منوعات

القباج يكتب: ميركل وأبو حفص والإمام البخاري

عاد مرة أخرى الأخ أبو حفص عبد الوهاب رفيقي ليقذف بشكوكه في وجه النصوص الشرعية؛ بطريقة سمجة لا تخضع لمنهجية علمية ولا لاعتبارات مرعية ..

هذه المرة حاول أن يثير الشكوك حول حديث: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة“.

زاعما بأن نجاح ميركل في الانتخابات التشريعية الألمانية يعد واقعا “يتناقض تماما مع مضامين نصوص الحديث”!

ثم تساءل: “فهل الحديث لم يقله النبي عليه السلام علما أنه في البخاري؟”!!

وبعيدا عن هذا الأسلوب غير المسؤول ولا الواعي؛ أود أن أؤكد بأن الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله معلمة علمية تراثية وضعها صاحبها وفق مناهج علمية ومعرفية مرتفعة جدا عن المستوى العلمي الذي عرفته عن أبي حفص من خلال عدد من المداخلات التي هاجم فيها بعض الأحكام والنصوص الشرعية؛ آخرها كلامه السطحي هذا عن ذلكم الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في “باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر”؛ قال:

حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عوف، عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس، قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».

ورواه أيضا في “باب الفتنة التي تموج كموج البحر”.

وقد جزم أبو حفص بأن معنى الحديث يتنافى مع الواقع الذي ثبت فيه تولي بعض النساء لأنواع من الولايات السياسية ..

وهو مخطئ في ذلك لسبب بسيط:

وهو أنه تجاهل وقفز على أدوات منهجية يلزم تفعيلها لاستنباط المعنى من النص الشرعي؛ ومنها ما تقرر في علم أصول الفقه في مباحث العموم والخصوص؛ التي ترشد الباحث والمتفقه في النص النبوي إلى أن يحرر دلالته هل هي من العام المطلق؟

أم من العام المخصوص؟

أم من العام الذي أريد به الخصوص؟

وهي مسائل معروفة في علم الأصول؛ ومما قاله فيها أول مصنف في هذا العلم؛ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الرسالة:

“باب: بيان ما نزل من الكتاب عامَّ الظاهر، يراد به كلِّه الخاصُّ.

قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [آل عمران] .

قال “الشافعي”: فإذْ كان مَن مع رسول الله ناسً، غيرَ مَن جمَعَ لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسً غيرَ مَن جمُع لهم، وغيرَ من معه ممن جمُع عليه معه، وكان الجامعون لهم ناساً، فالدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعضُ الناس دون بعض.

والعلم يحيط أنْ من لم يَجمع لهم الناسُ كلهم، ولم يُخبرهم الناسُ كلهم، ولم يكونوا هم الناسَ كلَّهم.

ولكنه لما كان اسم الناس يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس، وعلى مَن بين جمعهم وثلاثةٍ منهم، كان صحيحاً في لسان العرب أن يقال: ” الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ (173) ” [آل عمران] ، وإنما الذين قال لهم ذلك أربعةُ نفر ” إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ (173) ” [آل عمران] ، يعنون المنصرفين عن أُحُدٍ.

وإنما هم جماعة غيرُ كثير من الناس، الجامعون منهم، غيرُ المجموع لهم، والمخبرون للمجموع لهم غيرُ الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غيرُ الجامعين، ولا المجموع لهم ولا المخبرين”اهـ. كلام الشافعي.

الذي بين بأن النص الشرعي؛ قد يكون ظاهره عاما لكن معناه خاص؛ وفي ذلك أمثلة أخرى في الكتاب والسنة؛ ومنها حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ولو فكر الأخ رفيقي قليلا لعلم بأن القرآن الكريم دل بوضوح على أن هذا الحديث لفظه عام أريد به الخصوص؛ وأعني بذلك: ما ذكره الله تعالى عن بلقيس ملكة سبأ؛ وثناءه على مواقفها الحكيمة وهي تسوس قومها ..

فهذا النص القرآني أثبت نوعا من الفلاح لقوم ولوا أمرهم امرأة؛ مما يفرض على المتفقه والباحث أن يستبعد المعنى العام الذي فهمه رفيقي وغيره.

فما هو المقصود من الحديث؟

هل المقصود كل امرأة وكل قوم؟

أو المقصود المرأة التي ورد بسببها الحديث؟

وهي (بوران) بنت الكسرى (شيرويه)، وقومها الذين ثبت فعلا أنهم لم يفلحوا وأن دولتهم زالت بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم حين قال: “اللهم مزق ملك كسرى“.

ولو فرضنا صحة رأي من قال بأن الحديث عام في كل قوم وفي كل امرأة؛ فلابد أن نتساءل هنا: ما هو المراد بولاية الأمر في الحديث؟

هل تشمل كل أنواع الحكم؟

أم أنها مخصوصة بنوع الحكم الذي كان سائدا والذي كان يجعل حكم الحاكم فرديا ومطلقا تكون له فيه السلطة الكاملة في اتخاذ القرارات في كل المجالات وفي الأمر بتنفيذها، كما أن الأعراف كانت تلزمه بتقدم الجيش في الحروب ..

ويكون عنده أعوان من مستشارين ووزراء ليست لديهم آلية ملزمة للانتقاد والاعتراض؛ كما هو حال الخلفاء الذين تعاقبوا على الدول الإسلامية، بل وعلى حكم الدول عند أمم أخرى؛ والذين أثبت التاريخ فعلا أنهم لم يكونوا يولون أمورهم النساء ..

