وجهة نظر

رد شاف على وزير الأوقاف

ألقى وزير الأوقاف في افتتاح الدروس الحسنية الرمضان هذه السنة يوم الأحد 2 رمضان 1438 – 28 يونيو 2017درسا أثار الجدل في الاعلام وفي شبكات التواصل الاجتماعي نظرا للأطروحة الغريبة التي أدلى بها كهدف رئيسي وهي محاربة من سماهم بـ”المتربصين بالهوية الوطنية”متهما من خلالها قطاعا عريضا من المغاربة بالتكفيريين لأنهم خالفوا مذهبه في الصلاة والاعتقاد ، لكنهم حسبه “لا يستطيعون المجاهرة في البيئة المغربية بالتكفير”،واتهمهم انطلاقا من هذه المخالفات بالخطورة السياسية قائلا”إن هذه المخلفات ليست لها من أهمية دينية بقدر ما لها من خطورة سياسية”.
الخلفية الفكرية والإيديولوجية لدرس الوزير

لو لم أكن مغربيا ولم أعرف مسبقا السيد الوزيروكنت مجرد سامع لدرسه لظننت أنه شيعي متعصب تكفيري لأهل السنة،أو هو أحد آيات الله المتعصبين من العراق أو لبنان أو إيران يلقي بتحريضاته أمام آيات الله العظمى صاحب “الولاية العظمى”. وبالفعل هناك علاقة وتشابه بين السيد وزير الأوقاف والشيعة المتطرفين عقيدة وسلوكا؛ أهم ما يقوم به في وزارته هو محاربة السنةالمتعارف عليها قديما في المذهب المالكيوالانتصار للشطحات والعقائد الفاسدة من خلال برامج دعم منكرات عبادة القبور في مواسم عاشوراءالتي يسميها “المشاهد” في درسه مقتبسا المصطلح من الشيعة وغلاة الصوفية؛ سُميت بالمشاهد لأنهم يجتمعون عليها جماعات وجماعات يشاهدون طقوسها يرقصون ويغنون وفي بعضها يضربون رؤوسهم بالعصي والسكاكين ويشربون دماء جراحاتهم وغير ذلك من “المشاهد”؛ومن أشد منكراتتلك “المشاهد” الطواف على القبور والاستغاثة بها والاستعانة بها في قضاء الحوائج والاستشفاء (نموذج ضريح بويا عمر) وشرب دماء الذبائح عليها بعد ذبحها بطريقة همجية (ناقة مولاي إبراهيم)كما يفعل الشيعة الغلاة تماما في بلادهم. ومعلوم في مراجع التصوف الفلسفيالتي يستقي منها الوزير “المدد الإلهي” أن حضور تلك المشاهد إنما تُوصِل إلى الاتصال المباشر بالله ومشاهدة اللوح المحفوظ والحصول على العلم اللدني بدون واسطة التعلم العقلي أوالنقلي! وهي أمور مستنكرة بإجماع علماء المغرب المشهود لهم بعلم الفقه والأصول والحديث قديما وحديثا، وتستنكرها الطرق الصوفية السنيةالمشهود لها بالاعتدال وتتبرأ منها في كل أنحاء المغرب؛حاربها العلماء عبر الزمان ويقوم ولاة الأمور بالحد منها بالتوجيه والإرشاد كلما استفحلت بسبب انتشار الجهل والأمية،كما فعل السلطان مولاي سليمان في رسالته المشهورة، وكما يفعل غيره من العلماءحتى انحصرت في ظواهر شاذة غريبة،لا تجد سندا من العلماء والفقهاء المعتبرين، ولم يبق في عصرنا من تلك “المشاهد” إلا القليل في هذه الجهة أو تلكوممارسات بدعية نادرة هنا وهناك؛ بينما كانت عامة في كل قرية ومدينة وفي كل حي في عهد الشيعة الفاطميين قبل مجيئ دولة المرابطين وإدخالهم مذهب الإمام مالك إلى المغرب. جاء الاستبداد الحداثي بالسيد الوزير ليروج لتلك المنكراتوالخرافات كنموذج للإصلاح الديني ومحاربةالتطرف.
لقد أُغلِق مع الأسف قوسُالحضور العلمي والفكري الوازن في محيط إمارة المؤمنينفي هذا العهد بتولي التوفيق للوزارة مع سيطرة اللبراليين الجدد على دواليب الدولة، وفُتح الباب للدجل والتسيب والميوعة في الدين باسم الإصلاح الديني والمحاربة المزعومة للتطرف.

أهداف الدرس
الهدف الرئيسي من الدرسهو سياسي محض ذكره الوزير في ثنايا حديثه وهو الكشف عن خلفيات المتربصين بالهوية الوطنية قائلا “بيان حضور وعي العلماء بدورهم في حماية هذه الهوية مع استحضار خلفيات المتربصين بها”. ركز على الشق الأخير وهو الكشف عن المتربصين التكفيريين المعروفين بـ “المخالفة من جهة المذهب”.

ملاحظات في المنهج

في شرحه للهوية المغربية كما يتصورها وتحديد صفات المتربصين بها، انطلق الوزير من الحديث النبوي الشريف “يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”. هناك ملاحظات مهمة وأساسية على مستوى المنهج في ارتباطه بالمضمون تسقط أهمية الدرس وقيمته العلمية وتبين أن الدرس ليس له إعداد علمي أكاديمي بترتيباته ومضامينه ومفرداته.
1-لم يتحر الوزير الدقة في بناء درسه بدءا من المضامين وكذا المفردات والمعلومات التي أوردها في شرحه للهوية الوطنيةوصولاً إلى المراجع والمصادر التي لم تسعفه في أي شيء مما ذهب إليهإلا بتحريف توجهاتها وإخفاء مضامينها؛كما زج بأحداث تاريخيةوعدد من الآراء والمواقف من دون شواهد أو حقائق تدعمها، مع أنه من المفروض أن يستدل فيما ذهب إليه بنصوص للعلماء الذين ذكر استناده إليهم في شرح الحديث.
2 –مسألة منهجية أخرى مهمة وأساسية هي أنه لم يأت في درسه بفكرة علمية جديدة يمكن إضافتها للموضوع الذي تناوله إلا التحريض بعنف لفظي على المخالفين لمذهبه بتأويل الحديثوتحريفه عن مقصود جميع الشراح الذين استند إليهم (ابن عبد البر وأبو الوليد ابن رشد..).

3 – النزاهة الفكرية العاصمة من التحريف الغالي والانتحال المبطل والتأويل الجاهل
أدرك السيد الوزير أهمية هذا الشرط في البحث العلمي فحاول أن يوهم السامع أنه أخذه بعين الاعتبار عند حديثهعن الصفة المميزة للعلماء وهي “العدالة أي ما نسميه اليوم النزاهة الفكرية”؛ ومن غرائب تفسيره للأهواء المناقضة للنزاهة الفكرية قوله “لقد عُرف المفسدون في تاريخ الإسلام بأهل الأهواء أي الذين لهم انتماءات تزيغ بهم عن فهم الجمهور”وهو تفسير شاذ ومتطرف لم يقل به أحد من العلماء وكم من فتوى ورأي علمي عند السلف والخلف يخالف الجمهور ولا يتهمه أحد بـ “الفساد والزيغ والهوى” لمجرد المخالفة وإنما بعدم اتباع الدليل والتعصب للرأي بمؤشر اتباع هوى في نفسه. ومن غرائب السيد الوزير ومفارقات درسه أن ينفي صفة “عالم الأمة” عن المنتمي “لطائفة أو فرقة أو تيار أو حزب من الأحزاب” مع العلم أن الوزير نفسه ينتمي إلى طائفة صوفية، وبذلك يشهد على نفسه بالزيغ والفساد واتباع الهوى كما يشهد عليه تعصبه وتطرفه تجاه المخالفين.

4 -يناقض نفسه عندما استدل على فقه الاعتدال بأحد علماء القرن التاسع عشر وهو محمد بن يوسف الذي كان “قصده بيان مرحومية الأمة ووجوب الرفق بأهلها… وقرر أن كل مختلف فيه لا إنكار فيه”؛ بينما سيادة الوزير لم يرحم مخالفيه ولم يرفق بهم ورماهم بالعمل التكفيري والتطرف بلا دليل إلا بأعمال فقهية اعترف بكونها “مخالفات جزئية”؛ ويبدو أن سيادة الوزير يجهل أن ما قرره الفقيه محمد بن يوسف ليس رأيا من عنده وإنما هو قاعدة من القواعد المشهورة في الفقه المالكي ترد في كتب القواعد الفقهيةفي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبصيغةأن “المختلَف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر”؛ وهي قاعدة من أهم القواعد التي يحقق بها الذهب المالكي التعايش مع جميع المذاهب وينئاهعن الصراع المذهبي والطائفي؛لو اطلع السيد الوزير قبل القاء الدرس على مسألتين اثنتين من سيرة الإمام مالك لكفانا شر القتال بتعصبه، إحداهما رفضه رفضا قاطعا فرض مذهبه وموطئه على جميع الأئمة حين عرض عليه الخليفة العباسي ذلك؛ والثانية هي استحسانه العمل برأي المخالف في بعض مواطن الخلاف، من باب الورع والخروج من الخلاف؛لكن السيد الوزير، لعدم تخصصه في المجال، لم يدرك هذه القاعد ولا فهم مغزاها في التسامح مع المخالف؛ وإلا لما حاول فرض مذهبه ولما حرض السلطة على المخالفات ولما اعتبر العمل بها تكفيريا.

5 – لقد تبين من خلال مفردات عرضه سيطرة الانطباعوالانفعال والتحزب والتعصب لطائفته الصوفية التي اشتهر بها؛ ذلك انهلم يستطع إظهارنصوص الشراح الذين استند إليهم واكتفى فقط تدليسا للسامع بالإشارة إلى أسمائهم كابن عبد البر المالكي شيخ الحفاظ وابي الوليد ابن رشد الجد المرجع والإمام الأكبر للمالكية في المغرب وأفريقيا؛ لقدتجنب إيراد أمثلة من شروحاتهملأنهميناصرون السنة ويخالفون مذهبهفي جميع الجزئيات التي رمى بها غيره بالتكفيروالتطرف والإفساد في الدين.ومن التحريف هنا ذكره يوسف بن تاشفين وسؤاله لأبي الوليد ابن رشد (الجدت 520 هـ)لإيهام السامع أن السؤال يتعلق بمذهب الوزير بينما هو بدقة يتعلق بالحكم على من يكفر أهل السنة بسبب الخلاف المذهبي، ولو أطلع الناس بالجواب لوجدوه حجة على الوزير ومذهبه وليست له؛فمن التضليل إيراد أسمائهم لإيهام السامعين أنهم يذهبون مذهبه. لو اطلعنا مثلا على كتاب التمهيد في شرح موطأ الإمام مالك للحافظ المالكي المغربي ابن عبد البر لراينا أن كل جزئيات الصلاة التي استنكرها الوزير هي مذهب الحافظ بأدلة من السنة. وقس على ذلك بالنسبة للعلماء الآخرين الذين حاول التستر وراءهم لتضليل الناس وتضليل الملك والمحيطين به.

أكتفي بمثالين لمزيد من التوضيح: الأول في العقيدة حيث يدافع الوزير عن القبورية “المشاهد” بالتضليل والتلبيس على المواطنين وتصوير ذلك من عقيدة علماء المذهب المالكي، وأن إنكارها مذهب مستورد من السلفيين المعاصرين. سئل الإمام المالكي الأكبر ابن رشد الجد عن البناء على القبور فقال: “هو من بِدع أهل الطَّول… وهو مما لا اختلاف فيه”(البيان والتحصيل، 1988: ص 220 ج2)؛وقال عالم الأصول المالكي المشهور الونشريسي (ت 914 هـ) في كتابه المعيار المعرب (طبعة وزارة الأوقاف المغربية 1981) “أفتىابن رشدبوجوبهدممابنيفيمقابرالمسلمينمنالسقائفوالقبب” (ج1 ص 318)، ونقل عن ابن عبد الحكم فتواه “لا تنفذ وصية بالبناء على القبر” (الونشريسي ج1 ص 318) ؛ وجاء فيالمدونةالمعتمدة عند جميع علماء المغرب:”قالمالك:أكرهتجصيصالقبور واﻟﺒﻨﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ… ﻗﺎل ﺳﺤﻨﻮن:ﻓﻬﺬه آﺛﺎر ﻓﻲ ﺗﺴﻮﻳﺘﻬﺎ ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻤﻦ ﻳﺮﻳﺪ أن ﻳﺒﻨﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ” (170 ج1) وذهب القاضي عياض المراكشي (ت 544 هـ) إلى منع البناء على القبور (251/2) وإلى تسويتها في “باب الأمر بتسوية القبر… وقد جاء عن عمر أنه هدمها” (عياض: إكمال المعْلم بفوائد مسلم، 1998 ج3، 438). وكذلك كانت فتوي جميع العلماء المالكيين الكبار من أهل علم الحديث وعلم الأصول وعلم الفقه كابن عبد البر في التمهيد والعدوي في حاشيته وخليل في مختصره والدسوقي في حاشيته وأحمد زروق فيشرح الرسالة وكل القدامى، وعلى ذلك كان المغاربة ولم تنتشر ظاهرة القباب إلا في عهد السيبة ثم الاستعمار الفرنسي وتفشي الأمية.

المثال الثاني هووضع اليد اليمنى على اليسرى؛ اعتبره إمام المالكية القاضي عياض في إكمال المعلم..مذهب جمهور العلماء ” ذهب جمهور العلماء وأئمة الفتوى إلى أخذ الشمال باليمين في الصلاة، وأنه من سننها وتمام وخشوعها… وتأول بعض شيوخنا أن كراهية مالك له إنما هو لمن فعله عن طريق الاعتماد… وأما من فعله تسننا ولغير الاعتماد فلا يكرهه” (ج 2 ص 291)؛ وهو نفسه قول شيخ المالكية ابن الحاج في حاشيته على “ميارة الصغير”،وقول من قبله كابن عبد البر وابن العربي وابن رشد وغيرهم كثر. وكذلك بالنسبة للسنن الأخرى، فالاختلاف فيها اختلاف معتبر، وليست ميزانافي اتباع أو عدم اتباعمذهب الإمام مالك كما يظن الوزير.
6– حاول الوزير خداع الملك وجميع المستمعين والتغرير بهم من خلال عبارات وجمل

وتعميمات مضللة، واستعمال أسلوب يوهم أن الجزئيات التي بسببها كفر غالبية المغاربة لا خلاف حولها في المذهبكقوله بعبارة مضللة ومنافية للواقع: “تدل الوثائق البصرية الراجعة إلى العقود القليلة الماضية أن هذه المخالفات لم يكن لها وجود في حياة المغاربةفقد طرأت فيمايشبه عولمة داخل الإسلام لا توقر الاختيارات السليمة المبنية عليها التوابث الوطنية”؛ في حين أن الخلاف موجود ومسموح به في المذهبقديما وحديثا، والعمل بها عند عدد من المغاربة ثابت ومقرر.

7–ومنأخطر أساليبهالتدليسية أن يوهم الشعب المغربي وكل السامعين لدرسه أو يوحي بأن الملك منحاز الى مذهبه وموقفه الشاذ؛ من شأن هذا التدليس أن يورط الملك في الانتصار لهذه الرؤية الضيقة للإسلامالقائمة على تجزيئات وتسميات وتصنيفات بدل الانتصار للإسلامالجامع، والوطنية الحاضنة لجميع المتدينين بمقتضى الدستور وبمقتضى التسامح الديني حيث لا إكراه في الدين فكيف يكون الاكراه في الفقه والمذهب .
وأخيرا، أم المزالق المنهجية هي عدم قيامه بالرصد والتحليل لآراء العلماء مؤيدين ومخالفين للأطروحةعلى غرار البحوث العلمية ليكون استنتاجه مبنيا على المنهج العلمي والنظر بالدليل.

تلك أمثلةمن المزالق المنهجية لئلا يطول بنا المقال؛وهي مزالق تجعل الدرس مجرد حديث فارغفي المنظور الأكاديمي، لا يسمن ولا يغني في البحث العلمي؛وهو يعلم علم اليقينأن الدروس الحسنية يتابعها العلماء والمفكرون بالتحليل والدراسة،ويشترط في أي درس من دروسها أن تطبعها الصبغة الأكاديمية وأن تكون جزءا من عملية البحث العلمي.

الخلاصة العامة أن العرض الذي ألقاه السيد الوزير أمام الملك هو خطبة التحريض، وإن جاز أن نسميه درسا فهو درس الفتة في الدين والوطن الذي جاء بعد الخطبة الفتنة في الحسيمة وفتنة عزل عدد من الخطباء بسبب تطرقهم في الخطب لبعض مظاهر الفساد المتعلقة بشخصيات نافذة أو لأنهم لا ينتمون لطائفته. يبدو من خلال أطروحته أنه فتح بقصد أو بغير قصد جبهة جديدة وعريضةفي مجال حرية التدين؛ لكنه لم يحسب لها حسابا دقيقا في هذه الظروف التي يعيشها المغرب والتي يطالب فيها المغاربة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.من شأن استمرار الوزير في مهامه التحريفية أن يؤجج الأوضاع فيالوطن ومساجده؛ بينما الأمة في أمس الحاجة اليوم إلىمن يقرب ويسدد ويعمل على جمع كلمتها، من أجل مواجهة تحديات خطيرة تتجاوز الخلافات الفقهية والنزوعات الطائفية.