وجهة نظر

ليسوا أشرارا يا زغلول النجار !

ما حدث لزغلول النجار مع طلبتنا بمدينة فاس يشعرنا ببعض الفخر والطمأنينة، حيث يظهر جليا بأنّ شبابنا المغربي ليس مغفلا إلى درجة أن يضحك عليه بعض تجار الدين ومشعوذيه، الذين تعودوا على تسويق بضاعتهم الكاسدة في بلدان الاستبداد والتخلف الشرقي.

لقد طرح عليه بعضهم أسئلة وجدها مستفزة، وعوض أن يواجه أسئلة الطلبة فضل اللجوء إلى العنف الرمزي والتقريع والتحريض، فنعت الطلبة بـ”العصابة” كما سماهم بـ”الأشرار” وبـ”المنسلخين من عروبتهم ودينهم”، إلى غير ذلك من الكلام الخارج عن طور التعقل والكياسة.

زغلول النجار يمثل ظاهرة من ظواهر التخلف العربي الإسلامي الفاضح، فالرجل بذل جهدا كبيرا ليبعد أدمغة الناس عن العلم الحق، ويحشر فيها من التأويلات الخاطئة المغالية والأكاذيب الإيديولوجية المنتفخة بالأوهام ما يصرف عن البحث العلمي الجاد والرصين، كما أنفق هو ومن معه في سوق “الإعجاز العلمي للقرآن” ملايير الدولارات في أوراش فارغة لا تنتج من العلم النافع شيئا، ولكنها فقط تقوم بالدعاية للتدين السياسي بطرق ملتوية، إذ تعد ملتقيات “الإعجاز” المذكورة واحدة من أهم آليات الاستقطاب التي تستدرج الشباب إلى فخاخ الإسلام السياسي الذي يقوم أساسا على معاداة مجتمعات العلم والمعرفة، ومعاكسة الروح العلمية لعصرنا، ومناوئة النموذج الحضاري الذي تمثله البلدان الأكثر رقيا.

ملخص أطروحة زغلول النجار ومن معه أن في القرآن حقائق علمية اكتشفها العلم الحديث، ما يعني أن الهدف الدعاية للدين لا للعلم، يتم هذا في وضع يعرف فيه المسلمون انحطاطا كبيرا على جميع الأصعدة، حيث فشلوا في إقامة أنظمة حكم عادلة، كما انهزموا في كل أسواق التنافس المادي والرمزي، ولم يقدموا شيئا يذكر في مجال التنظير للعلوم أو ابتكار التقنيات المتطورة، وظلوا يقتاتون على فتات موائد العالم المتقدم الذي قطع أشواطا كبيرة في تحصيل المعارف على أسس متينة من البحث التجريبي والنظري الدقيق.

يفسر هذا الفشل سيكولوجية الانكفاء نحو الماضي، كما يفسر الارتماء في أحضان البلاغة لتعويض التخلف الشامل، فوجدوا ضالتهم في أسطورة ابتكرها “الإخوان المسلمون” منذ عقود، وهي أننا سباقون إلى النظريات العلمية، حيث أشار إليها القرآن قبل ظهور العلوم الحديثة واكتشاف الغرب لها، هكذا أصبح الغرب هو التابع وأصبح المسلمون في حكم رواد الحضارة والعلم، دون أن يكون لذلك أي أثر إلا في الأحلام.

يتمّ هذا في الوقت الذي تخبرنا فيه الإحصائيات بأن جميع بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط لا تنفق أكثر من 0,1 في المائة من ميزانيتها على البحث العلمي، بينما تذهب ملايير الدولارات في الدعوة الدينية الوهابية أو الإخوانية، أو في مهاوي التبذير والفساد والرشوة، كما تخبرنا الإحصائيات بأن ميزانية البحث العلمي في العالم المتقدم كله هي 400 مليار دولار، بينما تتوفر العربية السعودية وحدها على 800 مليار دولار من فائض العملة النائمة. وتخبرنا الإحصائيات كذلك بأن دولة صغيرة مثل إسرائيل تنفق لوحدها 4,7 في المائة من ميزانيتها على البحث العلمي، ولم نسمع في إسرائيل عن علماء يكتشفون نظريات علمية في التوراة، كما لم نسمع من المسيحيين ما يفيد ذلك، وحدهم المسلمون يقعون على نظريات علمية في كتابهم الديني، وطبعا يحدث هذا دائما، بعد اكتشاف تلك النظريات من قبل الغير.

يقوم ورش “الإعجاز العلمي في القرآن” على قراءة تأويلية ماكرة، تعتمد بعض الجمل والتعابير البلاغية الواردة في القرآن، وتبحث لها عن معان “جديدة” لم يقل بها المفسرون وفقهاء الدين، وتقدمها على أنها “قراءة علمية” للقرآن، تتم على ضوء اكتشافات علمية جديدة.

ومشكلة هذه القراءة أنها غير ممكنة خارج الاكتشافات العلمية المتحققة، حيث ينتظر أصحاب نظرية “الإعجاز العلمي” إلى أن يتمّ اكتشاف الحقائق العلمية من طرف العلماء المختصين الحقيقيين، ليقوم زغلول النجار ومن معه بالبحث لها عن مقابل في الجمل القرآنية عبر التأويلات المغالية والتخريجات الغريبة والمتعسفة.

من جهة ثانية لا ينتبه أصحاب نظرية “الإعجاز العلمي” إلى أن من طبيعة المعرفة العلمية أنها نسبية، وقابلة للتصحيح والتغير بحسب تطور العقل العلمي وأدوات البحث ووسائل العمل المختبري، وأن هذا يجعل من غير الممكن خلط المعارف العلمية بنصوص دينية تعتبر ثابتة عند المؤمنين بها. إن كل خلط بين النسبي والمطلق لن يكون إلا تركيبا غير متجانس وتشويشا على العقل. والصحيح هو الفصل بين المجالين لأن لكل منهما منطلقاته وأسسه وغاياته.

النتيجة أن هذا الأسلوب الديني الدعوي لا يساعد على شحذ ملكة البحث والتجديد والابتكار في العلوم، لأنه يَعرض نتائج علمية مؤولة دينيا، دون أن يعرف الناس المنطق العلمي الذي بنيت عليه، لكنه أسلوب يشجع على مزيد من التأويل للنص الديني، مما أدى إلى تضخم كبير في مثل هذه الأقاويل (خاصة مع وجود ميزانيات مغرية بملايين الدولارات تنفقها بلدان الخليج)، في مقابل ضعف وترد كبير في بنيات البحث العلمي الحق.

إن ورش “الإعجاز العلمي للقرآن” يندرج ضمن العمل الدعوي الديني والسياسي، وليس ضمن البحث العلمي بالمعنى المتعارف عليه عالميا، ولهذا فهو لا يضيف شيئا للعلوم، لكنه يحقق المزيد من استقطاب المريدين لصالح تيار الإسلام السياسي الذي يمارس هذه اللعبة الإيديولوجية، والتي تحولت إلى سوق رائجة ومربحة لأصحابها، ما يفسر العنف الرمزي الذي يقابلون به منتقديهم.

إن الأبحاث العلمية لا تنطلق أبدا من كتب دينية، وإنما منطلقها الملاحظة والبحث التجريبي في الظواهر الطبيعية والكونية، وبناء المعرفة العلمية يقوم على أسس كونية قام بتدقيقها المجتمع العلمي بجهود وتضحيات عظيمة، بذلها كبار علماء العالم، ولم يحددوا لأبحاثهم أية منطلقات أو أهداف دينية أو إيديولوجية، وإنما اعتبروا أن هدفهم كشف الحقائق التي ما زالت خفية عن أذهان البشر وإدراكاتهم. أما الأديان فتتعلق بالاختيارات الحرة للأفراد، وهي تقوم أساسا على التصديق والتسليم لا على عمليات منطقية ولا على أبحاث علمية، وحتى أولائك الذين يعتقدون من باب التوهم بأنهم يؤمنون انطلاقا من حقائق علمية مبرهن عليها، فإنما يخادعون أنفسهم لأن الحقيقة أنهم انطلقوا من إيمانهم الذي هو قناعة شخصية، ليثبتوا لأنفسهم صحة ما يعتنقونه من معتقدات روحية، وهدفهم في ذلك أن يطمئنوا إلى معتقدهم الميتافيزيقي. أما الذين ليس لديهم استعداد للتسليم بالمعتقدات الروحية فلا تنفع معهم “البراهين” والتأويلات المسماة علمية، لأنهم لا ينظرون إليها من نفس الزاويةن ولا يرونها بنفس المنظار الذي يراها بها المؤمنون.

من هذا المنطلق نقول لزغلول النجار: إن طلبتنا ليسوا “أشرارا” ولكنهم ذوات مفكرة، بدليل أنهم شكوا في صدقية آرائكم ووضعوا أيديهم على مواطن الخلل في مزاعمكم، بعد أن كنتم تظنون بأنهم أكياس بطاطس تسكبون فيها مسلماتكم وترحلون.

ليس طلبتنا كارهين للإسلام ولكنهم رافضون لتوظيفه في ترويج الجهل والجهالة، وتضبيع المسلمين وتحويلهم إلى ببغاوات تكرر ببلاهة يقينيات كاذبة ومثيرة للسخرية، لقد جعلتهم من شروط الإسلام أن يكون المرء قابلا لتصديق اوهامكم والتسليم بها، وأن يضع عقله في صندوق أسود بعيدا عن نور الحياة والعلم، وعن حرارة البحث والسؤال، ومتعة الإبداع والاكتشاف.

وليس طلبتنا “عصابة” كما حكمتم بدون تحفظ، بل هم أفراد عاقلون وأحرار، استمعوا إليك قبل أن ينتقدوك، وعبروا من خلال أسئلتهم وتعقيباتهم عن استيائهم من أسلوبكم في تغليط الناس وتضليلهم، وإلهائهم عن العلوم الحقة بعبارات الإنشاء والبلاغة التي تصنعونها مستغلين عواطف الناس الدينية، وشعورهم العام بالتأخر الذي لا يعرفون أسبابه الحقيقية، ورغبتهم في الانتقام من ظروف تخلفهم دون أن يغيروا ما بأنفسهم.

وفي انتظار أن يهتدي المسلمون إلى سبل بناء مجتمعات علم ومعرفة، نتمنى لزغلول النجار ومن على دربه أن يشعروا ببعض من وخز الضمير، أو ببعض الخجل من أنفسهم، حتى يكسبوا قوتهم من مهن شريفة.