!!! ثقافة السادية، حين تغرب الإنسانية … !!!

إن الصمت و الحياد أمام مشاهد استئساد الصهاينة على النازحين و المدنيين من الأطفال و النساء هي اليوم في طياتها مواقف جلية تعكس التواطؤ و الخذلان و تبطن الخنوع و الذل و معاني الضعف و الهوان و الإنهزام الأخلاقي حين يصرح “النتن” علانية : ” اقتلوا المدنيين و اقتلوا الأطفال و النساء” و حين يعترف ضباط صهاينة بتلقي أوامر صريحة لقتل و اغتيال طالبي المساعدات.
فنحن حتما إزاء سادية وحشية مرضية و جريمة إبادة معلنة أمام مرأى و أعين العالم أجمع الذي شاهد حربا من القرون الوسطى فيها ما فيها من الإمعان في سفك دماء الأبرياء و القتل و الحصار و التجويع المتعمد أضحى خلالها كل ما هو إنساني و جميل يكافح و يصمد من أجل البقاء فينا بينما برزت البشاعة و القبح و الشر الكامنة في الجانب السوداوي للمنتظم الدولي و منتسبيه، من يدعون انتماءهم للانسانية لكن بغطاءات
القانون الدولي و المواثيق الدولية و المحاكم الجنائية بيافطات من قبيل المحافظة على السلم الدولي و العيش المشترك و استعلاء الفعل السياسي الدولي.
أثبتت غزة اليوم، أن الصمت و الحياد للمنتظم الدولي هي خيارات سياسية تنحاز للظلم و للظالم و للظلام.
فالله عز و جل ختم كتابه بسورة الناس لعل الإنسانية تبقى آخر الحصون المانعة و المعاقل البشرية الجامعة.
فحين قام النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لجِنازةِ يهوديٍّ فهو قام احتِرامُا للرُّوحِ الإنسانيَّةِ الَّتي أودَعَ فيها الحق عز وجل سِرَّ الحياةِ و هو قام أيضا إجلالا و تَعظيما لخالِقِها سُبحانَه وتعالى. من تم جاء الرد النبوي حاسما و قاطعا الشك باليقين عن كون الجنازة ليهودي : أليست بنفس؟.
مضمون و روح هذا الموقف الذي يصدح بالإنسان و الإنسانية حضر أيضا عند فكر الإمام علي كرم الله وجهه حين اجترح قولته الأثيرة : «النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْنِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ».
فالإنسانية أولا و قبل كل شيئ إيمان بالإنسان و كرامة الإنسان و حق الإنسان في الحياة و الاختيار استنادا إلى قيمة الروح و الحياة البشرية و انطلاقا من قدسية فعل الخلق الرباني. فالإنسانية هي ما يكرس مضامين و
معاني الأخلاق و المعاملة الكريمة و تعلي من قيم التضامن و التكافل و التضحية و العطاء و المساعدة و التعايش لتقليل المعاناة و تحسين ظروف الآخرين لأسباب إيثارية و معنوية و أخلاقية.
اليوم و في سياقات الإبادة الصهيونية و القصف العشوائي بالقنابل – المحرمة دوليا أو التجريبية- و أمام بشاعة مشاهد القتل و التهجير و التنكيل و الدمار الذي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، سيسجل التاريخ مفارقة عجيبة. ففي الوقت الذي يتضور فيه الآلاف من الغزيين جوعا و عطشا و في اللحظة التي يحتضر و يستشهد فيها العشرات من الرضع الخدج والمئات من مرضى العنايات المركزة نتيجة الحصار و قطع الكهرباء و قصف المستشفيات و منع الوقود عنها، سيسجل التاريخ أن بلدانا عربية كانت يومها تتفرج بصمت و حيادية و هي تقبع و تجلس على أكبر احتياطي نفط و غاز و أضخم أرصدة في العالم بلا وخز أو تأنيب ضمير بينما الآلاف من بني ملتها و دينها لا يجدون قطرة وقود و يبادون عن بكرة أبيهم و يحرقون لا لشيء سوى أنهم أصحاب حق في الحياة على أرضهم.
سيسجل التاريخ أيضا أن بترول الأعراب كان لعنة على من خلعوا شماغهم و جبتهم و ألبسوهما عجلا أخرقا
قدسوه فأشربوه في قلوبهم حين انسلخوا عن هويتهم و انطرحوا من لاإنسانيتهم و سلموا مصيرهم و أمرهم لمسيلمة العصر و سامري الحجاز.
صدق الشاعر مظفر النواب حين صدح أن كل الرصاص يوجه إلى العالم العربي، و ما زال لم يفهم الأغبياء أن الرصاص طريق الخلاص.
” هل يستطيع التابع أن يتكلم؟” هو سؤال بحجم جغرافية الوطن العربي جاء في شكل عنوان كتاب للمفكرة “سبيفاك غاياتري” تتطرق و تفكك فيه إشكالية التبعية و مفهوم “التابع” الضعيف بطبيعته و المهيمن عليه في تبعيته و هو مفهوم حضر أيضا عند ” أنطونيو غرامشي” في “رسائل السجن”.
هل يستطيع السادي أن يشعر ؟ رحم الله “محمد الشطبي” صاحب ” شذرات من أقبية الأبالسة”.
و هل تستطيع الكلمات أن توفي غزة حقها و دورها الريادي و الطليعي اليوم في مواجهة الظلم و الإحتلال و الطغيان و الاستكبار و الإبادة؟. لا أعتقد أن المعاجم تستطيع، لكن يكفي غزة كرامة و شموخا و عزة أنها لوحدها اختزلت في محنتها صور و معاني المواجهة و المجابهة و الجهاد و رمزية الصمود و الثبات و الرفعة فاستحقت وصفها “أكناف بيت المقدس” كما نحتتها النبوة الطاهرة، صفة ظل صداها يتردد من أعلى منبر صلاح و من قلب محراب الأقصى الذي بارك الله فيه و حوله فكان أن سطعت في سماء القدس بشائر و آيات صدحت بها حناجر الشهداء و هي رافعة الراية مضرجة في مشهد أخرج الجميع من بواتق الخذلان و الانهزامية و أدخلهم عنوة إلى آفاق النصر و التحرير و الانعتاق. فهل يستطيع التابعين أن يتحرروا و أن يفكروا و أن يتفاعلوا ؟
من يعتقد اليوم في تسجيل صورة نصر ما بمجازر فليقرأ و ليستوعب التاريخ جيدا. فالإنسانية هي نصر أخلاقي و تبقى أرقى و أجمل من سادية الصهيونية و تطبيع العرب و همجية الغرب الذي صدع رؤوسنا بأوكرانيا و بحماية المدنيين أثناء النزاعات الحربية و بمجلس الأمن و الشرعية الدولية و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و اتفاقية جنيف الرابعة و المحكمة الجنائية و ميثاق روما ….إلخ. كلها آليات و ترسانات و فزاعات فقط للإستقواء على الآخرين – أي علينا- صارت اليوم هراءات أسقطتها غزة في صراعها ضد الصهاينة الجبناء الذين يوغلون في النازحين بعد أن فشلوا في تحويل جرائمهم إلى أدنى إنجاز عسكري.
إن الفهم الصحيح للتاريخ يظل هو الكفيل للاقتراب قدر
الإمكان من تفسير ملموس لواقع ثقيل من التكالب و التضليل و يئن تحت وقع التكاثف و الدعم الغربي المفتوح و اللامحدود للكيان الصهيوني سواء عبر دعمه عسكريا بالأسلحة الفتاكة و المحرمة دوليا و إسناده سياسيا عبر التبرير و بالفيتو و الصمت و التستر على المجازر المهولة و تقتيل النازحين و المدنيين في حين ظل نفس الغرب يحاضر علينا في كل مناسبة و منذ سنين خلت حول حقوق الانسان و الشرعية الدولية.
إن انكشاف الغطاء اليوم عن حقيقة المنتظم الدولي يبرز مدى اندحار الأخلاق دوليا بعدما أبانت أحداث غزة عن حجم الإزدواجية الغربية ومدى الكيل بمكاييل غير متكافئة في ظل خنوع الأنظمة العربية و سلبية الشعوب.
فتاريخيا، لا يمكن استيعاب ما يحدث في غزة دون استحضار سيرورة الصراعات و تمرحلاتها منذ الحروب الصليبية الى النكبة و النكسة مرورا عبر مرحلة المد الاستعماري وصولا للهيمنة الإمبريالية بعد تقسيم العالم العربي إلى كنتونات بأدوار وظيفية و دويلات ذات نمط حكم سلطوي و بنية اقتصادية مستلبة ذات أنماط إنتاج تابعة للغرب يراد لها اليوم أيضا أن تخضع كليا للمشروع الصهيوني.
في ظل ما يقع، ستظل نظرات الضحايا من أطفال و نساء و مسنين تسائل الازدواجية الدولية في التعاطي مع الحق في الحياة و في الأرض و في المقدسات و تظل تسائل فينا أيضا معاني أرادها نبي الأمة في أمة أعلنت انبطاحها و إذعانها و خنوعها للغرب حين جاهرت بخذلانها للضحية و تطبيعها مع القاتل.
إن العالم العربي اليوم في مفترق تاريخي اسمه غزة. إما مسار و خيار العزة و الكرامة و الحياة أو منحدرات الذل و التبعية و الخزي و السقوط و العار.
اليوم فلسطين انتصرت على النزعة البربرية و على الفكر العدمي.
انتصرت على تتار العصر و عملائهم.
انتصرت بالدماء الزكية و بالإسراء.
انتصرت بشهدائها و بإنسانيتها عل شريعة الغاب.
و إلا فمنذ متى كانت الذئاب حامية الديار و راعية للعدالة الإنسانية؟ // انتهى.
اترك تعليقاً