وجهة نظر

لماذا لم تسلك مدارج الآخرين يا ابن كيران؟

حين كنت عضوا أو قياديّا في الشّبيبة الإسلاميّة كنّا نظنّ، بل كنّا نمنّي النّفس أن تبقى في غياباتها و إخوانك و أتباع جماعتك، و تلك بدون شك كانت ستكون تذكرة سفر بدون عودة إلى النّهاية، وقد خاب ظنّنا فخرجت بعملك في الحقل الإسلامي إلى النّور من العتمة، و منذ ذلك الحين لم تتوقّف سلسلة مراجعات مواقفك السّياسيّة من الحكم و من المجتمع، و من السّياسة و من الأحزاب و السّياسيّين، المراجعات التي كنت تسبق بها إخوانك خطوة أو خطوتين، و لم يستقر سقفها إلى درجة أغضبت الأصحاب و أغاظت الخصوم.

و قد ظننا أنّ الانتخابات، التي كانت في نظركم خطّا أحمر و لم تعد كذلك؛ لن تجني من أصواتها ما هو أدنى من قطمير؛ فلم تزل تتربّص بالقبّة حتّى دخلتها و بعض من إخوانك، فقلنا إنه على الرّغم من صوتك المزعج فهو لا يعدو أن يكون صوت معارضة لا يقدّم و لا يؤخّر، و لكن تتالت الولايات و ازداد حجمك الذي أصبح ينذر بالويلات، و كان عزاءنا الوحيد هو توالي المنعطفات الدوليّة و الوطنيّة التي كنّا موقنين أنّها ستكون مبرّرا مقنعا علنيّا و ابتدائيّا و حضوريّا و نهائيّا لحلّ هذا الحزب الذي لسنا بوجوده مستبشرين و لا فرحين، و قلنا لاريب ستكون تلك الضّربات هي قاسمة الظّهر و ما توقّعنا أن تكون مقوّية له، فما كنت تنحني لمرور العاصفة فقط بل كنت تستغني عن الإزهار و عن الإيراق من أجل تعميق الجذور و تمتينها و تثبيتها، و بدل تحقّق نبوءة المنجّمين و على إثر العاصفة الخضراء تسَلّمت رئاسة الحكومة ولو على مضض، فقال المحلّلون و الاستراتيجيّون و المستشرفون و كان قولهم فقط ترياقا للنّفوس: دعوه يستهلك بريقه! دعوا مصباحه يحترق! من البرلمان إلى الحكومة إلى المزبلة! دعوه يَكتشف ويُكتَشف ! بل دعوه يُكشف!

نعم، لقد اكتَشفتَ أنّ ممارسة السّياسة من منبر المعارضة ليس كمثل ممارستها من مقعد تسيير الشّأن العام، اكتشفتَ أنّها في الحالة الأخيرة عبارة عن بئر عميقة في قعرها وَحَلٌ تغوص فيه الأقدام، إذا علقت قدمه لم يكد يحرّكها، فوق الوحل ماء تحرسه تماسيح تتباهى بأذيالها، تعلوه ظلمات بعضها فوق بعض تملأها أشباح و عفاريت، بئر لا يطعم ماءها إلّا من اغترف غرفة بيده أو كان ذا حظّ عظيم.

اكتَشفت و كُشف معدنك و ما احتَرقت و لا استُهلكت و لا استُنزفت كما دلّت على ذلك الانتخابات المحلّيّة و التّشريعيّة المواليّة، بل أوشكت على إعادة الكرّة لولاية ثانيّة لولا ذلك المنعطف و تلك العاصفة السّوداء، التي كأنّي بها رثت لحال خصومك فيسّرت لك استراحة مفتوحة من رئاسة الحكومة ابتداء و من رئاسة الحزب من باب الاحتياط، و وفّرت لك لحظة للتّأمّل و التّفكّر والتّقييم والمراجعة لعلّك تغادر الملعب نهائيّا أو تجلس في دكّة الاحتياط حتّى يُرى في شأنك أمرا، أو تتدبّر أمرك كآخرين للحصول على مهمّة خارج المملكة فتريح و تستريح، كان المنتَظر بل كان الحلم أن تتوارى عن أضواء السّياسة ولا تتحدّث فيها و لا تحدّث بها نفسك ولا غيرك.

فلِمَ لم تفعل كما فعل من سبقك من رؤساء الوزراء و غيرهم؟ و لم خرقت هذا التّقليد؟ أم تُراك تمارس حقّك وحرّيّتك في التّعبير وإبداء الرّأي كأيّ مواطن، لأنّك في نهاية الأمر مواطن سواء تزعّمت حزبا أو حكومة أو جماعة إسلاميّة أو كنت مجرّد عضو فيها، وسواء كنت منتميّا أو كنت غير منتميّ لأيّ منها؛ نعم ذلك حقّك و لكن لا بدّ أن تعلم أنّ كلماتك بعد أن تحلّلت من المسؤوليّة السّياسيّة و الحزبيّة مع رصيد بضع سنوات في رئاسة الحكومة سوف يكون أشدّ وقعا وأبلغ تأثيرا.

و لِمَ لا زلت تبدي رأيك حول الواقع المرّ بكلام أشدّ مرارة؟ و لِمَ لا زلت تتحدّث بما يجرّ عليك غضب من كانوا أقرب النّاس إليك في الحزب والحكومة؟ فالحقيقة المرّة لا يحبّ أن يُسمِعها من تجرّ عليه منفعة، و لا يحبّ أن يَسمَعها من اكتسب قلبه على مدى سنوات وأيّام حساسيّة لمُرّ الكلام، وأدمن على دفن رأسه في الرّمل مثل النَّعام، فلِم لا تستريح من عناء التّعبير و تسكت قليلا ولا تشوّش على مسار غيرك الذي يستطيع إتقان حلاوة الصّوت و الإبداع في زخرفة الصّورة؟

و الحقيقة أنّه ثبت أنّ صمتك مزعج كذلك كما حديثك، فلِمَ لا تجرّب إنشاد كلمات “العام زين” بلحن نضاليّ مبين في كلّ مناسبة وفي كلّ حين؟ و سوف ترى وأنت صاحب الرّصيد النّضالي و التّجربة الوفيرة في منبر المعارضة و في مقعد التّسيير وصاحب الشّعبيّة الحيّة، سوف ترى كم خدمة ستقدّم و كم شخصا ستخدم، و كم ستجبر ما انكسر من خواطر، وكم ستكسب من أصدقاء، ولم لا تفكّر في إطفاء المصباح أو خفت نوره والتّحليق مع الحمامة كما فعل غيرك لترى كم ستجني من غلّات، فلا صمتك مرغوب فيه ولا كلامك المرّ، حيث إصرارك على تسميّة القطّ قطّا و لو بدا لنفسه أو قالوا له إنّك حَيْدَر، و حرصك على إخبار الأسد بكراهة رائحة فمه و لو كذبوا عليه و قالوا إنّها مسك وعنبر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *