منتدى العمق

لماذا يغيب المثقف عن النقاشات العمومية في المغرب؟

رغم التحولات السياسية والإجتماعية والثقافية التي عرفها المغرب في العقود الأخيرة، ورغم تعدد القضايا الساخنة التي تستوجب نقاشا عميقا ومسؤولا، فإن حضور المثقف في النقاش العمومي لا يزال باهتا، إن لم نقل غائبا في كثير من الأحيان، هذا الغياب يطرح تساؤلات مشروعة حول دور المثقف في تأطير الرأي العام، وارتباطه بقضايا المجتمع، كما يثير الشكوك حول مدى انفتاح الفضاءات العمومية، وعلى رأسها الإعلام العمومي، على الفكر النقدي والتحليل الرصين.

إن المثقف، كما عرفه عدد من المفكرين، ليس فقط من يمتلك المعرفة، بل من يسخرها لخدمة مجتمعه، ومن ينخرط في القضايا الكبرى للناس، ويمارس النقد البناء للسلطة، والواقع، وحتى لذاته، وهو الضمير الحي الذي يحاول أن ينير الطريق، ويثير الأسئلة، بدل أن يقدم أجوبة جاهزة.
لكن، في السياق المغربي، يبدو أن هذا الدور بدأ يتراجع لصالح “خبراء اللحظة” أو “محللي المناسبات”، الذين يستدعون للتعليق السريع دون عمق، ما يجعل النقاشات تفتقر للرؤية الفكرية والفهم البنيوي للمشاكل.

ومن بين أسباب غياب المثقف عن النقاش العمومي:
1.تهميش الإعلام العمومي للمثقف الحقيقي:
الإعلام العمومي، باعتباره إحدى القنوات الأساسية لصناعة النقاش العمومي، يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، إذ أن البرامج الحوارية، سواء في التلفزيون أو الإذاعة، تميل في الغالب إلى استضافة نفس الوجوه، وطرح أسئلة سطحية، وتفادي المواضيع الشائكة أو التي تتطلب معالجة فكرية معمقة.
المثقف الحقيقي، الذي يعبر عن موقف نقدي أو رؤى مغايرة، لا يمنح في كثير من الأحيان المساحة اللازمة، إما بسبب الرقابة المباشرة أو بسبب اختيارات تحريرية تتحاشى “وجع الرأس”.
وهكذا، يستبعد الفكر النقدي لصالح خطاب توافقي، استهلاكي، لا يزعج ولا يقلق.

2.ضعف البرامج الحوارية وضعف التفاعل مع القضايا الفكرية:
البرامج الحوارية في القنوات العمومية لا تزال تعاني من ضعف في الإعداد، وانعدام التنوع في الأصوات، وغياب الجرأة في طرح الأسئلة، قليل جدا هي البرامج التي تستضيف مفكرين أو أكاديميين لقراءة المشهد السياسي أو الإجتماعي أو الثقافي من زاوية تحليلية، وهذا يفقد الإعلام عمقه ويحوله إلى وسيلة ترفيه أكثر منه وسيلة تثقيف وتوعية.

3.غياب قنوات بديلة ذات تأثير واسع:
في ظل تراجع الإعلام العمومي، لم تنجح القنوات البديلة (مثل المنصات الرقمية أو قنوات اليوتيوب) في ملء الفراغ بشكل كامل، إذ تبقى مشتتة من حيث المحتوى، وتعاني أحيانا من ضعف في التأطير والمهنية، رغم بعض التجارب الجادة.

4.رقابة سياسية وخوف من التبعات:
لا يمكن إنكار أن بعض المثقفين يختارون الإنسحاب أو الصمت بسبب التخوف من تبعات المواقف الجريئة، فبيئة حرية التعبير، رغم ما تحقق من تقدم، لا تزال غير مستقرة أو مطمئنة بما يكفي لتشجيع المثقف على المشاركة الفعالة دون تحفظ.

5.المثقف نفسه جزء من المشكلة أحيانا:
لا يمكن تحميل المسؤولية فقط للإعلام أو للسياسة، فبعض المثقفين يفضلون الانزواء في الأبراج الأكاديمية، بعيدا عن الناس، أو يكتفون بإنتاج معرفي نخبوي لا يصل إلى الجمهور، كما أن هناك من ارتضى التقرب من السلطة أو الأحزاب على حساب استقلاليته، ففقد مصداقيته كمثقف حر.

إن إعادة المثقف إلى قلب النقاش العمومي يمكن أن يكون:
بإصلاح الإعلام العمومي وجعله فضاء حقيقيا للحوار والتفكير، عبر دعم البرامج الثقافية والفكرية، وتشجيع التعددية في الضيوف ووجهات النظر، وإعطاء المثقفين المجال للتعبير بحرية ومسؤولية.
تجديد الخطاب الثقافي وجعله أقرب للناس، بلغة مفهومة وواقعية دون التضحية بالعمق. المطلوب ليس تبسيط الأفكار حتى التفاهة، بل تقديم الفكر بلغة تتفاعل مع الهم الشعبي دون تعال.
فتح المجال أمام مبادرات بديلة مستقلة، تجمع بين الفكر والإعلام الرقمي، وتعتمد على الجودة، والمهنية، والجرأة.
تشجيع الشباب على الإهتمام بالشأن الفكري والثقافي من خلال دعم الأندية، الجمعيات، والفضاءات المفتوحة للنقاش.

إن غياب المثقف عن النقاش العمومي في المغرب لا يجب أن يقرأ كقدر محتوم، بل كنتيجة لاختيارات سياسية وإعلامية، وأيضا كسلوك ذاتي لدى بعض المثقفين. لذلك، فإن عودة المثقف إلى واجهة النقاش تحتاج إلى إرادة جماعية لإعادة الإعتبار للكلمة الحرة، والنقد البناء، والفكر المستقل، وهو ما لن يتحقق دون إعلام عمومي منفتح، ومثقف شجاع، ومجتمع يحترم العقل ويطلب الحقيقة.

وكمثال عن دور المثقف في المجتمع:
في مرحلة ما قبل الإستقلال، لعب المفكر محمد عابد الجابري دورا محوريا في تفكيك البنى الفكرية التقليدية، وطرح أسئلة جوهرية حول العقل العربي، مما ساهم في إرساء دعائم فكر نقدي مغربي وعربي، لم يكن يكتب من أجل النخبة فقط، بل كان يسعى إلى تنوير الوعي الجماعي وإعادة بناء العلاقة بين المواطن والمعرفة.
هذا مثال حي على كيف يمكن للمثقف أن يتجاوز حدود الجامعة، ويصبح فاعلا في صياغة الوعي وتوجيه النقاش العمومي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *