منوعات

“الديموقاطعية” في خدمة الديموقراطية

تشكلت جبهة متكاملة الأركان لمواجهة حملة مقاطعة منتجات تجارية معينة. وتضم الجبهة وزراء وأحزاب ورجال أعمال وشركات كبرى، وصحافيين وكتاب “رأي” و”محللين” وغيرهم. وراجت أنباء عن رصد مبالغ خيالية لإنجاح الحملة المضادة، وأقحم مسمى الاعلام العمومي في الحملة المضادة، وانزلقت تلك الحملة المضادة إلى أخطاء جسيمة ذهبت إلى حد اتهام المقاطعين بخيانة الوطن، والارتزاق، وخدمة أجندات خارجية، والاضرار بالاقتصاد الوطني، وخدمة أجندات سياسية وحزبية، إلى غير ذلك من التهم، وبلغ الأمر بوزير أن وصف المشاركين في حملة المقاطعة تحت قبة المؤسسة التشريعية بـ”المداويخ”! ودخل آخر في تمارين إعلان التحدي والعناد مع المقاطعين. فلماذا هذه الجبهة؟ ولماذا كل هذا الجهد؟

الجواب البسيط عن الأسئلة السابقة نجده في مؤشرات الخسائر التي تكبذتها الشركات المستهدفة بالمقاطعة، لكن الجواب الحقيقي نجده في الجزء المخفي من جبل الجليد للسياسة بالمغرب. فتحت ماء المشهد السياسي الذي تتحرك فيه الأحزاب، وتنعقد فيه المؤسسات المنتخبة، وتتخذ فيه القرارات المصيرية التي تهم الشعب، تتشابك العلاقات بين عالم المال وعالم السياسة بشكل يرهن هذا الأخير لمصالح الأول. وحملة مقاطعة منتجات معينة لها بعد يجعلهاتفك ارتهان إرادة المواطن بنتائج الانتخابات، وبالخرائط التي تفرزها التوازنات السياسية الموجهة من عالم المال، والغوص بها تحت صفحة المشهد السياسي الظاهر لتقول كلمتها هناك في عالم تشابك علاقات المال بالسياسة.

والمهم في غوص إرادة المواطن تحت صفحة ماء المشهد السياسي العام، هو أنها تقتحم بذلك عالم السلطوية الذي تهيمن فيه وعليه، لتشارك من تلك المنطقة الحمراء في توجيه القرارات الاستراتيجية لصالح الوطن والمواطن. وهذا هو مربط الفرس في معركة المقاطعة الدائرة اليوم مند قرابة أسبوعين.

إن النجاح في اقتحام المنطقة الحمراء المشار إليها من شأنه ضبط استغلال السياسة لتنمية اقتصاد الريع، وضبط استثمار المال والأعمال لحماية السلطوية وتقوية نفودها التحكمي في اللعبة السياسية. وهذا ما يفسر ردة الفعل القوية من “تحالف” المال والسلطة ضد الحملة الجارية.

المقاطعة في بعديها الاجتماعي المتعلق بالأسعار، السياسي المتعلق بالعلاقة بين المال والسلطة، آلية شعبية أخرى لفرض إرادة المواطن، والتحكم من جهة في سياسة الأسعار، ومن جهة ثانية في الفرز السياسي، لصالح الشعب والوطن، وفرض اعتماد واحترام الديموقراطية. مما يجعل الحديث عن “الديموقاطعية” في الأدبيات السياسية والمدنية اليوم أمر منطقي وواقعي.
لكن وصف أية مقاطعة بكونها “ديموقاطعة” يتوقف عند شروط حيوية، بدونها تتحول المقاطعة إلى أداة تخريب حقيقية. ويمكن إجمال شروط الحديث عن “الديموقاطعة” في أربعة مبادئ كبرى وهي:

لا إكراه في المقاطعة:

هذا مبدأ جوهري يميز بين المقاطعة التي يمكن وصفها بكونها شكل من أشكال ممارسة الديموقراطية الشعبية، وبين الأساليب التي يكره الناس فيها على مقاطعة أنشطة أو منتجات تحت الضغط والارهاب. واحترام حرية المواطن وإرادته المستقلة هو الخط الحيوي الفاصل بين “الديموقاطعة” وغيرها من الممارسات السياسية التي يتم فيها التحكم في المواطنين.

المقاطعة ممارسة سلمية:

إن تحرير أدبيات المقاطعة وأساليبها ووسائلها من العنف بشكليه المادي والمعنوي، عنصر حيوي في انتسابها إلى عالم الديموقراطية وحقوق الإنسان. وارتكاز الخطاب على الاقناع لا على الإرهاب، وعلى الحجة لا على التهمة، وعلى الصدق لا على التلفيق، وعلى احترام الآخر مهما كان، لا على استسهال المس بوضعه الاعتباري بغير وجه حق، وعلى الصرامة في احترام القانون وأخلاقيات العمل السياسي، لا على الميوعة في الخطاب وممارسة الاحتتطاب والديماغوجية… وهذا المبدأ يعزز رقي المقاطعة وتحضرها.

المقاطعة منهج لا مذهب:

المقاطعة المذهبية لا نجدها إلا في الحالات التي تواجه فيها الإرادة الشعبية قضايا مبدئية (الحرام، التطبيع، المنتجات المستوردة المقلدة للمنتجات الوطنية…). أما المقاطعة المنهجية فلا تعني موقفا مبدئيا من منتوج أو خدمة أو هيئة، بقدر ما تتعلق بمتغير اقتصادي او سياسي مرتبط بها، إذا تغير في اتجاه إرادة المقاطعين تغير موقفهم من المقاطعة إلى التعامل الطبيعي. وأمر ثاني حيوي هو أن المقاطعة المذهبية تسعى إلى إضعاف أو حتى “قتل” المستهدف، في حين أن المقاطعة المنهجية تمارس ضغطا لتحقيق هدف سياسي أو اقتصادي تنتهي معه بمجرد تحقيق ذلك الهدف. وأكبر خطأ قد تنزلق إليه المقاطعة الحالية هو تنشئة الرأي العام على المقاطعة المبدئية ضد المنتجات المستهدفة حاليا.

الصراحة والوضوح:

ما سبق يؤكد أهمية الوضوح في تأطير معارك المقاطعة، فيتبين المقاطعون هل يقاطعون لتحقيق أهداف محددة؟ وما هي تلك الأهداف بالضبط، هل هي أهداف اجتماعية تتعلق بالأسعار؟ أم تتعلق بالسياسة؟ أم بهما معا؟ أم يقاطعون مقاطعة مذهبية؟ ولماذا؟ وأهمية مبدأ الوضوح والصراحة حيوي في حماية ثقافة المقاطعة نفسها من أن تفقد ثقة المواطنين فيها، حين يكتشفون أنهم اقحموا في معارك لم يكونوا مقتنعين بها، فيعزفواعن كل دعوة للمقاطعة مستقبلا.

إن احترام المبادئ السابقة بشكل صارم من شأنه تنمية ثقافة “الديموقاطعية” الحقيقية بشكل قوي، وإعطاء الشعب المغربي أساليب جديدة وفعالة لفرض إرادته. ذلك أن “الديموقاطعية” كما أشرنا إليها سابقا حق مشروع للشعوب، لتواجه صانعي القرار في ظل محدودية دور المؤسسات المنتخبة في تمثيل إرادتهم بشكل منحاز لمصالحهم.

والمقاطعة الجارية اليوم تحترم المبادئ الثلاثة الأولى السابقة بشكل كبير، غير أن السؤال الحيوي يدور حول مبدأ الصراحة والوضوح، فهل نحن أمام مقاطعة بأهداف اجتماعية تتعلق فقط بالأسعار؟ أم نحن أمام مقاطعة بأهداف سياسية؟ ويستمد طرح هذه الأسئلة مشروعيته من التباين الكبير في خطاب المقاطعة، حيث نجد توجهين كبيرين، توجه يعتبرها مقاطعة اجتماعية تسعى إلى تغيير سياسة الأسعار في الأسواق المغربية، ليس للمنتجات المستهدفة حاليا فقط، بل لمعظم المنتجات والخدمات.

وتوجه آخر يرى أن هذه المقاطعة ينبغي أن تكون فوق ذلك سياسية، وتسعى إلى خلخلة العلاقة بين عالمي السياسة والمال. وكلا التوجهين مشروعين، لكن النقاش اليوم ينبغي أن ينصب حولهما، لتحقيق الوضوح اللازم ليس فقط للرأي العام بل للمشاركين فيها أيضا، حماية لثقافة المقاطعة وتعزيزا لـ”الديموقاطعية” المغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *