وجهة نظر

غزة “غلام” العصر الحديث..!!

تمهيد:

إن في القصص دائما عبرا كثيرة، وهذه قصة صراع بين “الغلام” والملك. ظاهريًا، يُعد هذا الأخير منتصرًا عندما قتل الغلام، ولكن ما هو النصر الحقيقي؟ إن النصر في الحروب قد لا يعني فقط احتلال أرض ما، وإنشاء قواعد عسكرية للسيطرة وتأبيد الاحتلال، وكذلك لتأمين طرق نهب ثروات هذه البلاد برًا وبحرًا. لا يا سادة، الأمر أعقد من ذلك بكثير. إن هذا مجرد احتلال مادي يشبه قشرة غير سميكة، أو حروقًا من الدرجة الأولى تترك ندوبًا خفيفة، سرعان ما تندمل ويشفى الوطن منها ويتعافى.

إن من السهل مهاجمة قواعد العدو ومراكز القيادة، ثم تدميرها وقتل من فيها من جنود، لكن الأخطر من ذلك أن يكسب العدو معركة العقول والقلوب، وهي الأدوم والأطول زمانًا، حيث تستمر حتى بعد خروج المحتل؛ لأن احتلال العقول كما قلنا أخطر من احتلال الأرض. وأنتم تشاهدون تأثير الفكر والثقافة “الفرنكوفونية”، وكذلك نظيرتها “الأنجلوساكسونية”، في سلوك أجيال الدول التي كانت مستعمرة، وذلك من حيث تقليد الذوق في اللباس وتسريحة الشعر والأكل ولغة التخاطب… فحتى أحلام هذا الشباب المستلب، تكون بنكهة ولون المستعمر سواء الفرنسي أو الإنجليزي. ولن ينفعك في تفسيرها العودة إلى أشهر كتب ابن سيرين: (منتخب الكلام في تفسير الأحلام). ولتعبير هذه الأحلام، لا بد لك يا با المعطي من الرجوع إلى كتب محددة. فإن كانت الأحلام فرنكوفونية الجنسية، فهناك شيوخها: مثلاً الشيخ الكبير (فيكتور هوجو) والشيخان (شارل بودلير) و (مونتسكيو..). أما إن كان الحلم أنجلوساكسوني الهوى، فهاكم بعض شيوخ هذه الثقافة: شيخ التفسير الكبير (ويليام شكسبير) وكذا الشيخان (جين أوستن) و (تشارلز ديكنز).

وهكذا، تُعتبر الحرب الثقافية أخطر من نظيرتها المادية وأعمق منها تأثيرًا؛ لأنه ببساطة، احتلال الأرض أهون من احتلال العقول. إنه لمن المضحك أن تجد العدو الصهيوني عندما عجز عن فرض ثقافته، بعد محاولة تزوير رموز الشعب الفلسطيني وتبنيها، حاول سرقة تراثه اللامادي لطمس هويته الثقافية، وأراد كذلك فرض اللغة مع تزوير التاريخ، لكنه فشل في ذلك ولم ينجح رغم كل الدهاء والمكر. هنا ظهرت عبقرية أقصى اليمين الديني الإرهابي المتطرف، وجاء بمعادلة جديدة وهي باختصار: (إذا لم نستطع تذويب الفلسطيني في ثقافتنا، ولم نستطع تزوير تاريخه وتراثه، وفشلنا في تهجير سكان غزة، فلنحرق إذن الجغرافيا بمن فيها ومن عليها ونبني إسرائيل الكبرى، كما هي في “التوراة” من النيل إلى الفرات..).

لهذا تجاوزوا كل الخطوط الحمراء في حربهم على غزة، واضعين هدف تدمير غزة والقضاء على حماس، وإعادة احتلالها وتهجير سكانها إلى سيناء والأردن، كأحد الإنجازات الاستراتيجية الكبرى في الألفية الثالثة. في الحقيقة، لست أدري هل كتاب “التوراة” عند اليهود هو مجرد كتاب ديني فيه تعاليم الرب، أم هو عبارة عن خرائط طبوغرافية وشهادات ملكية لأراضي فلسطين والعرب..!!؟

لتقريب الصورة أكثر، وضعت عنوان هذا المقال: (غزة “غلام” العصر الحديث)…!! إذن، فما هي قصة هذا “الغلام” مع الملك التي حدثت قبل آلاف السنين..؟ الفقرة الأولى.. وما علاقة هذه القصة بما يحدث اليوم من قتال في غزة..؟ الفقرة الثانية..

