وجهة نظر

البشر قبل الحجر، الإنسان أولا..

يعيش المغرب منذ أيام على وقع احتجاجات هي الأقوى منذ سنين، مع تسجيل أحداث شغب مؤسفة لم تكن وليدة الصدفة، ولا انفجارًا طارئًا، بل نتيجة حتمية لمسار طويل من السياسات التي وضعت الحجر قبل البشر، واهتمت بالمظهر أكثر من الجوهر، وبالبناءات الصلبة أكثر من بناء الإنسان. إذ إن ما شهدناه من احتجاجات شبابية متصاعدة هو تعبير صادق عن جيل اكتشف أن وعود التنمية لم تطله، وأن المشاريع العملاقة التي يُسوَّق لها إعلاميًا لم تنعكس على حياته اليومية، وأن المؤسسات التي وُجدت لخدمته تحولت إلى كيانات غائبة أو مغيّبة. وهو ما لم يعد الصمت معه ممكنًا، وصار الشارع منبرًا للتعبير عنه ومتنفسًا للاحتجاج عليه.

لقد ارتبط المسار التنموي للمغرب في السنوات الأخيرة بمشاريع مبهرة: ملاعب ضخمة، طرق سريعة، مراكز تجارية عملاقة. وهي إنجازات لا يمكن إنكار ضرورتها في سياق التطور العمراني والاقتصادي، لكنها أُنجزت في ظل غياب رؤية متوازنة تجعل الإنسان في قلبها. فالطالب الذي يدخل قسمًا مكتظًا بلا مقاعد كافية، والمريض الذي ينتظر ساعات في ممر مستشفى متهالك، والشاب الذي يطوي سنوات من الدراسة ثم يجد نفسه في صفوف البطالة، جميعهم يتساءلون عن جدوى هذه الإنجازات التي تُعرض كواجهة تقدم، بينما يظل أساس المجتمع – الإنسان – مهمشًا..

إن هذا التناقض الصارخ بين الواجهة والعمق هو ما فجّر غضب جيل جديد، جيل وُلد ونشأ في عصر مفتوح على العالم، عبر شاشة هاتفه، يقارن نفسه يوميًا بأقرانه في بلدان أخرى، فيدرك الفارق الكبير بين ما يُقدم له وما يُتاح لغيره، جيل اعتاد التعبير الفوري والمباشر، جيل لا ينتظر بيانات رسمية ولا يقتنع بخطابات جاهزة، بل يطالب بوضوح: تعليم يليق بكرامته، صحة تحفظ حياته، وعدالة تضمن إنسانيته.

إن هذه السياسات التي أعلت من شأن الحجر على حساب البشر عمّقت الفوارق بدل أن تطويها. فما فائدة ملاعب تُشيّد بملايين الدراهم إذا كان اللاعبون المستقبليون أنفسهم يفتقدون لحياة كريمة وبرامج تكوين جادة؟ وما جدوى طرق سريعة ممتدة إذا كان المريض يموت على أبواب المستشفيات؟ إن الشباب الذي خرج بالأمس لم يكن يرفع شعارات مثالية أو يطالب بالمستحيل، بل كان ينادي بما هو بديهي: أن يُعاد ترتيب الأولويات، أن يُعاد الاعتبار للإنسان بوصفه الغاية الأولى لأي مشروع تنموي.

ولعل أكثر ما يفاقم الأزمة هو غياب المؤسسات، فالبرلمان الذي يُفترض أن يكون صوت المواطن تحول إلى قاعة للمصادقات الشكلية على توجهات الحكومة وخططها، والجماعات المحلية التي يُفترض أن تُدبر الشأن القريب صارت أسيرة الحسابات الانتخابية الضيقة. ومع تراكم هذه الاختلالات، وجد المواطن نفسه أمان فراغ مؤسسي، لم يجد معه إلا الشارع ملاذا ليصرخ، وليقول بصوته الصاخب ما لم تستطع مؤسساته قوله.

ولأن المقاربة الأمنية تظل الخيار الأول للسلطات عند مواجهة أي حراك اجتماعي، فإنها سرعان ما تتحول إلى جزء من المشكلة. قد تُسكت الإجراءات الميدانية التي يقوم بها الأمن لحفظ النظام العام الميدان لساعات أو أيام، لكنها لا تمحو أسباب الغضب ولا تطفئ جذوة الإحباط. على العكس، قد تدفع الأجيال الجديدة إلى مزيد من التصلب والإصرار، لأنهم ببساطة لم يعودوا يخشون المواجهة كما كان أسلافهم. فالوعي الجديد، المدعوم بوسائل التواصل، يجعل أي قمع مجرد مادة إضافية للتعبئة وإشعال التضامن.

إن جذور الأزمة تكمن في ثلاثة قطاعات أساسية: التعليم، الصحة، والاقتصاد. التعليم الذي يُفترض أن يكون محرّك الحراك الاجتماعي بات مصنعًا لإعادة إنتاج الفوارق. فالمدرسة العمومية تئن تحت وطأة الاكتظاظ والهشاشة، بينما المدرسة الخاصة تفتح أبوابها لمن يستطيع الدفع فقط. النتيجة: فجوة طبقية متسعة، وشباب يشعر أن حظوظه في الحياة تحددها جيوب والديه لا كفاءاته. أما الصحة، فقد صارت العنوان الأبرز لانهيار الثقة. المستشفيات المكتظة، نقص الأطر والأدوية، وهجرة الكفاءات نحو الخارج جعلت المواطن يشعر أن حقه في العلاج بات امتيازًا غير متاح. أما في الاقتصاد، فإن العجز عن توفير فرص شغل كافية أفرز أجيالًا من العاطلين، بعضهم حاملون لشهادات عليا، وجدوا أنفسهم بلا أفق سوى الهجرة، الشرعية منها أو السرية.

إن هذه التراكمات ليست مجرد أرقام في تقارير رسمية، بل قصص يومية يعيشها كل بيت: أب يواجه عجزًا أمام مرض ابنه، أم تحصي تكاليف التعليم الخاص، شاب يرى حلمه في وظيفة كريمة يتبخر، طالبة تدرك أن مستقبلها مرتبط بعلاقات لا بكفاءتها. ومع كل قصة من هذه القصص يتآكل رصيد الثقة في المؤسسات، ويتعزز شعور أن المصالح الخاصة تتقدم على الصالح العام..

وقد خرج هذا الجيل ليقول كفى.. فلم يعد يقبل أن يُختزل في صورة إعلامية أو يُستعمل كورقة انتخابية. إنه جيل يملك وعيًا جديدًا بذاته وبحقوقه، ولا يخشى أن يطالب بما يستحق. قد يبدو صوته حادًا أحيانًا، لكنه في العمق يعبر عن مطلب عادل: أن يُعامل كمواطن كامل، له حق في تعليم وصحة وفرص عمل، لا كرقم زائد أو عبء ينبغي تدبيره…

إن ما حدث بالأمس جرس إنذار للجميع، لا يكفي أن تعلن الحكومة استعدادها للحوار إذا لم يكن ذلك الحوار جادًا ومبنيًا على إرادة حقيقية لإعادة ترتيب الأولويات. لا يكفي أن تُطلق برامج متفرقة ما لم تكن جزءًا من رؤية متكاملة تعيد الإنسان إلى مركز السياسات، والمطلوب اليوم ليس وعودًا جديدة، بل أفعال ملموسة، لا تُقاس بعدد الملاعب والطرق، بل بمستوى المدرسة والمستشفى والوظيفة.

إن مستقبل المغرب مرهون بقدرته على الإنصات لهذا الجيل الجديد، وإعادة صياغة التعاقد الاجتماعي معه، الشباب اليوم ليسوا عبئًا على الدولة، بل طاقتها الكبرى إذا ما وُجدت الإرادة السياسية للاستثمار فيهم، وإذا استمرت السياسات الحالية في تغليب الحجر على البشر، فإن الغضب لن يهدأ، بل سيتخذ أشكالًا جديدة وأكثر إبداعًا في التعبير والضغط، لكن إذا اختارت الدولة أن تصالح أبناءها، وأن تجعل من التعليم والصحة والعمل ركائز فعلية للتنمية، فإن ما نراه اليوم قد يتحول إلى نقطة انطلاق نحو مغرب آخر، مغرب يجعل من الإنسان أولًا وأخيرًا غايته الكبرى ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *