وجهة نظر

بوشكين أمير شعراء روسيا

مقدمة

لا شك أن ألكسندر بوشكين، من أعظم شعراء روسيا في العصر الحديث” وأشهرهم على الإطلاق، فهو شاعر وكاتب مسرحي وأديب وروائي ومناضل، يقولون عنه: مؤسس الأدب الروسي الحديث، كتب عن معاناة الفلاح وعن الانتماء للوطن، ودافع عن الحرية والعدل، قرأ القرآن الكريم وتأثر به تأثرا كبيرا، واستمد من مضامينه وأسلوبه تسع قصائد من أروع ما خطَّت يداه. وسنحاول في هذا المقال القصير تقديم نبذة تعريفية بهذا الأديب وببعض أعماله العالمية.

فمن هو بوشكين؟ وماهي أعماله الأدبية؟ وما هي مضامين فكره وخصائص أسلوبه؟ وما مصادر معرفته ونبوغه؟

أولا: من هو بوشكين؟

وُلد ألكسندر سيرغييفتش بوشكين يوم  6 يونيو 1799م، في موسكو وسط عائلةٍ روسية غنية، والدُه هو سيرغي لفوفيتش بوشكين من العائلات الكبيرة والمشتهرة بموسكو حينئذ، وجدُّه الأكبر من والدته ينحدر من ناحية أمه “ناديجدا” من أصول عربية إسلامية إفريقية، يسمى “إبراهيم بيتروفيتش جانيبال”، وقد كان جِنرالا في الجيش، وكانت له مكانة متميزة عند القيصر بطرس الأول، وقد كان هذا الجد موضع فخرٍ واعتزاز لـ”بوشكين” كما كان يفتخر بأصوله الإسلامية.

تربَّى بوشكين عند ممرضات ومعلمين فرنسيين، فتعلَّم منهم اللغة الفرنسية، وكانت لغته المفضلة حتى سن العاشرة، ثم تعلَّم اللغة الروسية مع العائلة، وخاصة مع مربيته السيدة آرينا روديونوفا، التي  تأثر بها وكان يحبها أكثر من والدته.

تـألق بوشكين بسبب أعماله الأدبية الرائعة وتوسعت شهرته بالتدريج حتى صار مشتهرا في روسيا وخارجها، وتعرض للاضطهاد والسّجن بسبب مبادئه ومواقفه، لأنه كان ينتقد الامبراطور الروسي آنذاك. وظل صامدا كالجبل منتصرا لقضايا الطبقة المستضعفة من الفلاحين والكادحين والفقراء، يتحمل تبعات كلماته القوية والرنانة غير عابءٍ بتهديدات الآخرين وتخويفاتهم.

أما عن قصة وفاته، فقد حدث مرةً أن تحرش أحد الضُّباط من أصل فرنسي بزوجته، ويسمى “جورج تشارلز دي هيكران دانثيس”، ويُعرف أيضًا باسم “دانتي جيكيرن”، حيث حاول إغواء زوجة بوشكين “ناتاليا بوشكينا”، فعلم بذلك بوشكين وغضب غضبا شديدا ودخل معه في اقتتال بالسلاح، إلا أنه جُرح جروحا خطيرة وحصل له نزيف حاد جراء ذلك، لتنتهي المعركة بمقتل أديب روسيا الكبير. ياللأسف!

فكانت وراء تعلُّم بوشكين امرأة (آرينا) وكانت وراء موته أيضا امرأة (ناتاليا).

نعم، تعرض بوشكين للسّجن والنفي بسبب أفكاره، وقُتل بسبب غيرته على شَرفه، حيث كان رجل مبادئَ لا تقبل الـمُساومة وصاحبَ نضالٍ لا يقبلُ الـمُداهنة، وبقي ثابتا على مبادئه، إلى أن قُتل في شبابه مدافعا عن شرفه وموقفه، يوم 10 فبراير 1837م، وهو لا يتجاوز 38 سنة من عُمره.

ثانيا: أعماله الأدبية

نشر بوشكين أول قصيدة له في سِنِّ الخامسة عشرة، ومنذ ذلك الحين وصيته ينتشر داخل المؤسسات والمنتديات الأدبية،  في. حيث ألقى خلال تخرجه من فناء تسارسكوي سيلو (قاعة الإمبراطور ألكسندر) من المدرسة الثانوية، بالقرب من سانت بطرسبرغ، قصيدة التاريخية “أغنية الحرية“، والتي انتقد فيها القيصر ودعا إلى الثورة عليه، وما كان من الإمبراطور ألكسندر الأول لما سمع إلا أن يقوم بنفيه قصد التخلُّص منه.

ومن هنا بدأت قصة شهرته مع قصة اضطهاده.

عاش بوشكين في مرحلة ما بعد المدرسة منغمساً في ثقافة اللهو والصخب رفقة مجموعة من الشباب من أقرانه في سانت بطرسبرغ، ولكنه استأنف مسيرته الأدبية ولم يتوقف عن الإبداع، حيث كتب مسرحيته الدرامية المشتهرة “بوريس غودونوف”، رغم ظروف المراقبة المشدَّدة من قبل شرطة الإمبراطور السياسية على الطبع والنشر. كما كانت روايته الشعرية «يفغني أونيغين» تُنشر بشكل متسلسل بين عامي 1825 و 1832م.

لبوشكين أعمال أدبية رائعة ومتنوعة، ترجمت بعضها إلى لغات عالمية، مثل الإنجليزية والعربية والفارسية والفرنسية والتركية، نذكر منها:

  • قصيدة “الفارس البرونزي”
  • مسرحية “الضيف الحجري”، وهي مسرحية درامية
  • مسرحية “موزارت وساليري” وهي قصيدة شعرية قصيرة.
  • قصيدة «التراجيديات الصغيرة» التي جُسدت من قبل بوشكين نفسه في رسالة إلى بيوتر بلتينوف في عام 1830م
  • مسرحية بيتر شافير «أماديوس» وأوبرا ريمسكي كورساكوف «موزارت وساليري».
  • مجموعة “حكايات الراحل إيفان بتروفش بيلكين”، ومنها قصة “الطلقة” المشتهرة.
  • رواية «يفغني أونيغين» (100 صفحة)، وهي رواية شعرية تشكل نموذجا وتقليدا للروايات الروسية العريقة.
  • مجموعة «ملكة البستون: مجموعة قصصية، تم إدراجها في «بلاك ووتر»، وهي مجموعة من القصص القصيرة جمعها ألبرتو مانغيل.

نظرا لأهمية أعمال بوشكين تم تلحين كثير من قصائده في أعمال الأوبرا المشتهرة، ابتداء من أوبرا غلينكا “رسلان ولودميلا” التي استُلهمت من أعماله، وتركت أثرًا في التقاليد الموسيقية الروسية.

ومثل أعمال تشايكوفسكي الأوبرالية “يفغني أونيغن” و”ملكة البستوني” و أوبرا موسورسكي التذكارية «بوريس غودونوف»، أوبرا دارغوميسكي «رسالكا» وأوبرا «الضيف الحجري»؛ وأوبرا ريمسكي كورساكوف «موزارت وساليري»، وأوبرا «قصة القيصر سلطان»، وأوبرا «الديك الصغير الذهبي»؛ وأوبرا كوي «سجين القوقاز» وأوبرا «وليمة في زمن الطاعون» وأوبرا «ابنة القبطان»؛ وأوبر تشايكوفسكي «مازيبا»؛ وأوبرا رخمانينوف ذات العرض الواحد «أليكو» (اعتمادًا على «الغجريات») وأوبرا «الفارس البخيل»؛ وأوبرا سترافينسكي «مارفا»، وأوبرا نابرافنيك «دبروفسكي”.
بالإضافة إلى ما سبق، تم إعداد رقصات الباليه والكنتاتا، وأغاني كثير جدا، على قصائد بوشكين الشعرية[1] (بما فيها قصائده باللغة الفرنسية، في سلسلة أغاني إيزابيل أبولكير “ترويكا”).

ثالثا: مصادر معرفته ونبوغه

كان بوشكين عبقريا، عميق التفكير وغزير الكتابة[2]، كان يحيا ما يفكر فيه، اطلع على التراث الروسي وعلى التراث الفارسي وعلى التراث الإسلامي العربي، وتأثر كثيرا بدين الإسلام والأدب الإسلامي والشعر العربي، حيث قرأ القرآن الكريم وتأثر بأسلوبه وبمفاهيمه وبمضامينه كثيرا، وقرأ  كتاب “ألف ليلة وليلة”، وتراجيديا لومونوسف “تمرا وسليم”، وتابع محاضرات البروفيسور “كايدانوف” في تاريخ العرب والإسلام وتاريخ إيران وسيرة النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام.

ويظهر جليا تأثره وإعجابه الكبير بالقرآن الكريم وبالنبي محمد عليه الصلاة والسلام في مؤلفاته، فله تسع قصائد مستمدة من القرآن الكريم ومن السيرة النبوية. مثال ذلك قصيدته بعنوان “اقتباسات من القرآن“، تضم مائة بيت شعري.

وتجدر الإشارة إلى أن ظهور أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية هي التي أعدها العلامة والدبلوماسي الروسي بطرس بوسنيكوف عام(1716) من أول طبعة فرنسية مترجمة مباشرة من اللغة العربية وضعها المستشرق والدبلوماسي الفرنسي(أندريه دي ريّيه) قنصل فرنسا بالقاهرة منذ عام (1630) صدرت في باريس سنة(1647) بعنوان “قرآن محمت LAlcoran de Mahomet”. وأُعيدت طباعتها عشرات المرات قبل أن تظهر ترجمات أخرى.

وجد بوشكين في القرآن أسلوبا مختلفا عن الأساليب الأدبية الأخرى، فتأثر به في ملحمته الشعرية الرائعة “محاكاة القرآن” أو”من وحي القرآن“، وقصيدة “النبي” و”مغارة سرية” التي نظمها بوحي من سورة الكهف التي قرأها، على الأرجح، في الشتاء بمنفاه في قرية ميخائيلوفسكي جنوب روسيا، وتَذَكّر فيها مغارة القرم الباردة والـمُظلمة والـمُخيفة، أيام الحبس والعزلة الاضطرارية.

في محاكاة القرآن اقتبس “آيات” كثيرة من سُوَر البقرة والكهف ومريم وطه والحج والنور الأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والنجم والواقعة ونوح والـمُزمّل والُمُدثّر والقيامة وعبس والتكوير والفجر والبلد والضُحى…

مما يقوله فيها:

بمروءةٍ ازدري الباطلَ
واسلك بثقةٍ صراطَ الحقِ
وأحببْ اليتامى، وبلغ قُرآني
المخلوقاتَ المرتعشةَ.
………………….
أما أنتم؛ يا ضيوفَ مُحَمَّد،
يا وافدينَ إلى أُمسيتهِ،
حذار من أن تعكروا
مزاج نبيِّ ببهارج الدنيا.
فالنَّبيُّ يمقتُ، حين يسمو
إلهامه الـمُقدس، اللَّغْويينَ
والكلماتَ المختالةَ والفارغةَ.
أَجِلّوا مأدبته بخشوع
وانحنوا بعفةٍ لنسائه الشابات.
………………..
لِمَ يتغطرسُ الإنسانُ؟
أَلأنهُ ظَهر إلى الحياة عارياً،
ليعيش ما لا يزيد عن قرن،
ويموتُ ضعيفاً كما ولدَ ضعيفاً؟
أَلأن الرَّب يُميتهُ
ويُحيه بمَشيئتهِ؟
ومن السماءِ يَحميه
في السَّراءِ والضَّراءِ؟

