وجهة نظر

كينيا والموقف من الصحراء المغربية.. تحول استراتيجي يعيد رسم التوازنات داخل القارة

يشكّل الموقف المعلن رسميًا من طرف جمهورية كينيا تجاه قضية الصحراء المغربية نقطة تحوّل دبلوماسي ذات أبعاد استراتيجية تتجاوز العلاقات الثنائية نحو إعادة تشكيل جزء من التوازنات الجيوسياسية داخل القارة الإفريقية. فقد جاء في بيان مشترك بين الرباط ونيروبي، عقب الزيارة الرسمية للوزير الكيني موساليا مودافادي إلى المغرب، أن كينيا تعتبر مبادرة الحكم الذاتي المغربية الإطار الوحيد الجاد والواقعي والمستدام لتسوية هذا النزاع الإقليمي.

لم يكن هذا الموقف وليد لحظة ظرفية، بل هو تتويج لمسار تحوّلي بدأ مع انتخاب الرئيس الكيني ويليام روتو في 15 غشت 2022. فبعد يوم واحد فقط من تنصيبه، نشر الرئيس روتو تغريدة عبر حسابه الرسمي عبر “تويتر(X)” ، أعلن فيها بشكل واضح سحب اعتراف كينيا بـ”الجمهورية الصحراوية”، مؤكدًا دعم بلاده الكامل لسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، ومشيدًا بعلاقات التعاون المتقدمة بين البلدين. هذه التغريدة لم تلبث أن حُذفت خلال أقل من 24 ساعة، تحت ضغط جهات نافذة داخل وزارة الخارجية الكينية ومؤسسات الدولة العميقة التي كانت تميل للحفاظ على الموقف التقليدي. ومع ذلك، ظل محتوى التغريدة حاضرًا في التوجه السياسي الجديد، وتُرجم لاحقًا إلى خطوات ملموسة على مستوى تمثيل البوليساريو، والتعاون مع المغرب، وصولًا إلى البيان المشترك الصادر في 26 ماي 2025.

وفي سياق تعبيره المتكرر عن رفض منطق الانفصال، أشار الرئيس روتو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شتنبر 2024 إلى أن “إفريقيا تتكون من 54 دولة”، في تصريح مباشر يحمل دلالة سياسية واضحة، يُقصي ضمنيًا أي كيان غير معترف به من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي. هذا التصريح، الذي مرّ في خطابه ضمن سياق التنديد بغياب تمثيلية منصفة لإفريقيا داخل مجلس الأمن، فُهم على نطاق واسع كرسالة دبلوماسية ضد الأطروحة الانفصالية، ويعكس نضجًا في الرؤية الكينية الجديدة القائمة على الواقعية واحترام الشرعية الدولية.

تاريخيًا، كانت كينيا تُعد من بين أبرز الدول الإفريقية التي ساندت جبهة البوليساريو، حيث اعترفت رسميًا بـ”الجمهورية الصحراوية” سنة 2005، واستقبلت قياداتها، وسمحت لهم بفتح تمثيليات رمزية داخل نيروبي. وقد ارتبط هذا الدعم بسياق سياسي مؤطر بخطاب مناهضة الاستعمار وتيارات التضامن الإفريقي مع حركات التحرر، مدفوعًا أيضًا بتقارب جزائري-كيني في عدد من الملفات الإقليمية.

لكن خلال العقد الأخير، ومع التحولات العميقة التي شهدتها إفريقيا، خاصة بعد الإصلاح المؤسساتي داخل الاتحاد الإفريقي، بدأت كينيا تُعيد تقييم مواقفها. فقد أدركت النخبة السياسية الجديدة أن الاصطفاف إلى جانب كيان غير معترف به من قبل الأمم المتحدة، ويُعد عضوًا محل نزاع داخل الاتحاد الإفريقي، لا يخدم مصالح كينيا كقوة صاعدة تبحث عن تموقع متوازن إقليميًا ودوليًا.

