وجهة نظر

لسنـا سواسية

الغالب أن البسطـاء من الناس هم أشد إيمانـا من العلماء وأكثر وطنية من النخب، لذلك نرى سعي كثير من المسؤولين إلى تحقيق بعض “التوازن” في “العرض والطلب” بين الحق في الانتماء والواجب في العطاء بأن يميلوا الميل كله إلى منطق خاص جدا (…) في التدبير وفي الحكامة يخالف تماما ما يحاولون عبثا إقناع الآخرين به بعد أن انكشف الغطاء عن “الطبخ” ومحتوياته، بالزعم الكاذب بأنهم و “قناعاتهم” إلى جانب الحق – الموافق لحقوق الإنسان جملة -، وفي صف الثوابت والنصوص والضوابط جميعها بما يرضي “الضمير” ويوافق “القانون” !

ومهما زعم الزاعمون، فإن البسطاء من الناس بحكم ارتباطهم بقيم التاريخ والأصالة الحقة وتشبثهم بأحكام الفطرة الإلهية واتصالهم بالبيئة انتسابا وامتدادا والتزاما طبيعيا، فإنهم يميلون في المجمل إلى التمسك بقيم التعاضد والتعاون وإلى فضائل السلم والأمن وحسن التعايش، أولائك الذين يسكنهم الإيمان بأن الشجاع إنما هو من يخشى أن يخلف وعده، وهذا معطى مشرف وميزة عالية خاصة، كان الأجدر بالآخرين أن يحرصوا على استثمارها إيجابا خدمة للوطن الذي يضم الجميع ويتبنى الكل، وبناء للمستقبل الذي ينبغي أن يحظى بكل الأهمية باعتباره الأمل كل الأمل للأجيال اللاحقة المتصلة ببناة الحال الذين يتحملون المسؤولية كاملة في الإحسان أو الإساءة..، ففائدة العقل – كما قيل – هي أنه يستطيع (على الأقل) أن يضع المفاهيم بعيداً عن عبث العواطف البشرية المتغيرة، ويفضل النقي عن غير النقي والدائم عن المؤقت العابر، ثم إننا نحيى جميعا بين ثنايـا، وفي ظل، الدستور الذي يفترض أن يكون مرجعا وسندا للجميع في إطار خضوع الكل لما هو مسطر.

ومهما زعم الزاعمون، فإن من أبشع الخطابـات التي تنال من الكرامة الإنسانية تلكم التي تختفي وراء استشهادات ماكرة بالدين، أو التزام مزعوم بضوابط القانون، بينما أصحابها غير مبالين بدرجة الكراهية التي زرعوها ضدهم وضد القيم التي يدَّعون، واللوحات “الجميلة” التي من ورائها يختفون.. !

وفي إصرار البعض على التمرد على النصوص، وتحديدا على أسمى النصوص تكمن الغرابة المنددة بالإساءة المزدوجة للفضاء الوطني العام، فمن جهة نحو الضعيف بتسامحه واستسلامه، ومن جهة أخرى في اتجاه القوي بتماديه في الغي والانحراف والعض على العناد في الظلم والاستبداد.. حتى لكأن الأمر يتعلق بمنطق الغاب !))

فحين يكون العذر مبنيا على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” يغيب المعنى القيمي للالتزام، ويتجرد “الوقوف عند حدود القانون” من معانيه وأهدافه، ويلغى بالتالي سمو المصلحة العليا، ليبرز جليا في النهاية الانحياز للفئوية المقيتة، وهنا يكمن الخطر ويتجلى التهديد..

وعلى نحو ما بدأنا نشهد في الفترة الأخيرة، في أكثر من مثال، مما بات ينعت بهتانا بـ”القضاء البديل” أو “قضاء الشارع”، هذا الوجه الجديد للإرهاب المتمثل في الجنوح إلى الانتقام المباشر والاعتداء الجسدي ضد الضحية بعنف همجي بشع، هناك أيضا ما يشبه هذا الانحراف لكن تحت غطاء السلطة أو النفوذ الإداريين فيذهب أصحابها إلى “العقاب” بمنطق الانتقام ومنطق الكراهية والحقد وحب الاستئصال إلى حد النرجسية (!)، هذا الإرهاب الدخيل الممنهج الذي وجد له موضعا بين القيم (…) لاستهداف كثير مما يتصل بالقيم، فهناك بعض المسؤولين من يجهلون حقيقة جل ما في مرؤوسيهم من إيجابيات ومحاسن ومنافع، فيتعاملون معهم باستعلاء غريب، ولا يرون فيهم – لضيق الأفق – إلا فئتين ودرجتين، عليا ودنيا، تماما مثل الزوج المغفل الذي يعمد إلى إهانة أبنائه من الزوجة الأولى والحقد عليهم إرضاء لتسلط وغرور الزوجة الثانية وهيمنتها، فتغيب عن ذهنه وجوارحه أبوته لهم ويتمنى موتهم، ويغيب الأمل أمام قسوته المفرطة، عن ندم مرجو أو صحوة ضمير منتظرة، فكيف بهذه الازدواجية المريضة تستقيم الشخصية الاعتبارية بشخص المسؤول..؟ كما أن هناك بعض “السادة” من يضعون الكل في “سلة” واحدة غير آبهين بحجم مسؤولياتهم ولا بثقل واجباتهم.. !

ولاشك أنه من الصعب العيش مع الندم، بيد أن الندم دليل على الإيمان وحجة لصاحبه على رقة القلب، وأمل عميق منه في بلوغ كفارة تنسخ ما استوجب ذاك الألم، لكن بعض الأجناس البشرية الدخيلة – بانحرافها وسوء أخلاقها – عن المجتمع وبنياته تكره ما يمكن أن يذكرها بالندم أو حب التراجع عن الخطيئة، فتتشبث بالعدوان والكراهية والحقد على الآخر حتى وإن كان أقرب منها للنسب من المهد.
وأخشى أن يكون اجتماعنا على نبذ ما يهدد “اجتماعنا” ظاهريا فقط في بعضنا، لبلوغ المصلحة واستهلاك المتعة لأطول ما يمكن من الزمن (…)، بعيدا عن وجع الضمير، فكثيرا ممن هم أوسع اطلاعا ومعرفة غاب عنهم – ويغيب – إدراك العبرة الجلية، بينما انتبه إليها البسطـاء ووعوا بها حق الوعي !

ومع الاستحقاق المشروع – بالنظر للماضي البعيد وأمجاده.. – لانضمام المغرب لنادي الدول الصاعدة موازاة مع الضمانات العملية التي يحرص على أن يقدمها ويبرزها، سواء فيما يتصل بتكريس الوحدة الوطنية والترابية، أو في المجال الأمني المتطور وطنيا وإقليميـا، أو في سعيه لتحقيق الأمن الغذائي من خلال المخطط المغربي الأنموذج الواعد، أو إصراره على تفعيل النجاعة الطاقية من خلال الطاقة البديلة التي ستمكن من تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري واستخدام الطاقة المتجددة والتحرك نحو تنمية منخفضة الكربون، إذ ينتظر – في أفق 2020 – خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بنحو تسعة ملايين طن سنويا…، كل هذا وغيره يصطدم ببعض الممارسات المرتدة على نصوص الدستور وعلى القيم العالية التي تُعَرّفُ بالهوية الذاتية لمغرب اليوم، وهذا ممـا يدفعنا للتصريح بمرارة بأننا حقا.. لسنا سواسية !

لسنا سواسية، بحكم “المعايير” المبثوثة لولوج المدارس والمعاهد العليا، لسنا سواسية بحكم واقع الخدمات بالمستشفيـات والمراكز الصحية رغم الجهود والنوايا الحسنة لبعض الفاعلين، لسنا سواسية بحكم طبيعة الحكامة الإدارية الشاذة في بعض المواقع التي أرى أنه كانت الأولى – من غيرها – بالتقاط الإشارة، الإشارة الإيجابية المشرفة التي كانت ستدفع بما يعزز قيمنا ويرفع من شأنها بين الأمم انسجاما مع ماضي حضارتنا وخدمة للنهج الديمقراطـي المبتغى…، لسنا سواسية أمام هيمنة الريع واستمراريته بأطيافه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية..، وهذا ما يثبط لعمري متطلبات التنمية المستدامة المنشودة.