منوعات

حول مسؤولية عقلنة الخطاب السياسي

يُصدم المتابع للحقل السياسي المغربي من حجم خطابات التخوين، واتهام النيات، والتشكيك في الغايات التي تطغى على مختلف الفرقاء السياسيين، والتي تلقي بظلالها في لحظات مفصلية على الخطاب الإعلامي الذي تشكل فيه فضاءات التواصل الاجتماعي مرايا كاشفة، وهو ما يكرس مقولة أن الفعل السياسي لا يقوم إلا على معادلة تزكية الذات، واستهجان الآخر، وهي معادلة تتناقض والادعاء بالمساهمة في تخليق الحياة العامة، لا سيما وأن فضيلة الإنصاف تُفتقد فيه ابتداء.

أصبح خطاب تزكية الذات وتحقير الخصم سمة غالبة في الخطاب السياسي، ورغم محاولات تجميله بادعاء القبول بالتعددية، ورفض الإقصاء، والاعتراف للخصم ببعض المزايا؛ فإن كل هذه المسوح التجميلية تسيح وتنمحي أمام لحظات نوعية يبلغ فيها التجاذب السياسي مستوى مرتفعا، فيعود الخطاب السياسي إلى الانتكاس وإبراز الطبيعة التخوينية والإقصائية لممارسيه.

إن داء إطراء الذات بكل فضيلة، ووسْم الخصم بكل رذيلة تظل حاضرة في خطاب سياسيين لا يقيمون كبير وزن للعمل السياسي إلا باعتباره خدمة للمصالح الحزبية أو الشخصية، ومثل هؤلاء لا يُنتظر منهم تخليق الحياة السياسية وهم من فيروساتها، ولكن المعوَّل على من يعتبرون العمل السياسي مجهودا تطوعيا لخدمة الصالح العام، وهو ما يمنحه مبدئيتة الأخلاقية، ومعناه النضالي الإيجابي. وأزعم أن الخلل الذي يطال خطاب هؤلاء في لحظات كاشفة إنما يعود أصلا إلى عدم القدرة، أو عدم الرغبة، في تفهم مواقف المختلَف معه وفق منطقه الداخلي عوض أن يفرض عليه منطق لا يعترف بصوابه.

يمكن البرهنة على ما تم تقديمه نظريا على واقع نموذج الخطاب السياسي الممزوج الذي اشتعل بين الداعين للمشاركة في انتخابات 4 شتنبر 2015 الجهوية والجماعية والمقاطعين لها، فقد رأى قسم كبير من المقاطعين أن المشاركين تحولوا جميعهم إلى مفردات فساد واستبداد! في حين طالب الكثير من هؤلاء إلى إسقاط حقوق المواطنة عن الداعين إلى المقاطعة للانتخابات! وهو مستوى يجعل الكراهية والبغض للمختلف معه في مستوى كمون خطير، قد تنفجر في أي لحظة مستقبلية بأبشع ما فيها من وحشية.

وأزعم أنه كان بالإمكان تجاوز مثل هذه الخطابات المتشنجة بتحديد محل نزاعها من أجل الوعي بحدود ومساحات اختلافها، وهو نزاع كلمته المفتاح -فيما يتعلق بالمشاركة الانتخابية من عدمها-بسؤال المشروعية Légitimité والذي يشكل مدخلا مهما لتفهم مواقف مختلف الفرقاء السياسيين من هذه المشاركة في الحالة المغربية، والتي يمكن التمييز بينها ضمن ثلاثة مواقف:

  • موقف المشاركين في الاستحقاقات الانتخابية بشكل غير مشروط، وهم يرون أن مشروعية السلطة متطابقة مع قيم المجتمع، وأن إثارتها في النسق السياسي المغربي إنما يكرس ثقافة انقسامية قد تعيد إنتاج خريطة سنوات الرصاص التي عاشها المغرب إلى نهاية الثمانينات، وذلك من خلال الزج بالمؤسسة الملكية في الصراع السياسي المباشر. لذلك تعد المشاركة الانتخابية آلية استقرار، وتطوير للحقل السياسي القائم من داخل منظومته، وتتبنى هذا الموقف تنظيمات سياسية متعددة من أبرزها أحزاب “العدالة والتنمية” و”الاتحاد الاشتراكي” و”الاستقلال.
  • موقف المشاركين في الاستحقاقات الانتخابية بتحفظ، فقد يقاطعون الاستفتاء الدستوري ويشاركون في الانتخابات التشريعية أو الجماعية التي تجري في إطاره، ويمكن تفسير هذه التحولات ليس بفعل التناقض قدر، كون أصحاب هذا التصور يرون أن النظام السياسي يعاني من نقص في المشروعية، فهو غير فاقد لها كلِّية ولا حائز إياها بشكل كامل، وهو ما يفسر أن المقاطعة سلوك غير مبدئي، والمشاركة في الانتخابات تفتل في استراتيجية النضال الديمقراطي، ويتبنى هذا الموقف “الحزب الاشتراكي الموحد”، وحزب “الطليعة” وغيرهما.
  • موقف المقاطعين للانتخابات بشكل مبدئي، وهم يرون أن المشاركة في الانتخابات تظل بلا معنى في ظل سلطة تعاني من انعدام المشروعية بسبب الأساليب المعتمدة في الوصول إلى الحكم، وهي أساليب تتناقض سواء مع المحددات الديمقراطية من مدخل حداثي، أو مع الأسلوب الشوري من مدخل ديني، وهو ما ينتج عنه تقييم سلبي للسلطة؛ مع الرغبة في تعميم تبنيه من قبل مختلف فئات المجتمع؛ بغية خلق حالة وعي تتبنى اللجوء إلى أساليب المعارضة السلبية، ومن ضمنها مقاطعة الانتخابات، لتتحول فيما بعد إلى معارضة فعلية يقوم فيها الشارع بإحداث التوازن الميداني مع السلطة المطلقة عبر الاحتجاجات التي قد ترقى في أقوى لحظاتها إلى العصيان المدني أو حتى الثورة/القومة. وهو التصور الذي تتبنى الكثير من مفرداته جماعة العدل والإحسان وحزب النهج الديمقراطي رغم التباعد الإيديولوجي الكبير بينهما.

إن تحديد محل النزاع بدقة في اللحظات الكاشفة، واتساع حويصلة الفرقاء السياسيين لأطاريح خصومهم، وفهم التناقضات وفق تعدد منطقي يفرضه اختلاف هؤلاء الفرقاء في الإيديولوجيا المؤطرة، والمسار التاريخي، والموقع في المشهد السياسي يساهم إلى حد كبير في عقلنة الخطاب السياسي الذي يشكل مدخلا شرطيا لعقلنة الممارسة السياسية.

طنجة، 22 أكتوبر 2015

باحث في القانون الدستوري والعلوم السياسية