لكي تصبح الحسيمة، ومحيطها قادرة على خلق الثروات، وعلى جلب الاستثمار وتغيير أسلوب خلق وتوزيع ثروات المنطقة. يعرف الجميع أن الزلزال الذي أصاب الحسيمة، وكثيرا من مناطق الريف، حمل ملك البلاد على مغادرة الرباط العاصمة ليعيش وسط المنكوبين في خيمة، وسهر بنفسه على تدبير كل عمليات الإنقاذ، وإغاثة المنكوبين. وكان لفعله تأثير عميق على كل المغاربة، وعلى أشكال تضامنهم لمواجهة آثار زلزال لم تصل حدته لدرجة ذلك الذي أصاب منطقة الحوز.

وشاء العمل المهني أن أساهم في تقييم العمل الحكومي بعد الزلزال. وزرت الكثير من المناطق الممتدة من شفشاون إلى الحسيمة ومحيطها. تدخلت الدولة بكل الوسائل لمواجهة آثار الزلزال عبر إعادة إعمار المدارس والمنشآت الإدارية والبنايات السكنية ودعم البنيات الصحية بشكل سريع. ولا يمكن ربط هذا التدخل بفاعلية سياسات عمومية لإنعاش اقتصاد منطقة لا يمكنها أن تتطور بعيدا عن رؤية جهوية للاستثمار. وستظل هذه المنطقة، ككثير من المناطق في شرق وغرب وجنوب البلاد، محتاجة إلى ابتكار آليات تنموية لخلق الثروات، وليس إلى تحويلات مالية لتدبير مجالس ترابية لا قدرة لها على تغيير الواقع.

كان من الضروري أن يتم التذكير بهذا المعطى الاقتصادي، ووجبت الإشارة إلى أن أغنياء منطقة الريف لهم من الوسائل التي قد تمكنهم من الثقة في قدرة منطقتهم على خلق الثروات. ولا يمكن عدم التأكيد على أن المستفيدين من تجارة المخدرات هم من يحاولون، دون فائدة ومصداقية، الاختباء في عباءة الجزائر لإخراج نوع جديد من الكذب يؤدي إلى خيانة وطن متجذرة وحدته من طنجة إلى الكويرة. ويجب أن نعتبر ناصر الزفزافي، ذلك الشاب الذي عبر بنضج كبير عن رفضه لكل مؤامرات خصوم الوحدة الترابية للمغرب بكثير من الوعي.

لا يمكن أن نعتبر كلام ناصر الزفزافي، وهو يودع أباه، نفاقا سياسيا أو رغبة في طلب منافع. تواجد هذا الشاب وسط حشود كثيرة أثناء جنازة أبيه، تبين نوعا جديدا من التعبير الشعبي على رفض شعبي كبير للنخب التي لم تعد تمثل أي شيء. لعل الكثير من الانتظارات الشعبية تتوخى وجود أناس صادقين لا يبحثون عن المغانم السياسية والمالية. وأظن، بكل تواضع، أن أمثال ناصر الزفزافي كثر في قلب الوطن. لا يجب على الدولة أن تنتخبهم أو أن تميزهم عن المغاربة، ولكن أن تتركهم يساهمون في إعادة الثقة في مؤسسات بلادنا بدل من يعبثون بمستقبلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *