وجهة نظر

“ربط المسؤولية بالمحاسبة”: من سيحاسب من؟!

شكلت الخطب الملكية الأخيرة التي خص الملك محمد السادس جزءا منها للحديث عن اختلالات الإدارة العمومية، والدعوة لضرورة النهوض بها، مع إعمال المبدأ الدستوري” ربط المسؤولية بالمحاسبة” لمواجهة مُسَبِّبات الترهل والاختلال الذي تعرفه؛ أحد أهم المراجع المؤسِّسة للخرجات التي قام بها مسؤولون مركزيون وإداريون بعدة قطاعات حكومية؛ بدءا برئاسة الحكومة، مرورا بالإدارات المركزية فالجهوية، والإقليمية، لمختلف القطاعات الحكومية. إذ أحس الجميع بخطورة الوضعية، كما بجدية الإشارات الملكية، التي لم تقف عند حدود التقريع والشجب للحالة المتداعية التي تعرفها الإدارة العمومية في علاقتها بالمرتفقات والمرتفقين من أبناء الشعب؛ بل تعدى تقريع الملك، وانتقاده للطريقة التي تدبر بها انتظارات المواطنين، إلى إعمال مشرط المحاسبة (فيما سمي بالزلزال السياسي) في حق مجموعة من المسؤولين الكبار (وزراء) ممن ثبت في حقهم الإخلال بالواجب، أو الاستهتار بالمسؤولية.

فلم يجد بقية المسؤولين الكبار، وعلى رأسهم السيد رئيس الحكومة، الذي حول لقاءاته مع أعضاء الحكومة إلى مناسبات للتأكيد، وإعادة التأكيد، على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، في تدبير ملفات المواطنين والمواطنات، وعدم التساهل في الإخلال بالمسؤوليات تحت طائلة المحاسبة التي لن تحابي أحدا،… إلا أن ينزلوا، داخل قطاعاتهم المختلفة، بكل ثقلهم الصارم، وخطابهم المُشْبع بعبارات المسؤولية، والحكامة، والمحاسبة،.. فضلا عن الدعوة إلى افتحاص وتتبع المشاريع، مع تشكيل لجان لتقييم الأداءات،… كل هذا في محاولة لإبراء الذمة، ورمي الكرة إلى “ملاعب” الآخرين، رغم المسؤولية الثابتة في حقهم على هذه “الملاعب” !. إذ أضحى هَمُّ كل مسؤول هو سحب مسؤولية التبليغ و”الإعذار” مِن على عاتقه، وتحميلها مرؤوسيه؛ ليتداعى خطاب التحذير والإنذار، من أعلى القمة إلى أدناها. والكل يهدد الكل، والكل يوثق على الكل بخطاب “الإعذار” (لقد أعذر من أنذر !)، في محاولات لتخفيف ثقل المسؤولية، وتقليل تبعات الأخطاء والاختلالات.

نعم، سيبقى مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” أحد أهم المطالب الشعبية التي استجاب لها دستور 2011 ووضعها على رأس المبادئ الأساس لإعادة الثقة إلى الشعب؛ لكن تفعيلها، في المقابل، سيبقى رهينا بمجموعة من العمليات الاستئصالية المكلفة التي يجب القيام بها لإعادة تشكيل هرم السلطة والإدارة المغربية. وهي عمليات تحتاج إلى سنوات من التقصي والبحث والمساءلة، عُمْر السنوات التي عمَّرها الفساد في الإدارة العمومية، بموازاة الاشتغال الدؤوب على تبديل المواقع، وتجديد الدماء، وتأسيس لجان مستقلة لتتبع الصفقات العمومية، وانتظارات الشعب في مختلف المجالات، وتتبع تنفيذ المشاريع، وتنزيل مضامين الإصلاحات التي وضعتها مختلف القطاعات الحكومية، برأس مال قِوامه؛ النزاهة، والمصداقية، والحنكة.

بيد أن السرعة التي لجأت إليها بعض الإدارات العمومية في تفعيل هذا المبدأ الدستوري، بتسجيل خرجات تأديبية، هنا وهناك، والتي غالبا ما تخطئ الهدف، وتضرب في عشواء، مما قد يتسبب في سقوط ضحايا، عبارة عن أكباش فداء، و انفلات الصناديد من مقصلة المحاسبة؛ سيكون ضررها أكبر من نفعها، ووقعها البعيد على الإصلاح المنشود أخطر مما يمكن أن نتصوره. إذ في مثل هذا الخِضَمِّ الحسابي الصارم، كما جرت العادة، تهدأ تململات المفسدين، وتتحول رقصاتهم على الجراح، إلى بُكائيات على أطلال الفساد، والظلم، والاستهتار، كمثل القاتل الذي يبكي قتيله، وهو يقدم التعازي لأهل المقتول، وفي حضرتهم يرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى بالانتقام من القاتل !!. وهكذا تضيع الحقيقة. وفي خضم جَلَبَة “الحملة”، تختفي بصمات المتورطين، ويتساقط التُّبَّعُ تَتْرًا، قبل أن يَستأنف الفساد، تَنَفُّذَه من جديد، ويواصل إفساده بلبوس جديد، و”استراتيجيات” جديدة، بعد هدوء العاصفة !.

إن تفعيل هذا المبدأ الدستوري يحتاج إلى حكمة خاصة في تنزيل مقتضياته، والصبر الجميل على ترسيخ آليات تنفيذه، وتمكين المسؤولين من أدوات التحكم فيه، مع ضمان الحماية اللازمة للقائمين على إعماله. كما أنه، ضمانا لشفافية التنزيل، ومصداقية الأحكام، والإجراءات المتخذة في حق المخطئ/المخطئين، وصونا لحق كل مسؤول مشتبه في اقترافه لاختلال، أوتلكئه عن إنجاز مهمة، أو تقصيره في استيفاء عمل أو مأمورية، أو تمرده على توجيه أو أمر،… في المحاسبة العادلة، البعيدة عن القرارات المزاجية الظالمة التي تطبع أغلب القرارات التأديبية التي يشرف عليها المسؤولون المباشرون، ومن علا منهم؛ فإن تنفيذ هذا المبدأ يجب أن يولى للجان خاصة ومستقلة، من قضاة، وخبراء في شتى مجالات وميادين انشغال الإدارة العمومية، يكون لها، وحدها، الحق في اتخاذ القرارات المناسبة، والأحكام اللازمة في حق كل من ثبت في حقه جنوح أو فساد في التدبير، أو تلكؤ في القيام بالمهام التي يجب أن تكون محددة بدقة، حفاظا له من المحاسبة على المجهول.

إن أولى علامات الشطط في استعمال السلطة، إسناد مسؤولية المحاسبة إلى الرؤساء والمسؤولين المباشرين في قضايا تحتاج إلى الدراية اللازمة بحكم القانون، ورأي القضاء. كما أن هذا التفويض قد يفتح بابا لممارسة الإذلال، والتركيع، والسخرة السمجة في حق الموظفين والمسؤولين من رؤسائهم، وعلى هؤلاء مِمَّن علاهم، وهكذا ذواليك، حتى يتحول هذا المبدأ النبيل إلى عصا تقرع الرؤوس على غير ميعاد، وعلى وفق المزاج، ليتحول إلى مجرد آلية للانتقام، أو أداة لإخفاء الزلات والاختلالات، أو وسيلة لإظهار حسن الانخراط في التنزيل ولو على حساب الغير؛ ليس إلا !.

إن المسؤولية على الاختلالات التي تعرفها الإدارة المغربية عامة لا خاصة. فهي مسؤولية مشتركة بين الجميع، والكل له يد في ما آلت إليه هذه الإدارة من تدنٍّ وخَوَر، وما عرفه المرفق العمومي من عَوَز وغياب النجاعة. فلا يمكن أن نُصلح بأدوات فاسدة عفا عنها الزمن. كما لا يمكن أن نُسنِد الحساب إلى أطراف في المعادلة الفاسدة، تُحاسِب ولا تُحاسَب، وتَسأَل ولا تُسأَل، ولكن لا بد من التفكير بجد في تكوين لجان مستقلة، وذات كفاءة، تُنتدَب لفترة زمنية محددة، وتُمَكَّن من كل الأدوات القمينة بالمتابعة النزيهة والشفافة، وقادرة على إصدار الأحكام والتقييمات بعيدا عن الإملاءات الفوقية، أو الحسابات الضيقة.

دمتم على وطن.. !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *