وجهة نظر

في تشريح حراك الريف

حراك الريف احتجاجات الحسيمة

ترددت كثيرا قبل كتابة هذه الأسطر حول ما يجري في الريف، أولا للتوضيح كلمة الريف تستعمل في المغرب للدلالة على نطاق جغرافي يضم أغلب مدن شمال المغرب (طنجة، تطوان، الحسيمة، الناظور…)، والكلمة لا تعني المجال القروي كما يتبادر لأذهان إخواننا في المشرق. بينما الأحداث اقتصرت على مدينة الحسيمة، وكانت شرارتها الأولى عبارة عن حركة احتجاجية ضد مقتل محسن فكري، أحد بائعي السمك في شاحنة لجمع الأزبال، استمرت الأحداث لعدة أشهر وتزعمها مجموعة من الشباب، لكن سرعان ما دخلت مجموعة أطراف في عملية الاحتجاج ويمكننا تفصيلها في ثلاث فئات:

الفئة الأولى، هي الفئة ذات مطالب اجتماعية، وهي الفئة الرئيسة المكونة للاحتجاج، كانت مطالبها عادلة ومشروعة ولا يمكن لأي أحد المزايدة فيها، فمطالب مثل تحسين التطبيب والتعليم والمطالبة بالشغل، تظل مشروعة في كل مكان مهما كانت الحالة الاقتصادية والاجتماعية، لأن الإنسان بطبعه يبحث عن الأفضل.

الفئة الثانية: تتمثل في حركة ذات خطاب اثني هوياتي، وهي ما يسمى بـ “الحركة الثقافية الأمازيغية” (M.C.A)، وهي حركة تتبنى خطاب اثني متطرف، يستند لخطاب تاريخي أنتج خلال الفترة الاستعمارية، إذ لعب المستعمر الفرنسي لشمال إفريقيا (المغرب والجزائر تحديدا) على الوثر الاثني، إذ تنبه الخبراء الأنثروبولوجيين ورجال الاستعلامات للتنوع العرقي في كل من الجزائر والمغرب، وعملوا على توظيف هذا المعطى لتفكيك البنى الاجتماعية والاقتصادية وتسهيل الاستعمار، فتم نسج خطاب مفاده مسؤولية الهجرات العربية عن تأخر وخراب شمال إفريقيا، ووظفت كتابات ابن خلدون في هذا الصدد حول الأعراب (الأعراب تعني سكان القرى عكس المدن) (“أينما حل العرب حل الخراب”، الأعراب أشد كفرا ونفاقا”) وغيرها من العبارات التي أخرجت من سياق إنتاجها وحرفت مدلولاتها، وبناء على هذا الخطاب تم العمل على التفريق بين العرب والبربر بإحداث محاكم ومدارس وقضاء خاص بالبربر، فانطلاقا من هذا الخطاب التاريخي المضلل، تنطلق هذه الفئة الثانية وتكرر خطاب المظلومية التاريخية وتحمل العرب بؤس ما يعيشه البربر، (مع العلم أن المغاربة سواسية في هذا الأمر) وهذا واضح في شعارات جزء من الحراك كعبارة “أبناء أبي لهب” أو حمل الأعلام الخاصة بالحركة بداعي الهوية، بل أخطر من ذلك المدعو “الزفزافي” متزرعم الحراك قال حرفيا “الاستعمار الاسباني أرحم من الاستعمار العروبي” وهي عبارة تدل عن حقد دفين اتجاه ما هو عربي، وهذه الفئة ركزت في الحراك على تجيش الطلبة الجامعيين المنتمين لهذه المنطقة، نظرا لتغلغل فصيل باسمها في أغلب الكليات الكبرى، كما عملت على إخراج تلاميذ المدارس، ويتضح هذا المعطى من إلقاء أول نظرة على الفئات العمرية المشاركة في الحراك، كما أن هذه الفئة تلقى نوع من التعاطف في الشارع وبين الساكنة ذات الأغلبية “الامازيغية” نظرا للعبها على وثر الهوية.

الفئة الثالثة، هي الفئة ذات النزعة الانفصالية، وبدورها تستند لخطاب تاريخي يرجع لحقبة الاستعمار والسنوات الأولى من الاستقلال، إذ تنادي هذه الفئة بنهج خطى محمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل إقامة جمهورية الريف، وهذا المعطى أيضا حاضر من خلال رفع أعلام جمهورية الريف، وتوظيف موروث محمد بن عبد الكريم الخطابي. وفي شق آخر يستند أصحاب هذا الاتجاه للصراع التاريخي بين أهل الريف والسلطة، خاصة في السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال 1958-1959، إذ تولدت ثورة في الريف ضد ما آلت إليه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، وأزمة المشاركة السياسية في تسيير شؤون المنطقة، كما أن هذه المرحلة عرفت تطاحن بين الرؤوس الثلاث التي خرجت بها الدولة بعد الاستقلال، نظام الحكم ممثل في النظام الملكي، وحزب الاستقلال، ثم جيش التحرير، فالخلافات بين الرؤوس الثلاث كان لها أثر في قيام انتفاضة الريف، لكن ما صاحبها من إجراءات ضد المنطقة ولد نوع من النفور والضغينة ضد السلطة، وظل تأثير تلك الأحداث إلى اليوم ممثلا في أصحاب النزعة الانفصالية في أحداث الحسيمة.

في ظل هذه المعطيات التي تؤكد على وجود تيارات وفئات متعددة، التقت مصالحها في قيام حراك ضد السلطة، من الواجب على المحلل أو الباحث توخي الحذر في إصدار الأحكام الجاهزة، فحراك الريف ليس انفصالي تماما، وليس بحراك اجتماعي خالص، فإذا وصفنا ما يقع بالفتنة انطلاقا من شعارات ذوي النزعة الانفصالية، أكيد سنجرم في حق الفئة التي رفعت المطالب الاجتماعية المشروعة، وإذا قلنا أن الحراك ذو مطالب اجتماعية خالصة، أكيد سنجد أنفسنا كمن يحاول “تغطية الشمس بالغربال”، فمقصلة التاريخ لا ترحم أحد، والأهداف تفهم من ثنايا الخطاب. في ظل هذا الوضع ما على السلطة سوى تحسين ظروف الساكنة، لقطع الطريق على كل محاولة مشبوهة تريد خدمة مصالحها الخاصة، وليس مصلحة أهل الريف والمغاربة.