أدب وفنون

“أوتيستو” يفتح أبواب صمت التوحد ويمنح الأمهات صوتا على الشاشة الكبيرة

في قاعة العروض الكبرى بقصر الفنون والثقافة بطنجة تابع جمهور الدورة الخامسة والعشرين من المهرجان الوطني للفيلم العرض المغربي الأول لشريط “أوتيستو”، أحدث أعمال المخرج المغربي الفرنسي جيروم كوهين أوليفار، ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة التي تتنافس فيها خمسة عشر عملا.

يمتد الفيلم على مدى 103 دقائق، ويضم طاقما من الممثلين البارزين بينهم لبنى أبيضار، يوسف بوقرة الزينة، ساندية تاج الدين، إسماعيل قناطر، راوي، وعبد الله الشاكيري، مقدمين عملا دراميا يغوص في عمق التجربة الإنسانية لأم تواجه تحديا قاسيا مع ابنها المصاب بالتوحد.

يروي الفيلم حكاية “مليكة”، امرأة تحاول التعايش مع واقع ابنها “آدم”، المصاب بالتوحد الحاد، حياتها تتأرجح بين الخوف من المستقبل، والإنهاك اليومي لرعايته، والخشية من أن يتركه القدر وحيدا في هذا العالم القاسي، غير أن حادثا مأساويا يقلب موازين حياتها، ويدفعها لاتخاذ قرار موجع هو  إيداع طفلها في مؤسسة متخصصة، بعدما أصبحت عاجزة عن مواصلة المهمة وحدها.

وتخفي هذه الحكاية البسيطة في ظاهرها خلفها أسئلة عميقة حول معنى الأمومة، والصبر، والوصم الاجتماعي الذي يلاحق أسر الأطفال المختلفين.

وفي هذا الصدد، قال المخرج جيروم كوهين أوليفار إن هذا العمل يحمل طابعا شخصيا جدا بالنسبة إليه “ابني يعاني من التوحد، ومن خلال هذا الفيلم أردت أن أُقرب الناس من هذه التجربة اليومية المعقدة، وأن أجعلهم يلمسون حجم الصمت والمعاناة التي تعيشها الأمهات، وفي الوقت نفسه، الأمل الكبير الذي يحركهن”.

وأوضح جيروم،  أن الفيلم ليس مجرد حكاية عن التوحد، بل تجربة بصرية وشعورية تحاول نقل الإحساس بالوحدة والخوف، دون اللجوء إلى الخطابات الجاهزة أو الميلودراما الزائدة.

وأضاف المخرج أن التصوير تم بالكامل بمدينة الدار البيضاء، لأنها تحتضن تناقضات الواقع المغربي الحديث، بكل ما فيه من قسوة وإنسانية، وفق تعبيره.

كوهن أوليفار، المعروف بأعماله السابقة مثل “قنديشة” (2008) و“أوركسترا منتصف الليل” (2015)، كشف أنه تعمد في “أوتيستو” الابتعاد عن الفانتازيا التي طبعت مساره ليخوض تجربة أكثر التصاقا بالواقع، مشيرا إلى أنه “لا أعتبر ذلك تحوالا في الأسلوب، بل انسجاما مع طبيعة الموضوع، أردت أن أروي القصة كما هي، دون زينة أو تهويمات، لأمنح المشاهد فرصة أن يشعر بالأم، لا أن يراقبها فقط”.

من جهتها، تحدثت زهور الفاسي الفهري، منتجة الفيلم، عن ظروف ولادة المشروع، لافتة إلى أن المخرج كان يفكر في البداية في إنتاج مشترك مغربي ـ أمريكي ـ إسرائيلي، وتصوير العمل في أكثر من بلد، قبل أن تنضم هي إلى الفريق وتطرح رؤية مختلفة.

وقالت زهور في تصريح لـ”العمق”: “حين عرض علي الفكرة، قلت له إن الغرب تناولوا التوحد كثيرا، لكن في المغرب لم يسلط عليه الضوء بالشكل الكافي، وأنت تعيش هنا، فلماذا لا نحكي القصة من واقعنا؟ هكذا بدأنا بإعادة كتابة السيناريو وتطويره ليعكس التجربة المغربية”.

وأضافت المنتجة أن الفيلم استفاد من دعم المركز السينمائي المغربي بقيمة 500 مليون سنتيم، مؤكدة أن الهدف كان “إنجاز عمل يمسك المشاهد منذ اللحظة الأولى حتى النهاية دون أن يفقد تركيزه أو تعاطفه”.

وفي قراءة نقدية، اعتبر الناقد السينمائي عبد الكريم واكريم في تصريح لـ”العمق” أن الفيلم نجح في بناء عوالم واقعية مؤثرة، وابتعد عن التصنع، مشددا على أن المخرج “خرج بأقل الخسائر الفنية من تجربته الثالثة، بعد (قنديشة) و(أوركسترا منتصف الليل)، بفضل اختياره لشخصيات من لحم ودم نتابع معاناتها في صمت.

وأشار واكريم، إلى أن الأداء القوي للبنى أبيضار منح الشخصية عمقا إنسانيا استثنائيا، إذ “تجعلنا نغفر لها أخطاءها ونبرر قسوتها أحيانا، لأنها ببساطة امرأة مثقلة بواقع يفوق طاقتها النفسية والجسدية”، وفق تعبيره.

كما أثنى واكريم، على إسماعيل قناطر الذي جسد شخصية “الشيخ” المعذب بتأنيب الضمير بعد فقدان أسرته، مشيرا إلى أن العلاقة التي تنشأ بينه وبين الطفل آدم تحمل بعدا روحانيا يتجاوز المنطق الحسي، وتفتح الباب أمام تأملات فلسفية حول الفقد والتعويض.

ورغم إشادته بالتمكن التقني والإخراجي، لاحظ الناقد بعض الهنات في السرد خلال الثلث الأخير من الفيلم، إذ “أدى الانتقال الزمني المفاجئ إلى إضعاف التماسك الدرامي، وظهرت بعض المشاهد وكأنها محشورة داخل السياق”.

أما الأدوار الثانوية، فكانت بحسب واكريم في مستوى جيد، خصوصا أداء ساندية تاج الدين في دور صديقة الأم، التي شكلت حضورا متوازنا بين الدراما والإنسانية، وفق قوله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *