سلطة النيابة العامة بين الملائمة والتقييد: قراءة نقدية في ضوء تعديل قانون المسطرة الجنائية الجديد..

في قلب العدالة الجنائية المغربية تقف النيابة العامة كفاعل مركزي يُمنح سلطة تقرير مصير الدعوى العمومية. تملك النيابة العامة ما يُعرف بـ”سلطة الملائمة”، أي أن تقرر، ولو في وجود أدلة، إن كانت ستسطر المتابعة أو تحفظ الملف. لكن هذا الامتياز ظل طويلاً بمنأى عن الرقابة، ولا يُمَكِّن المتضرر أو المشتكي من الطعن في قراراتها..
فهل جاء تعديل قانون المسطرة الجنائية (03.23) لسنة 2025 ليُصحّح هذا الاختلال؟ وهل ما زالت قرارات النيابة العامة “غير قابلة للمراجعة” في زمن يُرفع فيه شعار ربط المسؤولية بالمحاسبة؟
تُتيح سلطة الملائمة للنيابة العامة حرية التقدير في توجيه الاتهام أو حفظ المسطرة، وذلك استنادًا إلى ما تراه يخدم (المصلحة العامة). لكن في الواقع، يُنظر إلى هذه السلطة على أنها قوة شبه مطلقة، خصوصًا أنها لا تُرفَق بالتعليل الواجب في كثير من الحالات، ولا تخضع لرقابة أي قاضٍ أو جهة مستقلة.. ما عدا عبارات بسيطة، غير مقنعة، درج تثبيتها في ذيل محاضر الضابطة القضائية، المتلخصة في “عدم كفاية الأدلة” في حالة الحفظ، وفي حالة المتابعة في حالة اعتقال تلخصها في عبارة “نظرا لخطورة الفعل وعدم كفاية الضمانات..”
نتيجةً لذلك، لا محالة سوف تُصبح قرارات النيابة محل انتقاد مثلا عندما تُحفظ ملفات تتعلق بالفساد أو النفوذ أو غيره، في حين تُتابَع ملفات هامشية بسرعة لافتة…
وأمام هذا اللامنطق القانوني، وأمام رهان ما يسمى بدولة الحق والقانون، والولوج المستنير للعدالة، وغيرها من التسميات الرنانة، فإنه من غير الممكن ترك سلطة ما مطلقة كما نظّر لذلك العديد من الفلاسفة، خاصة مونتيسكيو في كتابه الشهير روح القوانين. وهو ما يطلق عليه، اختصارا، بمبدأ فصل السلط. إن ترك قوة مطلقة من دون قوة أخرى تعارضها وتنتقدها وتراقبها أعمالها، يجعلنا نحصل في الأخير على نتيجة واحدة لا ثانية لها: الاستبداد والظلم والفساد.. لذلك، الفكر الإنساني الحديث، بناء على جهود جبارة من طرف المهتمين، فلاسفة، مفكرين، فقهاء.. توصلوا لابتداع ثلاث سلط ضرورية وواجبة لكل دولة تصبو نحو تحقيق عدالة حقة، وهي سلطة تنفيذية وأخرى تشريعية وقضائية.. كل واحدة من هذه السلط الثلاث يتحدد مجال اشتغالها وفق القانون، وهذه تراقب عمل تلك..
وأمام هذا الانحراف في استعمال السلطة، الذي تعرفه بلادنا، خصوصا في المجال القضائي الذي يعاني الأمرين، سال الكثير من المداد وبُحّت العديد من الحناجر داعية إلى الرجوع إلى جادة الصواب القانوني العالمي. ومع كل تعديل في القانون يتم انتظار حصول هذا التصويب على أحر من الجمر، لكن للأسف في كل مرة لا يحدث هذا..
ونفس الشيء حصل مع تعديل قانون المسطرة الجنائية (03.23) لسنة 2025، حيث طُرحت آمال في تقييد السلطة الواسعة للنيابة العامة، لكن من دون جدوى، إذ بدل ذلك حدث ما يمكن تسميته بانتكاسة أو ردة تشريعية، لعلها تتجلى في المادة الثالثة، التي جعلت تحريك الدعوى العمومية في قضايا المال العام والفساد مرهونًا بتقارير جهات محددة على سبيل الحصر(المجلس الأعلى للحسابات، مفتشية المالية…)، وبالتالي تم سحب سلطة الملائمة من النيابة العامة في هذا المجال تحديدًا. إن قرار الحفظ الذي تتخذه النيابة العامة، في مساطر غير المساطر التي يكون موضوعها المال العام، غير قابل لأي للطعن، لا توجد أي آلية قانونية لعرض هذه القرارات على جهة قضائية مستقلة، لا يلزم النيابة بتسبيب قرارها للحفظ.. بعبارة أخرى، يظل من حق النيابة العامة دفن الملف تحت ما يسمى يافطة سلطة الملائمة..
ومن خلال المادة الثالثة من القانون رقم (03.23) لسنة 2025 المتعلق بالمسطرة الجنائية، يبدو أن عمل النيابة النيابة العامة يخضع لمكيالين. فلها سلطة مطلقة إذا تعلق الأمر بقضية أطرافها ينتمون الى الطبقة الفقيرة، حيث يمكن لها أن توجه التهمة متى تشاء ولمن تشاء، بينما الطبقة الثرية التي تبسط يدها على المال العام، فسلطة النيابة العامة تتهشم على صخرة نفوذ هاته الطبقة المخملية. فلا يمكن لها تحريك الدعوى العمومية من أصله إلا بناء على توصيات وتوجيهات.. وهو ما دفع البعض بوصفه عمل يهدف إلى تحصين مقنَّع للمفسدين عبر البيروقراطية. إذ بهذا الإجراء، تصبح النيابة العامة رهينة تقارير إدارية، رغم أنها سلطة دستورية مستقلة عن الحكومة..
وكوننا في المغرب دائما نتأسى ببلدان خارجية كفرنسا مثلا في العديد من الأعمال، فإن مقارنة تشريع هذه الأخيرة مع التشريع المغربي في هذا الخصوص، أي مدى إمكانية الطعن في قرارات النيابة العامة، نجد أن التشريع الفرنسي سمح بهذه المكنة. ونفس الشيء في دولة تونس، إذ رغم انتماءها لدول العالم الثالث تعطي الحق لمراجعة قرارات النيابة العامة.. وهنا يظهر تأخر التشريع المغربي، المقصود ربما، في إرساء رقابة على السلطة التقديرية للنيابة العامة..
إنه وعلى مر سنين طويلة، ظل المهتمين يطالبون بضرورة استقلال القضاء عندما لم يكن مستقلا. لكن عندما استقل، ولو بشكل من الأشكال، صار أشبه بما يمكن أن يطلق عليه مجازا دولة داخل دولة..
إن المقررات القضائية، التي يصدرها ما يطلق عليه بالقضاء الجالس، تخضع للطعن بجميع طرقه، وهي تخضع في توجيهها إلى أكبر محكمة قانون في البلد، التي هي محكمة النقض، بهدف الشعور بالأمن القضائي. لكن أن تظل مؤسسة دستورية مستقلة، كمؤسسة النيابة العامة، لا تخضع في عملها لأي رقابة، فإن ممارسة السلطة بلا رقابة تفقد هذا الاستقلال معناه..
إن قانون المسطرة الجنائية الجديد لم يُعالِج الثغرة الخطيرة المتمثلة في غياب آلية للطعن أو المراقبة القضائية لقرارات الملائمة. بل أضاف عليها تقييدًا جديدًا يقوض دور النيابة العامة في محاربة الفساد..
إنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال بناء عدالة جنائية نزيهة إذا بقيت النيابة العامة تقرر وحدها، وتغلق الملف وحدها، دون حسيب أو رقيب.
إن إعادة التوازن بين السلطة والمسؤولية تبدأ من كسر الحصانة الإجرائية لقرارات النيابة العامة، والاعتراف بحق المواطن في معرفة لماذا لا يتم حفظ المسطرة حين تكون معالم الفعل الجرمي واضحة، وفي نفس الوقت لماذا يتم توجيه تهمة ما عندما لا تكون هناك أي معالم لوجود فعل جرمي ..
اترك تعليقاً