كينيا ليست دولة عادية في شرق إفريقيا. فهي ثالث أكبر اقتصاد في إفريقيا جنوب الصحراء بعد نيجيريا وجنوب إفريقيا من حيث الناتج الداخلي الخام، وتتمتع ببنية تحتية قوية، ونظام بنكي متطور، وتُعد العاصمة نيروبي مقرًا إقليميًا لعدد من المنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، وبرنامج المستوطنات البشرية (UN-Habitat). كما أن كينيا عضو مؤسس في تكتل شرق إفريقيا (EAC) الذي يضم أكثر من 300 مليون نسمة، وعضو فاعل في الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD)، وتلعب دورًا محوريًا في قضايا السلام في الصومال، جنوب السودان، والقرن الإفريقي.

من الناحية الدبلوماسية، تحتفظ كينيا بعلاقات قوية مع القوى الكبرى، وهي شريك استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ومرشحة دائمة لمهام وساطة داخل القارة. هذا يجعل من موقفها إزاء قضية الصحراء ذا أثر يتجاوز الجغرافيا، لأنه يُؤشر لتحول في أحد أبرز مراكز الثقل الدبلوماسي شرق القارة.

وعلى المستوى الاقتصادي، عرفت العلاقات بين المغرب وكينيا خلال السنوات الأخيرة دينامية تصاعدية، خصوصًا بعد افتتاح سفارة مغربية في نيروبي سنة 2014. وقد عمل المغرب على تعزيز الشراكة مع كينيا في مجالات الفلاحة، التكوين المهني، الطاقة، والأسمدة، من خلال استثمارات مباشرة، وعلى رأسها تدخلات مجموعة المكتب الشريف للفوسفاط (OCP). وتجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 350 مليون دولار سنويًا، مع توجه نحو إبرام اتفاقيات جديدة، من بينها اتفاقية تفادي الازدواج الضريبي، واتفاق تبادل تجاري في إطار منطقة التبادل الحر القارية الإفريقية.

البيان المشترك الصادر في 26 ماي 2025 جاء ليكرس هذه الدينامية، حيث أكد الجانبان على دعم قرارات مجلس الأمن، وخصوصًا القرار 2756، وعلى حصرية المسار الأممي لتسوية النزاع. كما نوّه البيان بالدور الريادي لصاحب الجلالة الملك محمد السادس في تعزيز الاندماج الإفريقي، وخاصة من خلال مبادرة تسهيل ولوج الدول غير الساحلية إلى المحيط الأطلسي عبر التراب المغربي، وهي مبادرة استراتيجية نالت دعم نيروبي الكامل.

أما في ما يخص قضية الصحراء، فقد ذهبت كينيا أبعد من مجرد سحب الاعتراف، إذ اعتبرت مبادرة الحكم الذاتي المغربية الحل الوحيد الجدي والواقعي والمستدام، مؤكدة دعمها للتوافق الدولي المتزايد حول هذه الرؤية. بل إن نيروبي التزمت، من خلال البيان المشترك، بالعمل مع الدول التي تتقاسم معها هذا الموقف، بما يشير إلى انخراطها في تكتل إفريقي جديد داعم للمقترح المغربي.

في المحصلة، لا يمكن فصل الموقف الكيني عن التحولات الكبرى التي تشهدها القارة. فإفريقيا الجديدة لم تعُد تُدار بمنطق الحرب الباردة، ولا بشعارات تجاوزها الزمن. بل باتت الحاجة ملحّة إلى بناء تحالفات تقوم على النجاعة، الشرعية، واحترام سيادة الدول. والمغرب، برؤيته الإفريقية المتبصّرة، استطاع أن يتحول من مجرد فاعل إلى مرجع قارّي، ومن مجرد قضية إلى مشروع استقرار. وكينيا، باختيارها هذا، تؤكد أنها قرأت الاتجاه الصحيح للتاريخ، واصطفت إلى جانب منطق الدولة، لا منطق الكيان.

وهكذا، فإن الدعم الكيني لا يمثل فقط موقفًا دبلوماسيًا متقدمًا، بل خطوة استراتيجية في مسار انحسار الأطروحة الانفصالية داخل القارة، وصعود جبهة إفريقية جديدة تؤمن بأن الحل المغربي هو مفتاح الاستقرار، وبأن زمن المناورات قد ولّى بلا رجعة.

* منسق شمال إفريقيا بمجلس الشباب العربي الإفريقي مسؤول العلاقات الخارجية بالشبيبة الاستقلالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *