وجهة نظر

التعليم.. مسيرة مشوار استثماري واعد في البشر وللبشر

في الذكرى الاربعين لتأسيس الاتحاد العالمى للمدارس العربية الإسلامية

الصيف فصل راحة و وقت استجمام لكل التلاميذ و الطلبة و المدرسين، إلا انه بالنسبة لبعض المؤسسات التربوية و المدارس الحرة التي تحضر البرامج و المناهج و الكتب والاقراص المدمجة لا تعرف للراحة سبيلا، إضافة إلى تنقلات المشرفين بين المدن في ورشات التكوين و التأهيل و الاشراف .. كل ذلك، لأن أدبيات ودراسات وبحوث “الاقتصاد” بمفهومه الواسع، تؤكد على أن التعليم “تجارة رابحة على طول العمر”، كما يقول العلامة الدكتور توفيق الشاوي رحمه الله و هومن مؤسسي البنك الإسلامي للتنمية، و بنك فيصل الإسلامي، وصاحب ما يربو عن 30 مؤلفا، منها سلسة كتب عن الاقتصاد الإسلامي

التعليم والتنمية وجهان لعملة واحدة، محورهما وغايتهما الإنسان

لا لشيء إلا لأن التعليم بالنسبة لأمة إقرأ – في نظر “أصحاب اتحاد المدارس”- هو حجر الأساس وهو محور التنمية وأن نجاح أي عملية تنموية يعتمد في الأساس على نجاح النظام التعليمي في هذا المجتمع أو ذاك، فالتعليم مفتاح التقدم وأداة النهضة ومصدر القوة في المجتمعات. ويعتبر التعليم والتنمية وجهين لعملة واحدة فمحورهما الإنسان وغايتهما بناء الإنسان وتنمية قدراته وطاقاته من أجل تحقيق تنمية مستدامة شاملة تنهض بالفرد والمجتمع إلى مقام الدول المتقدمة. ويعدّ التعليم من أهم روافد التنمية وعناصرها الأساسية، فالمجتمع الذي يحسن تعليم وتأهيل أبنائه ويستثمر في الموارد البشرية ويؤهلها للإشراف على عملية التنمية وإدارتها، جدير بالتقديس و الاحترام، إذ لا تنمية من دون قوى بشرية متعلمة ومؤهلة. والنظام التعليمي هو المحرك الاستراتيجي والمحوري والأساسي في عملية التنمية وتأهيل وتكوين الكوادر في مختلف التخصصات والمجالات قصد النهوض بالدولة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا…إلخ

مدارس “المنارات” استثمار في البشر وللبشر

و مادام محفز بعث مدارس “المنارات” العربية، تأكيد مؤسسيها على “أن عملية التعليم والتعلم والتكوين والتأهيل هي استثمار في البشر وللبشر ” وهذه المقولة هي عين استراتيجية الثنائي المؤسس لها، كل من الدكتور توفيق الشاوي (1918/2009) والأمير محمد الفيصل (1937/2017)، لأن الاستثمار في رأس المال البشرى هو أحد أكثر الوسائل فعالية للحد من الفقر والجهل والتخلف، والتاريخ يذكّرنا دائما بأن الأمم الرائدة في العالم هي تلك الدول التي استثمرت في الإنسان وفي التربية والتعليم والتدريب والتطوير. لمالا وحتى أكبر الهيئات الدولية المهتمة بالتربية كمنظمتي اليونسكو والإيسيسكو ، تقر في أدبياتها أن التعليم هو أساس التنمية. كما أنه أداة رئيسية لتغيير القيم والمواقف والمهارات والسلوكيات وأنماط الحياة بما يكفل انسجامها مع التنمية المستدامة في داخل البلدان على اختلاف مكوناتها ولغاتها وتصوراتها.

أربعين سنة من الجهد و التضحية و العطاء في ورش عالم الأفكار

بهذه النظرة التفاؤلية الواعدة، جهد و تضحية و عطاء، أسس الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية، على بركة الله بتاريخ 26 مارس/آذار سنة 1976م، وقد تدارس المؤسسون أمر قيام اتحاد عالمى لمدارس عربية إسلامية دولية، يلبى حاجة أبناء المسلمين إلى تعليم عربي إسلامي نموذجي رائد يقوم على نظام موحد من خلال المدارس العربية الإسلامية القائمة وباستكمال حلقاتها بإنشاء مدارس عربية إسلامية في مختلف بلاد العالم تحقق أعلى مستويات التربية والتعليم في اطار إسلامي خالص، وتعنى بتعليم لغة القرآن كمادة أساسية لأبناء المسلمين وطلاب المعرفة في جميع أنحاء الأرض على هدى توجيه الإسلام وثقافته.. قصد سد الثغرة وصد هجمة الثقافات والأفكار المعادية للإسلام وأمته من خلال المدارس الأجنبية التي تستقطب بعض النابهين والقادرين من أبناء الأمة وتغريهم بالإمكانات الفنية التي توفرها لهم، بقصد عزلهم عن دينهم وتراث أمتهم.. كما تسعى مدارس الإتحاد أيضا لوضع حد لحاجات أبناء المهاجرين والدبلوماسيين وأبناء الجاليات الإسلامية في الغرب

الدكتور أحمد فريد مصطفى، خير خلف لخير سلف
و قصد الاقتراب من هذه المعاني النبيلة والسامية لرسالة التربية والتعليم، وبمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيسه، كان لنا هذا اللقاء الودي مع رئيس الاتحاد أستاذنا الكبير الدكتور أحمد فريد مصطفى-حفظه الله-، الذي كان كاتب هذه السطور قد تعرف عليه، في نهاية تسعينيات القرن الماضي في حياة الرئيس المؤسس الدكتور توفيق الشاوي رحمه الله، أذكر أني نزلت ضيفا مع وزير الصحة الافغاني عندهم في استراحة مدارس المنارات، بالمدينة المنورة في موسم حج عام 1997 أو 1999؟
رئيس الاتحاد من مواليد عام 1939م، درس الهندسة بجامعة الإسكندرية حاصل على الماجستير من جامعة MITالأمريكية العريقة ثم الدكتوراه من الجامعة الكاثوليكية الأمريكية في واشنطن. أنشأ أول قسم للعمارة في جامعة الرياض بالسعودية ثم أسس كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك فيصل بالدمام وحالياً له مكتب إستشاري بالمدينة المنورة حيث يقوم بتصميم المباني والتخطيط المعماري والإقليمي، بالإضافة لاهتمامه بالعمل الخيري فهو حاليا أيضا رئيس الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية، خلفا لكل من الأمير محمـد الفيصل و الدكتور توفيق الشاوي -رحمهما الله- و الاتحاد يشتغل حاليا على بركة الله وفق خمسة مجالات رئيسية كما عددها لنا الدكتور أحمد، وهي:
– طباعة ونشر كتب اللغة العربية لغير الناطقين بها .

– عمل و برمجة و تخطيط مناهج لمدارس جديدة.

– إقامة دورات لتدريب معلمي اللغة العربية والثقافة الإسلامية .

– تصميم وإشراف على مباني المدارس والجامعات في الدول الإسلامية .

– الاشتراك في مجالس الامتحانات ومهمته الإشراف على اللغة العربية ونشرها في العالم أسوة بالمعهد البريطاني (بريتيش كانسيل).

شخصيات استوقفتني: صاحب” نصف قرن من العمل الاسمي” و صاحب”بنك دبي الإسلامي”
و مادام لكل عصر رجاله، ولكل عصر أفعاله، والعصر بالتالي ليس هو الزمن .. إنه الرجال، وإنه الأفعال.. فالعصر – كما يقول المثل- عبارة عن “مضغة في فم فكه الأعلى من الرجال، و فكه الأسفل من الأفعال”، هذه البديهيات جرتنا إلى الاستفسار عن الشخصيات التي لازمها وتأثر بها الدكتور أحمد في مسيرته فبدأ بذكر صاحب كتاب”مذكرات، نصف قرن من العمل الإسلامي”، المرحوم د. توفيق الشاوي، الذي يعتبر من الشخصيات النادرة بالنسبة لجيل الدكتور أحمد فريد، حيث يقول عنه ” الدكتور توفيق وهب نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين وقام بالاشتراك في إنشاء البنوك الإسلامية والمدارس الإسلامية واتحاد المدارس هذا، وقد نجح في جعله منظمة من منظمات المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حالياً)”، كما لا ننسى أن الدكتور توفيق اشتغل في كل ربوع العالم الإسلامي وكان رحمه الله لا يكل ولا يمل لخدمة القضية الإسلامية حيث عمل في المغرب ثم في الجزائر في ستينات القرن الماضي ثم في السعودية ومصر و كتب عن ذلك خلاصة فكره في مؤلفات تربو منها خاصة كتابه النفيس المشهور” مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي”، الذي شرف كاتب هذه السطور بالاطلاع على مسودته الأولى قبل نشرها لمراجعتها رفقة بعض الاخوة الكتاب الثقات في نهاية تسعينيات القرن الماضي.

