وجهة نظر

“كتيبة الإعدام”: قوة السينما المصرية في الصراع العربي الإسرائيلي

في ليالي كورونا، أعدت اكتشاف فيلم طويل بعنوان “كتيبة الإعدام” للمخرج المصري المتميز بأفلامه الواقعية عاطف الطيب. يدور الشريط حول الصراع العربي الإسرائيلي ويعود إنتاجه إلى 1989 ولكنه ما يزال شديد الراهنية. أول ما يثير فيه هو الإقناع الكبير في أداء الممثلين المصريين، وهو أداء مازالت السينما المغربية اليوم بعيدة عن مستواه للأسف رغم مرور 30 سنة على إخراجه. الفيلم من النوع البوليسي وهو جنس صعب المراس، ونادر النجاح في السينما العربية. وما يميزه أيضا هو ديناميته وسرعة الإيقاع والحكي المطلوبة في مثل هذا الجنس. يدور فيلم “كتيبة الإعدام” حول حرب السويس التي دارت في 1973 بين مصر وإسرائيل من خلال قصة بوليسية كبرى حول خيانة الوطن وسرقة المال العام، وتتخللها قصة حب صغرى جمعت بين النجم الراحل نور الشريف والممثلة معالي زايد. وهي قصة حب تولدت بعد أن كانت تربط بينهما علاقة صراع وكراهية، ورغبة في الانتقام. تحكي القصة التي كتبها السيناريست الشهير أسامة أنور عكاشة عن مسار بطل يحمل اسما له دلالته هو “حسن عز الرجال” (نور الشريف)، وعن معاناته من تهمة خيانة الوطن. حيث أنه دخل السجن بتهمة قتل أب وأخ نعيمة (معالي زايد)، وسرقة أجور الجنود التي كان مؤتمنا على صرفها لهم كموظف، وهم جنود كانوا مرابطين في مدينة السويس المصرية الإستراتيجية خلال مرحلة الحروب الطويلة التي جمعت بين إسرائيل والدول العربية منذ الخمسينيات إلى السبعينيات.

في “كتيبة الإعدام” ميزات أخرى كالقدرة الكبيرة على التعبير بالصورة والظل وهو ما يعكسه مثلا مشهد تعذيب البطل “نور الشريف” في مخفر الشرطة في القاهرة على يد محققين في قضايا الفساد المالي من أجل إرغامه على الإقرار بجريمة خيانة الوطن وسرقة المال العام. بعض المشاهد تبدو غير مقنعة مثل مشهد نور الشريف برفقة معالي زايد وهما يقفان أمام الأهرامات وهو المكان التاريخي الذي تم اختياره من قبل المخرج ليكشف البطل للبطلة لها عن تفاصيل قصة حياته، وتاريخ معاناته من الحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة، ذلك أن الحركية المبالغ فيها لمعالي مزايد في المشهد تبدو غير مقنعة دراميا. ومن بين المشاهد المفتعلة أيضا والتي لا يمكن تصور حدوثها اليوم هو التدخين المبالغ فيه للممثلين. بحيث لا يخلو أي مشهد تقريبا من ممثل يتكلم أو يتحرك داخل الإطار إلا وهو يأخذ السيجارة تلو الأخرى، ويشرع في التدخين بدون مبرر درامي. بحيث كثيرا ما تظهر السيجارة وكأنها وسيلة لإخفاء رهبة الممثل من الكاميرا أو للتباهي. وهي مشاهد كانت منتشرة عموما في السينما المصرية آنذاك ولا يمكن مؤاخذة المخرج عليها، بل هي مرتبطة بظاهرة التدخين التي كانت إحدى مظاهر التباهي الاجتماعي، وكانت منتشرة بقوة في الأماكن العامة بشكل أكبر مما هو عليه الحال اليوم.

في الفيلم جرأة سياسية واجتماعية بارزة بحيث أنه قام بتصوير قد يكون غير مسبوق لمشاهد، وإن عابرة، لظاهرة الدعارة في المجتمع المصري، وهو جزء من واقعية المخرج عاطف الطيب المتيزة وقدرته على تصوير خبايا وحقائق المجتمع المصري، مخرج مات مبكرا في أوج عطائه في سن 48 سنة. كما يكشف الفيلم عن قوة أسامة أنور عكاشة على مستوى القصة والحوار وهو ما سيتأكد لاحقا في أعماله الكبيرة خلال سنوات طويلة بعد أن أصبح أحد أشهر كتاب السيناريو في العالم العربي. الموسيقى مبالغ فيها لأنها تتخلل جل مشاهد الفيلم رغم أن المقدمة الموسيقية متميزة بتوقيع الفنان سيد حجاب. أما نهاية الفيلم، وبدون الكشف عن جميع تفاصيلها، فتبقى مثالية إلى حد ما لأنها إذا كانت معقولة نوعا ما بالنسبة لنور الشريف ومعالي زايد، اللذان خططا للانتقام من الخائن الحقيقي بعد أن خسرا الكثير في حياتهما: نور الشريف خسر سنوات من عمره في السجن، ومعالي زايد خسرت أباها وأخاها اللذان قتلا في السويس حلال عملية سرقة المال بتواطىء مع إسرائيليين ومصريين. فإذا كانت النهاية معقولة بالنسبة للبطلين الرئيسيين، فإنها أقل إقناعا بالنسبة لرجلي الشرطة اللذان كانا يشرفان على التحقيق في هذه القضية.

فيلم “كتيبة الإعدام” تعيد بثه منذ أسابيع قناة “روتانا كلاسيك” على قمر “نايل سات” مرة في الأسبوع تقريبا ضمن سلسلة الأفلام الكلاسيكية العربية التي تخصصت فيها القناة والتي تغيب عنها السينما المغربية. وتعتبر قنوات “روتانا” المتعددة بمثابة تجسيد لتحالف قديم سعودي مصري في مجال الدراما والثقافة والفن، وهو تحالف ظهرت أهميته نسبيا اليوم بعد ثورات الربيع العربي، وخاصة منذ الانقلاب العسكري في مصر وميلاد تحالف مصري خليجي يستغل ويوظف سياسيا الرصيد الثقافي المصرية في السينما وغيرها. ويوجد مقابل هذا التحالف قطب إعلامي وفني منافس يتشكل من قنوات الجزيرة الإخبارية وقنوات “بي إين” الرياضية والسينمائية.

تشهد جميع خصائص هذا الفيلم على “القوة الناعمة” للسينما المصرية خلال فترة تاريخية معينة. ويبدو أنها قوة في تراجع اليوم، رغم أهمية مركز مصر ثقافيا وشعبيا. هل سبب تراجعها هي الموجة السينمائية العالمية الجارفة التي جاءت مع الهاتف النقال و”نيت فليسك”؟ ومع القوات الناعمة القادمة من مناطق عدة مثل تركيا أو أمريكا بلغتها الإنجليزية الكاسحة لكل اللغات اليوم مجسدة عصر “Globish أو “الكوكب الإنجليزي” كما تسميه المفكرة الفرنسية باربارا كاسان؟ أم أن السبب يعود إلى تراجع مصري وعربي عام على الصعيد السياسي في ظل أزمات أو انتقالات سياسية قد تكون أدت إلى تراجع ثقافي أيضا؟

من مميزات الفيلم أخيرا هو أنه، عكس الأفلام المصرية الكثيرة التي تناولت قضية الصراع العربي الإسرائيلي وتميزت بسردية متشابهة تقوم على اعتبار إسرائيل هي العدو الخارجي الوحيد والأوحد، فإن تميز “كتيبة الإعدام” يكمن في تسليطه الضوء على عدو داخلي هو الفساد. وهو فساد مرتبط بالسلطة وتعاني منها مصر والدول العربية عموما، ويفسر إلى حد بعيد الضعف في مواجهة الأعداء الخارجيين. فالرؤية المتميزة للفيلم هنا، عكس سينما السلطة السائدة، تقوم على عدم تحديد العدو الخارجي كسبب وحيد لجميع مشاكلنا. إنه فيلم جدير بالمشاهدة ينبه إلى أهمية الالتفات إلى المشاكل والسلبيات الداخلية، وإلى اعتماد النقد الذاتي لمعالجة أسباب الهزائم والتأخر التاريخي العربي.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *