وجهة نظر

ضريبة الفساد … !

السياسة المدنية هي تدبير المنزل أو المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحكمة ليحمل الجمهور على منهاج يكون فيه حفظ النوع وبقاؤه . عبد الرحمن ابن خلدون : 1332 – 1406 م

1 – لقد تعودنا في المغرب ، منذ الاستقلال ورغم التضحيات الجسام ، على حكــــومات تصريف الأعــــمال وتنفيذ ‘برامج’ أصحاب القرار، حكومات صورية للاستهلاك الخارجي، جردتها ‘القوانين والدساتير’ المحلية من الاستقلالية المطلوبة والمسؤولية الفعالة في اتخاذ القرارات الحاسمة في المنظــومة الســـياسية، مما عرض البلاد إلى مختلف أشكال الفساد والاستبداد ، والاستفراد بخيرات الوطن على حساب الشعب الذي اكتوى بالوعود والشعارات الكاذبة ، و القوانين و اللجان و المنتديات التي تظل على الدوام حبرا على ورق ، و تؤجل باستمرار عملية الانتقال إلى الحكامة الجيدة و التعاطي الراجح مع قضايا المجتمع المصيرية.

2 – ندرك أن الفساد في المغرب أضحى منظومة فولاذية تشكلت بهدوء وعبر عقود من السنين، وندرك أيضا أن ثقافة المحسوبية والامتيازات سمة بنيوية للنسق السياسي المغربي ، الذي يحتاج حقا إلى إصلاحات بالغة العمق ، غير أن هكذا قناعات لا تمنعنا من الإيمان بقابلية التغيير والإصلاح ، و مواجهة التغول الريعي الذي بإمكانه أن يشل شرايين البلاد و العباد ، و يعطل الوطن عن أي نقلة نوعية نحو التحول الديمقراطي المنشود ، و بلورة أحلام و تطلعات الشباب المشروعة نحو العدالة و الكرامة و الحرية .
وغير خاف أن مفهوم الريع لا يتجسد في المعطى الاقتصادي/ المالي بقدر ما يطال مختلف البنيات المجتمعية السياسية والثقافية والإعلامية والرياضية والدينية .. مما يستدعي تظافر الجهود والعمل الجماعي الصادق من أجل المساهمة الوطنية في تفكيك البنية التحتية للمنظومة الريعية المعيبة.

3 – لقد دقت ساعة الحقيقة لتقديم إجابات واضحة وصريحة على الأسئلة التي صدحت بها حناجر الشعب المغربي في مختلف الاستحقاقات النضالية ، لقد حان الوقت للعمل من أجل بناء تجربة ديمقراطية حديثة تقطع مع المسلكيات البائدة، وتضع حدا لغطرسة بعض الجهات ، و نزعاتها التحكمية في خيرات البلد ؛ فالوطن للجميع وليس لفئة متميزة ومفضلة . نحن لا نعتبر أن مجرد الكشف عن لوائح الفاسدين كما حدث في مستهل حكومة عبد الإله بنكيران كفيل بعلاج واقع مجتمع عليل ، إلا أنه قد يكون مدخلا من ضمن المداخل الأخرى المفيدة لوضع قطار التغيير على سكته المستقيمة ، و محاسبة كل من أجرم في حق الشعب.

والريع لا ينحصر في الاستفادة من رخص النقل مثلا ، بل إنه ثعبان متعدد الرؤوس ؛ فهناك المستفيدون من رخص بيع الخمور ورخص الصيد في أعالي البحار ورخص استغلال مقالع الرمل، إلى جانب المستفيدين من الإعفاءات الضريبية .. فالمطلوب الآن وقبل فوات الأوان، تثمين الخطوات الجادة و الاقتراحات الصادرة عن رجال السياسة و الفكر و الإعلام الذين نذروا أنفسهم لإحقاق الحق ، وعدم التقليل من جدواها أو وظيفتها ، و تحسيس المواطنين بخطورة اللحظة التاريخية التي يشهدها السياق الوطني والإقليمي والدولي، شريطة أن يتم الكشف عن كل أوكار الفاسدين دون قيد أو شرط، ومحترفي مراكمة الأموال بطرق غير مشروعة.

4 – إن الشعب المغربي لم يعد يقبل بأنصاف الحقائق و أجزاء الحلول ، و الاقتصار على الإشارة المحتشمة إلى الخارجين عن القانون ، و الضاربين عرض الحائط بكل المواثيق و القرارات الوطنية و الدولية .. بل إنه يدعو كل الأجهزة التنفيذية لاتخاذ إجراءات ملموسة للفساد للملموس، وتقديم لصوص مال الشعب للعدالة والمساءلة ، طبقا لمحتويات الدستور الداعي إلى إقامة ديمقراطية مواطنة وتشاركية ، ومبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة . فضلا عن ذلك يتوجب الأمر استرجاع ما يمكن استرجاعه من الخيرات المنهوبة وإعادتها إلى من يستحقها ، والبدء فورا في تنظيم حوار وطني مفتوح يتكفل فيه الخبراء وأصحاب الكفاءات والغيورون على الوطن ، بإنشاء مشاريع قوانين تنظم عمليات استغلال الرخص المعنية بالأمر، و التوظيف الأنجع للرأسمال غير المادي في مناخ من النزاهة والشفافية وتكافئ الفرص ، حيث لا فضل لمواطن على آخر إلا بالعمل المفيد للبلاد والعباد ، وعسى أن تكون انتفاضة الريف بداية لتقويض أعمدة الظلام، ونهاية للمقامرين بمصير شعب آمن بإقامة دولة مدنية عصرية ، تمتح فلسفتها و آليات اشتغالها من النظم الديمقراطية و المعايير و المواثيق المتعارف عليها دوليا .