وجهة نظر

تدبير الزمن السياسي المغربي

هناك سيناريو متكرر ومعاد.. ثلاث ضربات، ترسم في الذاكرة الموشومة إيقاع الزمن السياسي المترهل والرديء… يرفع الستار، تظهر لافتات تحكي عن ” السكتة القلبية”، تنذر بمغرب النهايات والأفول..

تظهر لافتة ثانية، تتحدث عن ارتفاع درجة حرارة “الحراك المجتمعي”، تمتلأ الميادين، وتبح الحناجير بشعار “ارحل” الذي يشيع حالة من الرهاب لدى الحاكمين. تتوالى اللافتات بشكل سيزيفي، ثالثة ورابعة وعاشرة…

تنعش ذاكرة المشاهدين بمغرب الجمر والرصاص، مغرب كاتم الصوت والرغبة، ومغرب هازم الوعي والإرادة.. يتحرك رجال المطافئ في “برنامج استعجالي” ، من “الحرس القديم والجديد”..

يجتمع الكائن والممكن والمستحيل ليعلنوا انطلاق “الأوراش الكبرى” التي تحبل بمغرب أخر “حداثي وديمقراطي”، يسكن في برج عاجي!..

يبدأ المخرجون يؤثثون الفضاء، بإطلاق الإنارات المتقطعة، والإيقاعات الموسيقية الصاخبة، ووضع المكياج المناسب واللباس المموه، تمتلأ الساحة بأدخنة متزاهية الألوان.

ينطلق التشخيص ، يخرج الممثلون من فوق الخشبة الركح يحيون الجمهور، يقررون في أول لوحة تعديل قوانين اللعب، لكن إرادة ” الممنوح” و”التحكم” المتوارية خلف الستار، والتي تشكل “حكومة الظل” هي دائما وأبدا من ترسم الدوائر والخطوط والمنحنيات، خشية أن يسقط “الجدار الثالث”، فتسقط المنصة ويتوحد الفضاء، ويلتحم الجمهور مع الممثلين، ليفسدوا قواعد اللعبة!!!

اللعبة منغلقة من الداخل، ولا تنفتح إلا بأحجام ومقاييس معينة حسب السياقات والمساقات، هذا الانفتاح الضيق بحجم عين إبرة، هو ما يتواضع عليه السياسيون باسم “الهامش الديمقراطي”، وتتهافت على قصعته كل الفعاليات السياسية من كل حدب وصوب، يقيمون الكرنفالات السياسية، ويتغنون بمحامده الهائلة وإيجابياته العديدة التي لا تحصى.

تنتهي اللوحة الأولى بإقرار لعبة ثنائية المنصة والقاعة، وحفظ “الجدار الثالث” من السقوط، وطرد كل المشاغبين الذين يهددون “الاستقرار الداخلي” من القاعة، ليستمروا في صراخهم واحتجاجاتهم من الخارج، فقوانين اللعبة لا تتسع لأحلامهم، ومغامراتهم الجميلة، والمنفتحة على المجهول!

تبدأ اللوحة الثانية بتأثيث الفضاء بمفردات “الأوراش الكبرى”، “التنمية المستدامة”، “الجهوية المتقدمة”، “الحكامة الجيدة”، “العدالة الانتقالية”، “إصلاح التعليم”، “تنمية العالم القروي”، “تدبير الزمن السياسي”، فتحفل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، في عناوينها الكبيرة والعريضة والمميزة، بوعود وخطابات “المغرب الجديد” و”الإشارات الإيجابية” و”المخططات الاستراتيجية”…

اللوحة الثالثة تحبل بدراما “الاستحقاقات الانتخابية”، حيث تخرج الأرض السياسية أثقالها وأدرانها وخطاياها، يعلو فضاء الخشبة صخب السياسة وضوضاؤها، تمتلأ الشوارع والأزقة بالأوراق المتطايرة، توزع الغنائم على البراحة وعمال الدعاية والأنصار والمؤيدين بسخاء زائد، تفقأ الحقيقة عينها، يتقيء الواقع قيحه، فيبدأ مسلسل الخرائط المدروسة، بمقاسات تناسب نوازل الزمان والمكان، وتعيد إلى القبة الخضراء جيش عرمرم من الأعيان، يستأثرون بريع الخدمة والتقاعد بلا مراقبة ولا حساب.. ثم تتشكل الحكومة بشكل فانتازي خارق للعادة، كل وزير سياسي فوقه وزير تحكمي، وكل وزارة فوقها لجنة معينة، أو مجلسا أعلى متسيد، حتى يصير كبير الجوقة الوزارية لا يدري، ولا يدري لماذا لا يدري، وقبل أن يفهم، يباغث الجمهور بسؤاله المضحك “افهمتوا ولا لا!!!

وقواعد اللعبة تقتضي أن ينضبط الجميع لقوانينها الصارمة، يجمع اللاعبين السياسيين هامش كبير من المصالح المشتركة، يطلقون عليها “الثوابت والمقدسات”، من إجماع وطني ووحدة ترابية ومسلسل ديمقراطي، وحفل ولاء وقدرة على الانتظار ورحابة صدر لتلقي الإشارات الإيجابية، وحب جم للريع والامتيازات، ف”البقر يتشابه”.. ولا يميزهم إلا هامش صغير من المصالح المتضاربة، من قبيل نظام الوشايات فيما بينهم، لنيل الحظوة والقرب والرضى والإنعام، والظفر بالريع والامتيازات، وردع الزائغ والمنحرف، حتى يؤوب ويعود إلى الحمى السياسي، وهذا القانون يعمل بمنطق “التدجين السياسي” أولا، ثم بمنطق “الرقابة الذاتية” ثانيا..

فالجميع يتلقى “الإشارات الإيجابية”، بسرعة مذهلة، وتمضي القافلة ولا تلتفت، فطقوس اللعبة وشعائرها صارمة!. وبعدما يستوي النظام على الجودي، يقطع بر الأمان، ويطفئ لهيب الأخطار.. يبدأ موسم “مطاردة الساحرات”، التي تقف في كل طريق، تعرقل وتتحكم وتتسيد.. يسميها البعض ب”جيوب المقاومة”، ويبحث لها آخرون عن مصطلحات منتقاة من عالم الأساطير والحيوانات فيطلق عليها “العفاريت والتماسيح”.. ويدمن الساسة في هذه الفترة على الحديث عن ثقل المراحل السابقة، والإكراهات اللاحقة، و”الإصلاح من الداخل” المتدج، الذي يسير سير السلحفاة، ويدمنون على أستطوانة الأمن والاستقرار، فترتبك “المنهجية الديمقراطية” ويتبعثر “الاستثناء المغربي”، ويفتح المخزن علبته السوداء، لتخرج منها “حكومات الظل” التي تجعل من الاستقرار بركة راكدة، وتفرض على المؤسسات الدستورية صمت القبور!!!.

زمن هذه المناوشات السياسية سرعان ما يترهل، ويصاب أبطاله بالعياء، فيخرجون أمام الجمهور معلنين عن الهزيمة، فيصرخ أحدهم أمام الصحافة، محورا أولويات برنامجه السياسي، الذي بناه على أساس “تخليق الحياة العامة” في زمن “حكومة التناوب” بالتصريح التالي:” ليس لنا حسابات للتصفية، لكن لنا مشاكل قابلة للحل”، وأي مشاكل يمكن أن تحل، والحسابات ما تزال عالقة؟!..

أمام الأخر فيتوج “العفاريت والتماسيح” بوشاح العفو والإفلات من العقاب، بقوله الذي سارت به الركبان “عفا الله عما سلف”!.. الكل يتنادى بصراخ “ويل للمفسدين”، لإنعاش الدينامية السياسية، ونفث الروح في المومياء، ولكنه يتقي حمى الاستبداد، فلا يقربه لا من بعيد ولا من قريب، مع أن الفساد ينبع من نهر الاستبداد الكبير!..

ولذلك فتحت يافطة مسمى “تخليق الحياة العامة” و”محاربة الفساد”، يتنامى مارد الفساد والريع وهذر المال العام واستغلال النفوذ وخيانة الأمانة، وتفويت القطاع العام في صفقات مريبة، وضرب الوظيفة العمومية وصناديق التقاعد والمقاصة وإفلاس التعليم والصحة.. فشعار “تخليق الحياة العامة” هو أقرب إلى الشعار الذرائعي منه إلى البرنامج العملي، لأنه ليس محكوما بمقدمات دستورية ديمقراطية، تقطع مع الريع والممنوح، وتربط السلطة بالمسؤولية والمحاسبة..

تخليق “الحياة العامة” كان ولا يزال ايديولوجية بائسة، عجزت ابتداء عن تخليق الحياة الحزبية، لمن دشن هذه المبادرة، لقد كانت طلقات أطلقت في الهواء، كانت أقرب إلى المراسم الاحتفالية منها إلى المعقولية السياسية.. ولو أرادوا الإصلاح لأعدوا له عدته!! إن مشروع محاربة الفساد هو برنامج للدولة المخزنية المصنفة دوليا ما بين الدولة التسلطية والهجينة، وهو برنامج ذرائعي نازل من أعلى، تطبقه كائنات حزبية موبوءة بذاء العجز الذاتي، تنتظر “الإشارات الايجابية”، وتحكمها العقلية الانتظارية..

وهذا الورش لا ينطلق إلا تحت رهاب الخوف من تشوه صورة البلاد لدى الخارج، لذلك كلما دقت أجراس “التقارير الدولية” منذرة بإفلاس الأوضاع، إلا وسمحت أجهزت التحكم والتسيد، بتحريك عربات الاصلاح الصدئة، فتتسلم الكائنات الحزبية الداجنة “الاشارات الايجابية”، لتملأ سماء الوطن ضجيجا، فتسود الصحف، وتعقد الندوات الوطنية، وتؤسس اللجان الوظيفية، لكن الحراك ما أن يتجاوز محطة الانطلاق، ويستنفذ أغراضه الدعائية، حتى يتوقف في منتصف الطريق..

ففي لحظة تنفذ جميع البطاريات، ويقل الحماس، ويتوارى الهتاف، وتنتهي فصول المسرحية، لتعاد من جديد، بعدما تصاب الذاكرة بلعنة النسيان والإخصاء.. كل مشاهد وفصول هذه المسرحية مستقاة من “العالم الواقعي”، وليست من “العالم الافتراضي”، وعناصرها ابتداء من النص ومرورا بالإخراج وانتهاء بالتشخيص يحكمها قانون اللعبة السياسية، قانون الخطوط الحمراء ..