وجهة نظر

الدرس التركي.. سقوط كبير لتيار الثورة المضادة

ثورات ربيع الأمة الديمقراطي تسير اليوم على شفير النار، وقد أفرز المخاض الثوري تيارا أصيلا منحازا لقضايا الأمة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وممانع يناهض الاستبداد والفساد والتبعية، وتيار منعزل ومندرج في استراتيجية الثورة المضادة، ولقد بلغ التراكم الثوري إلى مرحلة يسميها المنصف المرزوقي بتوازن الفشلين؛ فشل الثورة في تحقيق كامل أهدافها، بسبب أخطاء مسلكية وقعت فيها فصائل الثورة ومكوناتها، وفشل الثورة المضادة في إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل زمن الثورات، حيث لم يعد بإمكانها أن تحكم خارج قوانين الطوارئ، ونزفت منها اخر قطرة من الشرعية، بين هاذين الفشلين ظهرت نابتة فكرية وسياسية لم تستطع أن تواكب التحولات، إما بسب ثقافتها التراثية السلفية المرتبطة بالكثير من القيود التاريخية والكوابح المنهجية، لتمارس شغبها المفتعل في الدفاع عن بنية الاستبداد، لأنها في نظرها هي المنقذ من الفتن!..

أو بسبب طائفيتها المفرطة، حيث رفعت راية المقاومة فوق رماح الاستبداد، واعتبرته قلعة منيعة بانهياره أو تخريبه تسقط راية المقاومة، وهذا وهم وتأسيس خاطئ لمفهوم المقاومة، لذلك ترسخ في ذهنياتها المشبعة بقاموس الأفكار الجاهزة، أن الثورات الديمقراطية رجس من أعمال الشيطان!..

أو بسبب خوفها من الآتي، تحكم فيها نزوع مرضي، يمكن أن أسميه فوبيا الديمقراطية، فرأت في الثورات تمكين لتيارات الإسلام السياسي، فلجأت إلى القواميس القديمة، وانتزعت من فلسفة الأنوار مفهوم المستبد المتنور، لحماية حصون الحداثة المهددة من الداخل!
هكذا تعزز تيار الثورة المضادة بروافد فكرية تراثية وطائفية وحداثية، يجمعهم نفس الهدف، ويختلفون في الاتجاهات والدوافع، فالتراثي باسم القيود التاريخية يناهض الثورات الديمقراطية، والطائفي باسم المقاومة والممانعة يناهض الثورات الديمقراطية، والحداثي باسم الخوف من المجهول يناهض الثورات الديمقراطية!.

ولما جاء الانقلاب العسكري في تركيا، في ساعاته الأولى، والذي كان مقدمة لسيناريو تفتيت المنطقة، ملأت الفرحة قلوب الفلول من كل الألوان الفكرية والسياسية، وهاجت عواطفهم وبلغت المدى، فألقوا ما في صدورهم من غل وحقد، وخصوصا أن تركيا كانت أخر قلعة منيعة للديمقراطية والشرعية، وبسقوطها ستسقط كل المنطقة تباعا، وستخضع لعملية التفتيت المقيتة، وأن ربيع الأمة الديمقراطي سيتم تشييعه بعد لحظات إلى متواه الأخير، لكن مع مضي بضع ساعات، وابتداء مرحلة العد العكسي، وخروج الشعب التركي بشكل سريع، محطما كل القياسات الزمنية في عمر مقاومة الانقلابات في التاريخ، وإلحاق هزيمة مريرة بالانقلابيين، فبشعار وحنجرة انتصر انتصارا تاريخيا على الدبابات المدججة بأعتى أنواع الأسلحة، بدأ تيار الثورة المضادة ينكمش، ويخفي حسرته، ويوحي بكلام ديبلوماسي مفاده أن لا أحد مع الانقلاب، ولا أحد له أية حسابات مع الديمقراطية، وإنما في جعبته بعض الانتقادات والمخاوف المشروعة، وبعد هزيمة الانقلاب بشكل نهائي خرجت فلول هذا التيار بشكل سافر وعنيف، لتبدأ هجومها متشككة في العملية الانقلابية في رمتها، وأنها لا تعدو مجرد مسرحية لتنمية رصيد اوردغان، وأن عمليات المتابعة للانقلابيين، هي مس خطير بحقوق الانسان، لقد تمكن الاستبداد من هؤلاء حتى أصبحوا منظرين استراتيجيين، لهم قوة خيال وقدرة على الجدل العقيم، في التدليس وإشاعة الغموض وخلط الأوراق، وممارسة كل أنواع العنف اللفظي والرمزي في حق من يخالفهم أو يتصدى لدجلهم!

الدرس التركي الديمقراطي كان قلعة منيعة غيرت موازين القوى والارادات، لقد أكدت أن ربيع الأمة لا يزال يحبل بأزهاره وشقائق نعمانه وتغريدات أطياره، وأن هذا الحدث السعيد سيعيد الأمة بكاملها لمربع الثورات في موجة جديدة أكثر تميزا وحضارية، إننا سننتقل بمشيئة الله تعالى من مربع الفشل إلى مربع استثمار دروس الفشل، وتحويله إلى نجاحات متتالية.. لقد علمتنا تركيا الديمقراطية أن إرادة الشعوب أبدا لا تهزم، وأن وحدة الشعوب هي إرادة الحياة، وأن الانتصار هو انتصار الجميع، لا انتصار فصيل على أخر، وأن الزعيم الكاريزمي هو الشعب هو دولة التعاقد والمؤسسات الشرعية.

اليوم تيار الثورة المضادة صار يتيما يتسول في محاضن التاريخ القديم، ويتعلق بأستار مقاومة رثة فقدت بوصلتها، أو حداثة معطوبة منحتنا الأوهام، عن مشروعية مفقودة!.