أَ لهذا وهبهُ الرَّبُ الثمارَ،
والخبز َوالتَّمرَ والزيتونَ
وباركَ أعماله في التَّلِ
والحقلِ والبُستانِ؟
………………………….
الأرضُ مستقرةٌ-السماءُ قِبابٌ،
سانِدُها أنتَ يا خالق،
أجلْ لَنْ تهوى
على الأرضِ والماء
ولن تسحقنا.
………………….
للخالقِ صلوا، فهو القدير
يوجهُ الريحَ؛ في يوم السعيرِ
ويزجي إلى السَّماءِ الغيومَ،
ويمنحُ الأرضَ ظِلَّ الشَّجرِ.

الرَّحيمٌ هو؛ لمحمد
فتح القرآن الـمُنيرَ
أجل، سنشعُ بالنور أيضاً،
وستزولُ الغشاوةُ من العيون.
……………………….
قُم أُيها الوجل
في كهفِكَ
يَظلُ السراجُ المقدسُ
مُنيراً حتى الصباحِ.
بدعاءٍ من القلبِ
اطرد يا نبيّ
الهواجسَ الكئيبةَ
والأحلامَ الماكرةَ!
وِتلْ صلاةَ الصلاحِ
إلى الصباحِ
ورتّلْ كتابَ السماءِ
حتى مَطلعِ الفجرِ.

في جزء من قصيدة “مغارة سرية” أو “كهف”، يقول:

في المغارة السِّرية،

في يوم العصف

قرأت القرآن العذب

فجأة هبط ملاك السلوان

حاملاً لي طلسمان

قوته الغَيبية

كلمات مقدسة

خطتها عليه

يد خفية.[3]

خاتمة
رغم أن بوشكين لم يُعمِّر طويلا، حيث عاش 38 سنة فقط، إلا أنه استطاع أن يُنجز ثروة أدبية شكَّلت نموذجا مُلهما لمئات الأدباء والشعراء في روسيا وفي العالم، ولا يزال يُصنَّف من قبل الكثيرين على أنه عميد الأدب الروسي الكلاسيكي، الذي استطاع أن يستوعب بلغته الروسية الراقية واطلاعه الدقيق على القرآن الكريم جميع التناقضات في عصره (تناقضات الحياة وتناقضات الأفكار واختلاف المذاهب) ويتمثَّلها لينتج ثقافة عالمية رائعة. كما استطاع أن ينحت مفردات جديدة في اللغة الروسية، واستحق بتلك الموسوعية والدقة والصدق لقب “مؤسس الأدب الروسي في القرن التاسع عشر”، بناء على ما أنجزه -في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر- في أنماط أدبية متنوعة: الشعر الغنائي، والشعر القصصي، والرواية، والقصة القصيرة، والمسرح الدرامي، والمقالة النقدية والرسالة الشخصية. وقد كان بوشكين يكتب بنَفَس ثوري صادق ينتصر لقيم الحق والخير والجمال ويكره الظلم والشّر والفساد، وبعد موته ترك أثرا واضحا في الأدب والسياسة والثقافة[4].

 

تطوان  24-07-2024

[1] – انظر مجموعة من قصائد بوشكين على الرابط:   https://2h.ae/cXmg

[2] – انظر كتب ومقالات عن بوشكين على الرابط: https://2u.pw/izDuDNh4

[3] – هذه المقطوعات الشعرية الروسية من ترجمة: ناظم الديراوي…

[4] – للمزيد انظر:     https://2h.ae/tNIb

ــــــــــــــــ

* الدكتور أحمد الفراك، كاتب وباحث، أستاذ الفلسفة والمنطق بكلية أصول الدين جامعة عبد المالك السعدي-تطوان. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *