وجهة نظر

من الإنصاف إلى التوازن: تأصيل فلسفي ومقاصدي لمنطق “رابح–رابح” في العلاقات الدولية

في سياق عالمي يتسم بتكثيف النزاعات، وتفاقم التفاوتات، وتآكل الثقة بين الفاعلين الدوليين، يبرز منطق “رابح–رابح” ليس فقط كبديل سياسي، بل كتصور فلسفي ومقاصدي يُعيد بناء العلاقات الدولية على أسس أخلاقية وإنسانية. هذا المنطق، الذي يُناهض الثنائية الصفرية “رابح–خاسر”، يُؤسّس لفكرة أن التعاون لا يُلغي المصالح، بل يُعيد تنظيمها ضمن فضاء مشترك يُراعي العدالة، ويُعزز الاستقرار، ويخدم الإنسانية.

تعريف مبسط لمنطق “رابح–رابح”

منطق “رابح–رابح” هو تصور أخلاقي–سياسي يُعيد بناء العلاقات بين الدول على أساس التعاون المتكافئ، حيث تُحقق جميع الأطراف مكاسب حقيقية دون أن تكون مصلحة طرف مشروطة بخسارة الآخر.

إنه نموذج يُناهض منطق الهيمنة والصراع، ويُؤسّس لفكرة أن العدالة الدولية لا تتحقق إلا حين تُوزّع المنافع بشكل منصف، ويُحترم استقلال القرار، وتُراعى الكرامة الإنسانية في كل شراكة.

لكن ما المقصود بمنطق “رابح–رابح”؟ هل هو مجرد آلية تفاوضية؟ أم فلسفة سياسية؟ أم نموذج أخلاقي؟ في هذا المقال، نُحاول تأصيل هذا المفهوم ضمن منظومتين معرفيتين متكاملتين: الفلسفة السياسية الغربية، والمقاصد الشرعية الإسلامية، مع التوقف عند التحديات الواقعية التي تُواجه تفعيله، والرهانات التي يُثيرها.

من القوة إلى الحق: استعادة كانط في زمن الهيمنة

في مشروع السلام الدائم (1795)، دعا إيمانويل كانط إلى بناء نظام دولي قائم على الحق، لا على القوة. اعتبر أن الدول، كأشخاص معنويين، يجب أن تتعامل فيما بينها كما يتعامل الأفراد في المجتمع المدني: وفق قواعد عقلانية، واحترام متبادل، وشرعية قانونية. منطق “رابح–رابح” يُجسّد هذا الطموح الكانطي، لأنه يُعيد تعريف العلاقات الدولية بوصفها علاقات تعاقدية لا صراعية، ويُؤسّس لفكرة أن الربح الجماعي لا يُلغي الخصوصية، بل يُنظّمها.

العدالة كإنصاف: رولز وتوزيع المكاسب

جون رولز، في نظرية العدالة (1971)، طرح مبدأ “الفرق”، الذي يُبرّر التفاوت فقط إذا كان في صالح الأضعف. هذا المبدأ يُشكّل حجر الزاوية في منطق “رابح–رابح”، لأنه يُعيد توزيع المكاسب وفق منطق إنساني، لا وفق منطق السوق أو القوة. فالتعاون الدولي، حين يُراعي مصالح الدول الأقل نفوذًا، يُصبح أداة للعدالة، لا وسيلة للهيمنة.

التنمية بوصفها حرية: أمارتيا سن وتوسيع القدرات

في أعماله حول التنمية البشرية، اعتبر أمارتيا سن أن التنمية ليست مجرد نمو اقتصادي، بل توسيع لقدرات الإنسان وحرياته. منطق “رابح–رابح” يتقاطع مع هذا التصور، لأنه يُحوّل التعاون الدولي إلى مشروع تحرري، يُمكّن الأفراد والدول من تجاوز القيود البنيوية، والانخراط في مسارات تنموية تُراعي الكرامة والاختيار.

الضيافة السياسية: دريدا وتفكيك منطق الامتياز

جاك دريدا، في تأملاته حول “الضيافة”، يُعيد بناء العلاقة بين الذات والآخر على أساس الانفتاح، لا الامتياز. منطق “رابح–رابح” يُجسّد هذه الفلسفة، لأنه يُلغي منطق الامتيازات التاريخية، ويُؤسّس لعلاقات دولية تُراعي التعدد، وتُعترف بالآخر بوصفه شريكًا لا تابعًا.

الواقعية المعقّدة: إدغار موران وتجاوز الخطية السياسية

يدعو إدغار موران إلى فهم العالم من خلال التعقيد، لا من خلال الخطية. العلاقات الدولية، وفق هذا التصور، لا تُختزل في ثنائيات القوة والضعف، بل تُفهم من خلال تداخل المصالح، وتعدد مستويات التأثير. منطق “رابح–رابح” يُجسّد هذه الواقعية المعقّدة، لأنه يُراعي السياقات، ويُعيد بناء التوازنات ضمن هندسة مرنة وعادلة.

الاقتصاد الأخلاقي: من سميث إلى كيوهان

آدم سميث، في نظرية المشاعر الأخلاقية، يُظهر أن التعاطف والعدالة يجب أن يُوجّها السلوك الاقتصادي، لا فقط المصلحة الذاتية. هذا التصور يجد امتداده في نظرية “الاعتماد المتبادل” كما طوّرها روبرت كيوهان وجوزيف ناي، حيث يُمكن للتعاون الدولي أن يُنتج مكاسب جماعية، إذا ما تمّ تنظيمه على أسس أخلاقية ومؤسساتية.

التأصيل المقاصدي: العدالة بوصفها مقصدًا كليًا

إذا كان منطق “رابح–رابح” يُؤسَّس فلسفيًا على مفاهيم الإنصاف والتوازن، فإنه يجد في الفكر الإسلامي تأصيلًا شرعيًا ضمن نظرية المقاصد، كما بلورها الإمام الشاطبي في الموافقات، وطورها المعاصرون في سياق العلاقات الدولية. فالمقصد الكلي للعدالة، الذي يُعدّ أحد أعمدة المقاصد الخمسة، يُشكّل الإطار الأخلاقي الذي يُوجّه السلوك السياسي والاقتصادي نحو تحقيق المصلحة المشتركة، لا المصلحة المنفردة.

في هذا السياق، يُصبح التعاون الدولي الذي يُراعي مصالح جميع الأطراف تجسيدًا عمليًا لمقصد رفع الحرج، ووسيلة لتحقيق جلب المصالح ودرء المفاسد، وهي القاعدة الذهبية في فقه الموازنات. فحين تُبنى العلاقات على قاعدة “رابح–رابح”، تُرفع أسباب الظلم، وتُدرأ مفاسد الاستغلال، ويُجلب نفع مشترك يُسهم في حفظ الضروريات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال.

كما أن منطق التكامل الإقليمي، حين يُراعي السيادة والاحترام المتبادل، يُجسّد مقصد حفظ الكرامة الإنسانية، الذي يُعدّ من المقاصد العليا في الفكر المقاصدي الحديث، كما أشار إليه الطاهر بن عاشور في مقاصد الشريعة الإسلامية. فالشراكة التي تُراعي التوازن لا تُنتج فقط مصالح مادية، بل تُعيد الاعتبار للإنسان بوصفه محورًا للسياسة، لا مجرد أداة فيها.

منطق “رابح–رابح” في ظل المركزية العالمية: قراءة في نظرية سمير أمين

رغم الطابع الأخلاقي–التشاركي الذي يُبشّر به منطق “رابح–رابح”، فإن النظر إليه من زاوية نظرية المركز والأطراف كما بلورها المفكر الاقتصادي سمير أمين يُكشف عن مفارقة جوهرية: فالنظام الاقتصادي العالمي لا يُدار بمنطق التوازن، بل بمنطق الاستقطاب البنيوي، حيث تُراكم دول المركز (الولايات المتحدة، أوروبا، الصين) الثروة والقرار، بينما تُدفع دول الأطراف إلى مواقع التبعية والاختزال.

يرى سمير أمين أن العولمة ليست مجرد توسّع اقتصادي، بل إعادة إنتاج للهيمنة عبر آليات السوق، الدين الخارجي، التحكم في التكنولوجيا، وتحديد شروط التبادل. وهذا ما يُضعف إمكانية تطبيق منطق “رابح–رابح” في ظل بنية عالمية تُعيد إنتاج “رابح–خاسر” بشكل ممنهج، حتى حين تُستخدم لغة التعاون.

من هذا المنظور، فإن منطق “رابح–رابح” لا يُمكن أن يتحقق إلا إذا تم تفكيك المركزية العالمية، وإعادة بناء العلاقات الاقتصادية على أساس الاستقلال الإنتاجي، والسيادة التنموية، والتحرر من شروط التبادل غير المتكافئ. وهذا يتقاطع مع المقاصد الإسلامية التي تُؤصّل للعدالة في التوزيع، ورفع الحيف عن المجتمعات المستضعفة، ورفض الاستغلال البنيوي.

وهكذا، فإن المقارنة بين منطق “رابح–رابح” ونظرية سمير أمين لا تُضعف الطرح الأخلاقي، بل تُعمّقه، لأنها تُظهر أن العدالة لا تتحقق بالخطاب وحده، بل بتغيير البنية التي تُنتج اللاعدالة.

التحديات الواقعية: بين المثال والنفاذ

رغم وجاهة هذا التأصيل، يظل منطق “رابح–رابح” عرضة لتحديات واقعية تُضعف إمكانات تفعيله، منها:

• اختلال موازين القوى بين الدول، مما يُحوّل التعاون إلى تبعية مقنّعة
• غياب الإرادة السياسية لدى بعض الفاعلين الدوليين، الذين يُفضّلون المكاسب الأحادية
• تفاوت القدرات الاقتصادية والمؤسسية، مما يُصعّب بناء شراكات متكافئة
• توظيف الخطاب الأخلاقي لأغراض دعائية دون التزام حقيقي بالمضامين

هذه التحديات تُحتّم علينا التمييز بين منطق “القيم” ومنطق “السياسات”، وبين الخطاب الأخلاقي والنموذج المؤسسي، حتى لا يتحوّل “رابح–رابح” إلى شعار فارغ يُجمّل واقعًا غير متوازن.

خاتمة: إشكالية التفعيل بين الأخلاق والسلطة

إن من ينجح في تطبيق منطق “رابح–رابح” لا يُراكم فقط مكاسب سياسية أو اقتصادية، بل يُراكم رصيدًا إنسانيًا يُسهم في بناء عالم أكثر توازنًا. وفي زمن تتآكل فيه الثقة بين الدول، وتتصاعد فيه النزعات الانعزالية، فإن هذا النموذج يُقدّم أفقًا جديدًا للعلاقات الدولية: أفقًا يُعيد الاعتبار للإنسان، ويُحوّل السياسة من لعبة مصالح إلى مشروع أخلاقي يخدم الجميع.

لكن السؤال الذي يُغلق هذا التأصيل ويُفتحه في آنٍ واحد هو:
هل يُمكن لمنظومة دولية تُدار بمنطق القوة أن تُنتج نموذجًا أخلاقيًا قائمًا على الإنصاف؟ أم أن منطق “رابح–رابح” سيظل حلمًا فلسفيًا ما لم يُعاد توزيع السلطة قبل توزيع المصالح؟

إن الإجابة عن هذا السؤال لا تكمن في الخطابات ولا في النوايا، بل في القدرة على تحويل المبادئ إلى مؤسسات، والأخلاق إلى سياسات، والتوازن إلى واقع ملموس. فالتحدي الحقيقي ليس في التنظير، بل في التفعيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *