وجهة نظر

الغوغائية السياسية

مرت ما يقارب عن ستين سنة، ، من تاريخ المغرب “المستقل”، مرت فيه الكثير من المياه الآسنة تحت الجسر، سادت فيه سياسة غوغائية، انتجت نظاما مخزنيا للوصاية والريع والتحكم والتقليد، وطبقة سياسية ريعية مستفيدة من هبات الدولة..

الغوغائية السياسية تتجلى في قوى مساندة، عانقت جوابا بلا سؤال، جوابا جاهزا ومعلبا، له ممر وحيد يفضي نخو المخزنة والهرولة، يعفيها من قلق التساؤل، الذي يمكن أن يفضي بها في خضم بحر هائج بلا ضفاف، والمساند الغوغائي لا يحب المغامرة، ودائما وأبدا يحط رحاله أينما وجد الماء والكلأ والغنائم والطقوس، التي تعوض فراغه وتقعره من المعنى، بأدوات لا تنتمي لعالم الأسئلة الحارقة، وإنما تنتمي لعالم الأجوبة، المنتزعة من عالم التقليد والأعراف والخرافة.. ولهذا الشأن تأسست جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية “الفديك”، وميكانيزم الدفاع الذي هو عنوان وجودها، هو ميكانيزم رد الفعل، لا يؤسس لأنه لا يعيش حرقة السؤال، ولا يخوض أهوال التفكيك وإعادة البناء، فهو يعمل ضمن حلقة ضيقة ومملاة، يروم الدفاع عن “خديعة الاستقرار”، ويستحضر أدوات عمل منتزعة من قاموس “نظرية المؤامرة”، لدحر أعداء الوطن والوحدة الترابية، ويستجلب فقه درإ الفتن بلا ضوابط، ويحشر نفسه ضمن الخدام الأوفياء للعتبات الشريفة، ولا فخر!!!

ثم استمرت عمليات “التهجين السياسي”، لتتعزز صفوف قوى المساندة السياسية، بأحزاب جديدة، آتية من رحم “أم الوزارات” كأحزاب “الوفاق الوطني”، والتي يطلق عليها المجتمع السياسي ب”الأحزاب الإدارية”، لأنها أحزاب رخوية بدون فقرات، أنتجها المخزن لإضعاف الأحزاب الوطنية، وتمييع وبلقنة المشهد السياسي، وهي أحزاب تتخذ من خطب الملك وتوصياته وحواراته برنامجا لها.. ثم انضافت له ما سمي ب”أحزاب الكتلة الديمقراطية” التي في مشهد درامي، خاصمت السؤال الديمقراطي القلق، وعانقت الجواب المخزني المفارق، رغبة منها في تحقيق سياسة القرب، فقد تحولت من صيرورة الكفاح الوطني إلى سيرورة أخرى مغايرة هي سيرورة المساندة السياسية، انتقلت من موقع القوة الأخلاقية والمعنوية، الحاملة للمشروع الوطني التقدمي والديمقراطي، إلى طبقة ريعية مستفيدة من هبات الدولة، وانطفأ وهيجها، ولم تعد تستقطب الجماهير الشعبية، ولا تولي اهتماما بتأطيرها وتعبئتها، لخدمة المشروع الوطني الديمقراطي، ثم التحق بقافلة المهرولين أحد مكونات الإسلام السياسي، الذي يقود الحكومة حاليا، ليوظف قاعدته الاجتماعية كقوة ناخبة، تبث بعض دماءها في شرايين جسم سياسي مترهل، فحبل الواقع السياسي بأجوبة معلبة، تروج بقوة لخديعة الاستقرار والأمن، وخديعة الإصلاح من الداخل، والاستثناء المغربي، و”عفا الله عما سلف” وبلبوس كهنوتي تارة، وبرغماتي تارة أخرى، مواجهة بذلك أسئلة الحراك المجتمعي الحارقة.

وفي المقابل بقي تيار الغوغائية السياسية المعارض على الهامش، خارج النسق، يردد محفوظاته الثورية، ويحس بنشوة الانتصار، كلما سمع رجع صداه يتردد على مسامعه، بقي مندفعا اندفاعا غريزيا نحو العدمية، كرفض مطلق لكل شيء، فالغلو الايديولوجي حجاب يمنع من رؤية الأشياء كما هي، بدون إضافات مخلة.. إن مشكلة هذا التيار هو الغرق في مستنقع أسئلة عدمية، بدون أفق، وبدون أجوبة مرحلية، تتدرج في مشوار النضال، ولما دخل موجة الحراك العشريني أفسدها، وحول ماءها الرقراق إلى زبذ ذهب جفاء.

عموما فالغوغائية السياسية تعيش وعيا زائفا، إما بجرعات سالبة في مجال السؤال، أو بجرعات سالبة في مجال الجواب، فإما أنها لا تتساءل لأنها فقدت وظيفتها النقدية، وصارت عبارة عن كائنات داجنة، وإما أنها لا تبحث عن جواب، وتتحول إلى كائنات عدمية..
والتدجين يؤدي إلى ما يسمى ب”الوثنية السياسية” وعبادة الصنم السياسي، أما العدمية فتؤدي إلى “الهرطقة السياسية”، وعبادة العدم السياسي..

فأحزاب الموافقة السياسية من داخل النسق، تعيش وجودا غوغائيا زائفا، مصاحبا للمخزن السياسي، والغا في فتات الريع والغنيمة، ومفارقا للمجتمع وقضاياه العادلة.. وأحزاب المعارضة السياسية من خارج النسق، تعيش هي الأخرى وجودا غوغائيا زائفا، مفارقا للمخزن السياسي، ومتعاليا عن المجتمع وقضاياه العادلة، تخوض معاركها الايديولوجيا بشغب، يخدم عمليات التفتيت وتجزيء المجزأ، وتغفل عن مجال حيوي؛ هو مجال الحقوق والحريات، وإذا ما اقتحمته أفسدته بأجنداتها السياسية والايولوجية المفرقة.

الوجود الغوغائي الزائف هو إما وجود بلا حرية، لا نقرر فيه ولا نختار، كل شيء فيه ممنوح، تحدده قوى التسيد والتحكم، وهنا يقع الكائن السياسي في اغتراب عن الذات، يخضع ل”قدرية الجواب” المحتوم.. وإما وجود بلا نسقية العقل، وسياق الواقع، وجود سائب تحدده الغرائز والأهواء، وهنا يقع الكائن في الشغب والفوضى.

ولهذا الوجود الغوغائي الزائف ثلاث مظاهر جلية، يراها رأي العين كل من لم تتلوث فطرته السياسية بلوثة الغوغائية المعيبة: أولها؛ الثرثرة التي لا تفيد ولا تغني من جوع. ثانيها؛ التقعر الذي يمسخ الوجود. وثالثها؛ الغموض والالتباس اللذان يشيعان الشك واليأس والإحباط. فيغدو العمل السياسي الغوغائي منبوذا مذموما ومدحورا ومفارقا لأمال وأحلام الأغلبية الصامتة، إلا أن نصل درجة “الصفر السياسي”، لتبدأ مرحلة جديد من العد العكسي، وتنطلق عملية فرز جديد، تربط بين شرعية السؤال القلق، وشرعية الجواب المعقول والمناسب.