التنزيل الفعلي لقانون العقوبات البديلة… نحو عدالة أكثر إنسانية

منذ 22 غشت 2025، يعيش القضاء المغربي على إيقاع مرحلة جديدة في مسار إصلاح العدالة، وذلك بدخول قانون 43.22 المتعلق بالعقوبات البديلة حيز التنفيذ. وهو قانون طال انتظاره، إذ يضع المغرب ضمن الدول التي راهنت على تجاوز المقاربة التقليدية القائمة على السجن وحده، نحو اعتماد عقوبات حديثة تراعي البعد الإصلاحي والتأهيلي للمحكوم عليهم، وتحدّ من الاكتظاظ داخل المؤسسات السجنية.
بداية فعلية وأحكام ريادية
خلال الأسبوع الأول من التنزيل، أصدرت محاكم المملكة ما لا يقل عن 44 حكما بالعقوبات البديلة شملت 45 متهما، وفق معطيات صحفية رسمية. وقد تنوعت هذه الأحكام بين:
الغرامة اليومية: أبرزها الحكم الأول الصادر بالمحكمة الابتدائية بأكادير، والذي استبدل شهرين حبسا بغرامة يومية قيمتها 300 درهم، في سقف مالي محدد. كما شهدت محاكم أخرى مثل سوق السبت (بني ملال) أحكاما مماثلة بغرامة يومية (200 درهم/يوم).
العمل لفائدة المنفعة العامة: وهو البديل الذي جسدته المحكمة الابتدائية بالفقيه بن صالح، عندما استبدلت سنة حبسا بـ 1095 ساعة عمل (ما يعادل 5 ساعات يوميا على مدى سنة).
المراقبة الإلكترونية: خاصة في طنجة، حيث تم اللجوء إلى السوار الإلكتروني كآلية حديثة لضبط تنفيذ العقوبة خارج جدران السجن.
التدابير التأهيلية والعلاجية: في بعض القضايا، نصت الأحكام على التوجه نحو مراكز علاج أو برامج إصلاحية، بما يعكس إرادة القضاء في المزاوجة بين الردع والإصلاح.
خريطة أولية للتنزيل
التجربة لم تقتصر على محكمة بعينها، بل شملت عددا من المحاكم عبر التراب الوطني:
طنجة (17 قضية) – تصدرت المشهد بتنوع في البدائل (غرامات، عمل للمنفعة العامة، مراقبة إلكترونية).
مراكش (10 قضايا) – تبنّت العمل للمنفعة العامة والغرامات اليومية.
تازة (4 قضايا) – أحكام متنوعة بين الغرامة والعمل.
تطوان (3 قضايا) – بدائل متعددة أبرزها الغرامة اليومية.
محاكم أخرى مثل أكادير، الفقيه بن صالح، سوق السبت، بني ملال، شفشاون، وزان، تنغير، العيون، الداخلة – أحكام منفردة لكنها دالة على التوسع التدريجي.
فلسفة القانون وأهدافه
القانون 43.22 لم يأت من فراغ، بل استند إلى قناعة مفادها أن العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة لا تحقق دائما الردع ولا الإصلاح، بل قد تساهم أحيانا في تفاقم الظاهرة الإجرامية. ومن ثمة جاء تبني عقوبات بديلة تراعي:
إصلاح المحكوم عليه وإعادة إدماجه.
تخفيف الضغط على السجون التي تعاني من الاكتظاظ.
حماية المجتمع عبر ضمان استمرار اندماج الفرد في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بدل عزله.
إرساء عدالة إصلاحية توازن بين الردع والعفو المشروط بالإصلاح.
تحديات وآفاق
رغم البداية الموفقة، تواجه التجربة عدة تحديات عملية:
1. إرساء آليات التنفيذ والمراقبة: خاصة في ما يتعلق بتتبع العمل للمنفعة العامة أو احترام الالتزامات العلاجية.
2. تكوين الفاعلين القضائيين والمؤسساتيين: لتمكينهم من أدوات تطبيق هذا القانون الجديد بفعالية.
3. توفير بنيات استقبال وتأطير: من جمعيات ومؤسسات قادرة على استيعاب المحكومين في إطار برامج بديلة.
4. تغيير الثقافة المجتمعية: إذ ما زال جزء من الرأي العام ينظر إلى العقوبة خارج السجن كنوع من التساهل، بينما هي في حقيقتها أشكال جديدة من الردع والإصلاح.
تجربة مغربية رائدة
التنزيل الفعلي للعقوبات البديلة يجعل المغرب من بين أوائل الدول العربية والإفريقية التي اعتمدت إصلاحا بهذا الحجم في مجال السياسة الجنائية. وإذا كانت البداية قد شهدت بعض التردد، فإن التجربة تَعِد بفتح آفاق واسعة لعدالة أكثر إنسانية وفعالية.
خلاصة القول: يعيش القضاء المغربي اليوم تجربة جديدة بكل المقاييس، تجربة تراهن على جعل العقوبة وسيلة إصلاح وإدماج أكثر مما هي وسيلة انتقام وعزل. ومع تراكم الممارسة القضائية وتعزيز البنيات المواكبة، سيشكل هذا الورش أحد أعمدة تحديث العدالة الجنائية بالمغرب في العقد القادم.
اترك تعليقاً