وجهة نظر

حراك أم عراك؟

إن المتتبع بعين المتبصر لما يعرفه المغرب في الشهور القليلة الأخيرة من أحداث، وتناميها وتمددها يوما بعد يوم، يقف على الحقائق التالية:

1: أن الحراك بدأ محصورا في الزمان والمكان ثم تمدد ليعم مناطق أخرى وتدحرج وتضخم ككرة ثلج، رغم محاولات الروايات الرسمية تقزيمه أو التنقيص منه بحجة (أن الدنيا هانية) وعدم إثارة الرعب والفتنة في نفوس من لم تصلهم وسائط التواصل الإجتماعي بعد، وما زالوا يعتمدون على حُلقومتي القناتين الأولى والثانية المخصصتين في التنويم المغناطيسي لفئة قليلة من الشعب لم تقرر هجرهما بعد.

2: أن الحراك بدأ سلميا وبمطالب اجتماعية صرفة كانت محط اتفاق وتعاطف كل من سمع بها، ثم ما لبثت هي الأخرى أن تضخمت بعدما تجاهلها ساستنا بحجة (ستُبح هذه الحناجر وستعود لجحورها كالعادة)، بل رُفع سقف المطالب بعدما خرجت الحكومة بتصريحات تحت الطلب، صبت نار التخوين والعمالة والانفصال على نار الحراك، ثم ما لبثت أن نقضت غزلها بعدما أوحي إليها بذلك، وانكشفت مصيبة ما أقدموا عليه، يتوجب القيام بزيارة على عجل إلى المعترك لترقيعها ورتق خطئها الجسيم، والتي بدورها أعطت نتائج عكسية بعد أن تمت بانتقائية ولم تجالس المحتجين بحجة التفكير السلطوي القديم (والله مانكبْروه ليهم ولا نضْسْروهم)، وأفقدت الدولة هيبتها بعدما تباهى وزراؤها بهول الأرقام من الدراهم المخصصة لتنمية هذه المنطقة، فترسخ عند عامة الشعب أن “الفلوس كاينة، وأن باش تاخد حقك خصك تغوت عليه” فكان أن طلعت علينا شعارات من قبيل “كلنا انفصاليون” واشتعلت كثير من المناطق احتجاجا ليس تضامنا مع الريف ولكن أسوة به وبالمنطق الذي رسخته زيارة الوفد الحكومي المتمثل في “يلا بغيتي الوزراء ينزلوا تا لعندك ويجيبوا لك الميزانيات الضخمة قم فزَفْزِفْ في مدينتك”.

3: أن هذا الحراك مختلف تمام الاختلاف عن سابقيه من حيث المنتوج الذي أفرزه، فإذا كانت الحركات التي سبقته كانت تتسم بالمركزية المتمثلة في الاحتجاج أمام البرلمان باعتباره رمزا لحرية الرأي على لسان نواب الأمة، فإن الحراك الحالي أسقط هذه النظرية وجعل من الإحتجاج المحلي في عين المكان وخروج النساء والولدان وذوي الاحتياجات الخاصة وحتى المواشي مستقبلا .. فرصة لتحقيق المطالب وأجدى نفعا مقارنة مع احتجاج الرباط المكلف ماديا ومعنويا وعدديا.

ومن مفارقات هذا الحراك عن سابقيه هو قدرته على صنع الزعامة المحلية، فبروز زعامة الزفزافي (الشاب ذو المستوى الدراسي المحدود، الثائر على كل شيء، غير المؤدلج فتارة يستدل بجيفارا وتارة بأقوال الرسول، وتارة بهندام سلفي وفي أخرى بلباس غربي..) جعلت كل شاب يرى نفسه زفزافيا صغيرا يجب أن يخرج لإثبات الذات، فكان والحالة هاته أن أصبحت ظاهرة الزفزفة صناعة محلية ونسخها كثيرة.

ومن مفارقات هذا الحراك كذلك عن سابقيه، قدرته في إماطة اللثام عن مؤسسة ظلت إلى ما قبل الجمعة السابقة تحظى بالتقديس من كل أطياف الشعب المغربي، متمثلة في المؤسسة الدينية ومن خلالها مؤسسة المسجد الذي ظل في تاريخ المغرب الحديث يحظى بالتوقير والاحترام ومحاطا بسياج من النصوص الدينية وعلى رأسها الحديث الذي يحفظه الخاص والعام، الصغير والكبير، الأمي والمثقف، “من لغا فلا جمعة له” وهو الذي جعل كل المغاربة يدخلون المسجد منصتين بإمعان سواء أعجبوا بما يقال أم كرهوا، ويغادرونه بعدما يختم الإمام خطبته بالدعاء الصالح لولي الأمر.

فإقدام الزفزافي على توقيف الخطيب أثناء خطبته هو ثورة بكل المقاييس على هذه المؤسسة التي ظلت دوما مهابة وموقرة، وبل وصاحب فعلته هاته مساءلة لحديث “من لغا ” بنصوص أخرى وبأثار من السيرة وسيرة السلف الصالح تجيز ما أقدم عليه الزفزافي شرعا ومنطقا .. مما قد يحتم أن سيناريو توقيف الأئمة أو هجر الذين لا يجهرون بالحق في نظرهم، وارد لا محالة والتعاطي لطرق تدين بديلة ..

4: ومن رابع الأثافي التي يمكن أن تستشف من هذا الحراك، هو أنه عرّى الأحزاب السياسية والنقابات وجمعيات المجتمع المدني التي كانت تصنع على الأوراق ليس إلا، فلا الأحزاب السياسية وخصوصا التي حصلت على مقاعد برلمانية أو التي تستفرد بتسيير جماعات الريف أو التي تحظى برئاسة جهته، قادرة على ضبط قواعدها من الانخراط الميداني في الحراك، ولا هي قامت بتأطير الجماهير وفق السلمية ومشروعية الاحتجاج المقرون بالانصياع للقانون، ولم نسمع زعيما سياسيا قط عقد تجمعا خطابيا أو ندوة في الموضوع، بل على النقيض من ذلك اختفى هؤلاء، والكل توارى عن الأنظار وبلع لسانه منتظرين ساعة الصفر، خائفين من تخوين أهل الحراك لهم، أو لا قدر الله متواطئين معهم..

5: أن منطق الاستهانة بالأمور ونهج سياسة الأذان الصماء في وجه المطالبين بحقوقهم، ونهج سياسة “دعها حتى تقع”، وعدم نهج السياسة الاستباقية في كل شيء هو لعب بالنار ولعب بشفرة حلاقة في فم مصاب بمرض الهيموفيليا..

فحذاري حذاري أن يتحول الحراك إلى عراك.