هذه حقيقة تاريخية: تولي المرأة لهذا النوع من الحكم كان نادرا جدا؛ ولا أذكر في تاريخ الإسلام إلا محاولة شجرة الدر التي لم تفلح في الاستمرار في الحكم، بل نصبها المماليك ملكة وعزلوها في فترة وجيزة جدا ..

فهذا النوع من الحكم صعب جدا، ولا يمكن قياسه على نوع الحكم الذي تمارسه اليوم مثلا المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والذي تكون فيه مشاركة وصاحبة امتياز في اتخاد القرار؛ لكنها تعمل في إطار مؤسسي فيه من الخبراء وأصحاب السلطات والموظفين ما يرفع عنها كثيرا من الصعوبات والمشاق ويجعلها قادرة على إنجاح تجربتها في الحكم ..

فأنا لا أعتقد أن هذا النوع من الولاية يدخل في معنى الحديث أصلا؛ بل يدخل فيه المعنى السائد آنذاك للحكم وولاية الأمر.

ومعلوم أن بعض الفقهاء المالكية وغيرهم خصصوا الحديث بالولاية العامة الكبرى؛ ولم يروا أنه يشمل عموم تولي المرأة للمناصب السياسية ..

ومما يدل على تفاوت الفهم الفقهي في تقدير عموم وخصوص حديث أبي بكرة:

استدلال أبي بكرة بالحديث في رفضه خروج عائشة للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه؛ فإنها طلبت من أبي بكرة الخروج معها فقال لها: “إنك لأم وإن حقك لعظيم ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لن يفلح قوم تملكهم امرأة“.

فعائشة رضي الله عنها لم تفهم من الحديث العموم الذي فهمه أبو بكرة؛ ولذلك تولت هذا الأمر السياسي؛ ألا وهو معارضة الرأي السياسي لعلي رضي الله عنه والسعي لتولي الحكم لإحقاق ما تراه حقا وعدلا ..

ولو فهمت عائشة من الحديث أنه دليل على حرمة تولي أي امرأة لأي عمل سياسي؛ لرجعت ولم تستمر في معارضتها التي ترتبت عليها وقعة الجمل..

مع التذكير بأنه كان معها في خروجها هذا عدد من فقهاء الصحابة؛ في مقدمتهم طلحة والزبير رضي الله عنهما المبشران بالجنة؛

قال علي رضي الله عنه: “أتدرون بمن بليت؟ أطوع الناس في الناس: عائشة، وأشد الناس: الزبير، وأدهى الناس: طلحة، وأيسر الناس: يعلى بن أمية”.

بل أخرج الطبري بسند صحيح -كما قال الحافظ[1]– عن علقمة أن الأشتر قال له: “وكان الزبير هو الذي حرك عائشة على الخروج”.

وموقفهم هذا دليل على أن الحديث ليس على عمومه ..

قال العلامة الفقيه محمد المهدي الحجوي معلقا على حديث أبي بكرة وموقف عائشة:

“وفي هذا ما يشعر بمقصدها من قيادة جيش المعارضة ويشعر بما كانت تنوي وراء ذلك من تولي الخلافة ولم يساعدها عليه أبو بكرة[2].

والحديث روي بلفظ: “ولوا أمرهم امرأة“.

وروي بلفظ: “تملكهم امرأة“[3].

وقد اختار أبو بكرة “تملكهم” لردها عن فعلها وما تنويه.

ولو انتصر صفها في الوقعة لكان ربما الأمر خلاف ما وقع عليه الإجماع.

وقد ندمت على هذا الأمر كما قيل.

وقد أقدمت عليه باجتهاد منها وهي من هي علما واجتهادا.

واجتهاد الصحابة أصل من أصول الدين عند كثير من أئمة الإسلام المتبعين.

وقد اجتهدوا على عهده صلى الله عليه وسلم وأقرهم على ذلك.

وأمر باتباع سنتهم والاقتداء بهم من بعده.

والحديث الذي روي عنها في كون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبرها بأنها ستنبحها كلاب الحوأب مما يدل على إباحة ما فعلت؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبرها بالمستقبل وبعدم نجاحها فيما تقدم عليه.

ولم ينهها عن ذلك ولو كان غير جائز لقال لها: “لا تفعلي فإن ذلك ممنوع عليك وأنك إذا فعلت ذلك فإنك آثمة”اهـ كلام الحجوي.

وقال أيضا عن عائشة:

“وهي من هي علما واجتهادا ومكانة في المجتمع الإسلام.

فقد قادت جيش المعارضة للخليفة العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطالبت بدم عثمان رضي الله عنه.

ولم تكن مجرد مطالبة بدم عثمان كما يدعي البعض؛ بل دخلت في أعظم معمعة سياسية حدثت إلى ذلك العهد منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقادت الجيش ووقفت في المعركة حتى كادت تسقط وسطها وسميت الوقعة باسم جملها.

وجمعت الناس حولها من كبار الصحابة ومات بين يديها الكثير”اهـ.

مرة أخرى أجدد النصيحة للأخ أبي حفص بأن يبتعد عن هذا المجال الذي لم يفلح فيه؛ بل قل علمه وزل فهمه وورط نفسه في التطاول على عمالقة العلم والذكاء وعباقرة الرواية والفقه الذين يستهجن الباحث مشاهدة أمثال هذا الرجل يتكلم عنهم وعن مجهوداتهم بعلم عليل وفهم كليل ..

فمقام الإمام البخاري في العلم والفهم ومجهوده الجبار في صحيحه؛ أعلى بكثير من أن ينتقدها أبو حفص بهذه السطحية والسذاجة ..

وشأن أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر بكثير من أن يتم التعامل معها بهذه الطريقة السمجة!