ومن الشخصيات العربية التي أعجب بمشاريعها رئيس الاتحاد، الشيخ العصامي سعيد لوتاه مؤسس وصاحب بنك دبي الاسلامي الذي أدرك مبكرا أن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في التعليم وطول مدته على اللزوم، فقام بإنشاء لجان لتخفيض مدة سنوات التعليم الأساسي، وبعث تعليم فني موازي له، وأنشأ “المدرسة الإسلامية للتربية والتعليم” في دبي وحرص كذلك على تخفيض مدة التعليم الجامعي وطلب من الدكتور أحمد فريد رفقة الدكتور جميل أكبر، بمراجعة التعليم الجامعي بالذات في مجال الهندسة، وبالتأكيد فإن هذا العمل استفادت منه دول في أقصر مدة ممكنة مثل الدول الفقيرة كأفغانستان أو الصومال التي مزقتها الحروب و شتت شملها.

التصميم المعماري أو التخطيطي يجب أن يهدف أساسا لخدمة الانسانية

أما في تخصصه، يرى الدكتور أحمد فريد، أن التصميم المعماري أو التخطيطي يجب أن يهدف أساسا لخدمة الانسانية بالدرجة الأولى، واضعا في الاعتبار المؤثرات البيئية من مناخ و مواد، ومتطلبات الفرد والمجتمع في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والدينية.

أما عن حرصه على تعليم لغة الوحي الالهي لغير الناطقين بها والدعوة في العالم الاسلامي عموما في ادغال افريقيا وفي أفغانستان خصوصا، بقول ضيفنا، أنه تشرف بإنشاء كلية العمران والهندسة في بيشاور للمهاجرين الأفغان والتي شملت الأقسام الأربعة الأساسية: قسم العمارة وقسم المدني وقسم الكهرباء وقسم الميكانيكا، وقد تخرج من هذه الجامعة مهندسون يقومون حالياً بالتعمير في أفغانستان، والحمد لله.

و من أهم الإنجازاته أيضا إنشاء مدارس للبنات في جدة بداية بـ 30 طالبة، ثم أنشأت فروع لها في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة والدمام والخُبَر كلها بالمملكة، وحالياً فيها حوالي 1500 طالب وطالبة. بعدها فتحت مدارس”منارة دكا “في بنجلاديش ثم “منارة القاهرة” في مصر، والمشاريع متواصلة بتوفيق من الله.

و تمتاز مدارس المنارات على غيرها من المدارس الحكومية بالتركيز على تدريس المواد الدراسية المعتمدة من الحكومة تدريساً جيداً ثم يضاف إليها مناهج أخرى مثل المدرسة القرآنية وتعليم الطلاب المهن والحرف مثل النجارة والحدادة وإصلاح السيارات وكذا برامج رياضية كالسباحة وركوب الخيل. وقد أقيمت دورات لتدريب المعلمين في الفلبين وتشاد وجنوب السودان وألبانيا وغيرها.

مع الأسف، بعض الحكومات تسعى لاختزال التاريخ و المواد الدينية من المناهج

وكخبير تربوي يرى الدكتور أحمد، أن المُدَرس هو أهم عنصر في العملية التربوية، قائلا “من الضروري اختيار العناصر المؤهلة تأهيلاً جيداً ، تكون حريصة على دينها وعلى بث روح حب التعلم والتفكر وليس إجترار معلومات”.. أما عن المناهج فهو يقر أنها تكون عادة موضوعة من قبل الحكومات متأسفا على أن بعضهم يسعى الآن لاختزال التاريخ الإسلامي والأمور الفقهية والدينية من المناهج، مما يخل بمبادئ كثيرة، قائلا “ندعو الله ألا يوفقهم” لخطورتها على الناشئة حسب قوله.

هذا غيض من فيض، من مسيرة عطاء بدأت بخطوات محلية، و ها هي اليوم في سن الرشد والعطاء الدولي .. نعم 40سنة من عمر مؤسسة تربوية خيرية فاعلة، نسأل الله التوفيق والسداد لها و للقائمين عليها خدمة للإسلام والمسلمين، والله يجازي مسعاهم النبيل.