الفقرة الأولى: قصة الغلام مع الملك الطاغية

رأيت من الضروري سرد هذه القصة باختصار، رغم أنها مشهورة لكن قد يكون هناك من لم يسمع بها. وعلى كل حال، هذه القصة وقعت في الزمن القديم. فمنذ آلاف السنين، كان هناك ملك طاغية، نصب نفسه إلهًا يعبد من دون الله وبقي قومه على هذا الحال. وكان عنده ساحر كبير، ولم يكن في ذاك الزمان ساحر يجاريه في علم السحر والكهانة. لكن في أحد الأيام، كان برفقة الملك وأراد تقديم النصح لهذا الأخير، حيث قال له: (أيها الملك لقد بلغت من الكبر عتيًا، وأنا على وشك مغادرة دنياكم، وأخشى أن يضيع هذا العلم من بعدي، فأتني بفتى حاذق أعلمه السحر..). وكانت مهمة هذا العجوز هي سحر القوم لتثبيت حكم الملك، حيث إن السحر في ذاك الزمان كان مهنة راقية، قد يصل فيها الشاطر إلى مراتب عليا، ويصبح من حاشية الملك وخاصته. لهذا نفذ هذا الأخير طلب الساحر، حيث نُظمت على الفور مسابقة توظيف ساحر الملك الخاص. هنا برز الغلام الذي فاز واسمه عبد الله ابن تامر، وبدأ الساحر العجوز يلقن هذا الفتى الألمعي علم السحر، لكن هذا الأخير كان عند عودته من عند الساحر، يمر على راهب يتعبد في خيمة ثم يأخذ عنه علم التوحيد، مما جعله مشوش الذهن بين ساحر يستعين بالشياطين، وراهب يأمره بعبادة الله وحده دون شريك.

وفي أحد الأيام، خرجت دابة قرب عين مياه، منعت الناس من الاستسقاء وحاولوا قتلها ولم يفلحوا، وجاء الغلام فأخذ حجرًا صغيرًا وقال: “اليوم أعرف من هو على حق”. ثم قال: “اللهم إن كان الراهب على حق، والساحر كذاب، فاقتل هذه الدابة”. ثم رماها فماتت. عندها اشتهر بين القوم وصار يعالج الناس، بشرط أن يقولوا “لا إله إلا الله” ثم يشفيهم بإذن الله. ولما وقف بين يدي الملك، قال له قولًا بليغًا، وأمره بالتوبة والإقلاع عن سحر الناس، لكن الملك استشاط غضبًا وأمر بقتل الغلام، حيث حمله الجند إلى أعلى جبل ورموه لكنه نجا، ثم ذهبوا به إلى وسط البحر كي يغرقوه، لكنه نجا من جديد بفضل الله. ثم قال الملك: “في الجبل كان معك الله وفي البحر كذلك..!!، إذن كيف السبيل إلى قتلك..؟”. عندها قال له الغلام: (يجب أن يجتمع القوم في صعيد واحد، وتأخذ سهمًا من كنانتي وتضعه في القوس، وتنزع ثم تقول بصوت عالٍ ثلاث مرات، باسم رب الغلام، وترميني بسهم هنا ثم أموت..). ونظرًا لرغبة الملك الجامحة في التخلص من الغلام، لم يفكر في العواقب حيث نسي أنه كان يدعي الألوهية. فما إن تلفظ بتلك الكلمات ثلاث مرات أمام القوم، ورمى الغلام بسهم، ومات هذا الأخير من فوره، بعدها هتفت الجموع بصوت واحد: (آمنا برب الغلام)، وبقى القوم يرددون تلك الكلمات وسط ذهول الملك وحاشيته. وهكذا سقط الملك “الإله” وذهبت هيبته، وانتصرت فكرة الغلام بعد استشهاده… إن الملك قد ربح جولة لكنه خسر الحرب، بعد أن كفر القوم به وآمنوا برب الغلام..!!

الفقرة الثانية: غزة “غلام” العصر الحديث

إنه فعلًا أمر عجيب أن تتطابق قصة “الغلام”، بشكل مدهش مع ما تفعله “إسرائيل” اليوم في غزة. إذن، فما هي أوجه الشبه بين قصة الغلام و”إسرائيل” مع غزة..؟ لكن قبل توضيح أوجه الشبه، لا بد من الإشارة إلى أنني أقصد بغزة هنا المقاومة المسلحة.

أوجه الشبه بين “الغلام” وغزة (المقاومة المسلحة):

أربع نقاط تشابه هي كالتالي:

(1): إن ما يجمع بينهما هو قوة الإيمان، وبالضبط عقيدة التوحيد وأن الأمر كله بيد الله، حيث توحدهما الآية 51 من سورة التوبة: (.. قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ..). وهذا هو الذي جعل “الغلام” يثبت في المواجهة مع الملك، وكذا المقاومة في غزة أمام عدوان الصهاينة.

(2): مواجهة حاسمة مع الكفر والطغيان، حيث كفر “الغلام” بالملك “الإله” وتحداه. كذلك فعلت المقاومة في غزة حيث واجهت الكيان الصهيوني، ورفعت التحدي في وجهه وفي وجه من ساعده، وهم حلف (الناتو) والمنافقون العرب، ثم اعتصموا بحبل الله. وهذا هو بالضبط ما فعله كذلك “الغلام” الشهيد عند تحديه الملك الطاغية وساحره.

(3): ذكاء “الغلام” وحسن توظيفه للإعلام لصالحه في المعركة، حيث طلب من الملك أن تكون المواجهة علنية وبحضور كل الناس. وكذلك فعلت المقاومة في حربها مع العدو، حيث كان للإعلام دور حاسم واستراتيجي في المعركة، منذ أول يوم أي عند انطلاق هجوم السابع من أكتوبر إلى اليوم. وما بلاغات أبو عبيدة إلا جزء يسير من معركة الإعلام الحربي.

(4): لقد أقدم “الغلام” على التضحية بالنفس، من أجل أن تحيا فكرة التوحيد من بعده. كذلك فعل قادة المقاومة المسلحة في غزة، حيث ضحوا بأنفسهم وقدموا الزوجة والذرية وما ملكوا، كل ذلك من أجل أن تنبعث فكرة الجهاد من جديد، وتحيا من بعدهم لتحرير فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر.

ها نحن قد عرفنا أوجه الشبه بين قصة الملك و”الغلام”، مع المقاومة المسلحة في غزة، بقي أن نعرف أوجه الشبه بين قصة الغلام والملك مع الكيان الصهيوني المجرم.

ثلاث نقاط تشابه هي كالتالي:

(1): بداية، الكيان الصهيوني في هذه القصة له صفات مشابهة للملك الطاغية، فهذا الأخير يعتبر نفسه “إلهًا” يعبد من دون الله، وكذلك (إسرائيل) تعتبر نفسها “إله” العصر الحديث، يركع بين يديها الكثير من الحكام طوعًا وكرهًا، واتخذت من بعض الحكام الخونة عربًا ومسلمين، خدامًا وسدنة لمعبدها حيث تُجبى إليه خيرات الدنيا من ذهب وفضة، تأمر فتُطاع، تطلب فيُلبى طلبها فورًا، ما يحل لها يُحرم على الجميع، وما يُحرم على الجميع يحل لها وحدها لا شريك معها، لا تخشى عقوبات ولا قرارات ولا أحكامًا، فهي فوق القانون الدولي تختار منه ما تشاء حسب هواها، وترفض منه ما تشاء وقت ما تشاء.

(2): لقد تحدى “الغلام” الملك وواجهه أمام الجميع، وأسقط هيبته وأبطل سحره، وكشف للقوم حقيقته حيث ظهر عاريًا من سلطانه وجبروته، فلم تنفع هذا الملك تعويذات كبير السحرة. الشيء نفسه حدث مع “إسرائيل” حيث سقطت كل الأكاذيب. لقد قالت أن جيشها لا “يُقهر” لكنه قُهر على يد المقاومة الغزاوية. لقد استعملت سحر كهنة معابد الماسونية العالمية، وسحر اللوبيات لتجميل وجهها القبيح، وتبييض كل جرائم الإرهاب الصهيوني، لكن المقاومة وفي ظرف وجيز أبطلت هذا السحر، ليصبح (شعب الله المختار) كالجمل الأجرب، معزولًا ومنبوذًا من كل شعوب العالم، بل حتى من بعض الدول الحليفة سابقًا، وصدرت أحكام جنائية تدين مجرمي الحرب من قادته، وهي سابقة في التاريخ تُحسب للمقاومة.

(3): خلاصة القول: لقد استشهد “الغلام” لكن الملك لم ينتصر..!!، وكذلك “إسرائيل” دمرت غزة ولم تنتصر ولن تنتصر. أقصى ما يمكن أن تبلغه هو مزيد من الدماء والتدمير حرقًا وتجويعًا، لكن النصر سيكون حليف غزة (غلام) العصر الحديث بإذن الله، فمع كل إشراقة شمس يصبح الكيان منبوذًا وأكثر عزلة، وتغدو معه غزة ومقاومتها أكثر قبولًا في العالم من أي وقت مضى. لقد تعاطف مع القضية الفلسطينية مشاهير الغربيين، من علماء وأكاديميين وأدباء وفنانين، والنخبة المثقفة والسياسية، إضافة إلى جماهير أشهر الجامعات الأمريكية والأوروبية. وكذلك هناك تعاطف غير مسبوق من عموم الشعوب العربية والغربية. باختصار، يوشك العالم مع هذا الزخم المتصاعد أن يقول: (آمنا برب غزة ومقاومتها المسلحة، وكفرنا بالكيان الإرهابي ومن معه..). إن شعبية الكيان الصهيوني في أفول متسارع، وشعبية غزة في تصاعد والحسم في المستقبل القريب؛ لأن الأجيال القادمة ستكون أكثر وعيًا ونضجًا.. وسيكون من الصعب خداعها لأن غزة كشفت كل أوراق بني صهيون. غزة حرة، فلسطين حرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *