وجهة نظر

اقتراح للمستقبل

(الأنانية مثل الرعب، اخترعنا السياسة لإخفائها، ولكنها تخترق كل النقب وتفضح نفسها لدى كل مصادف) آرثر شوبنهاور

إن أي قراءة للخطاب الملكي الأخير بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، لا يمكنها أن تكون موضوعية إلا إذا ثم ربط مضمون الخطاب بالواقع، هذا الواقع الذي أشار الخطاب الملكي نفسه إلى بعض من صوره، حينما لاحظ واقع الانشقاق والتفرقة الذي يعيشه الفضاء المغاربي، وسجل كذلك الوضع الغير الطبيعي الذي تعرفه العلاقات بين المغرب والجزائر، مقابل ضرورة الوحدة والتكامل والاندماج الذي تقتضيه طبيعة الأشياء.

وفي سياق معالجة اختلالات هذا الواقع العنيد، اقترح جلالة الملك خلق آلية سياسية دائمة للحوار بين المغرب والجزائر، في ظل الاحترام الكامل للمؤسسات، ولحرية الطرفين في اختيار جدول أعمال اجتماعاتها.

والحقيقة أنني كنت متحمسا لهذه الفكرة، ومقتنعا بأن الجزائر ستقبل بها، سواء من منطلق مفهوم حسن الجوار، أو انطلاقا من خطورة الوضع الدولي الذي بات يحيط بنا، ومن تم التعامل معه بفتح حوار مباشر بين دولتين من حجم المغرب والجزائر.

إن الدعوة إلى الحوار، ليست بالضرورة تسجيل لموقف سياسي معين، أو ادعاء لانتصار إعلامي شكلي، ولكنها تعبير مسؤول، ورغبة أكيدة في تعزيز علاقات التعاون بين البلدين، لما يجمع الشعبين من أواصر واختلاط الدم والتاريخ المشترك.

لهذا سنلاحظ، أن مختلف دول العالم رحبت بدعوة المغرب بفتح حوار مباشر مع الجارة الجزائر، بل ساندت هذه الدول الاقتراح المغربي من منطلق العقلانية، ومن وجهة القراءة السياسية السليمة لمصلحة البلدين، وحماية للأمن والسلم الدوليين.

إن هذا الخطاب هو تعبير مشغول بالكثير من المسؤولية اتجاه بلد جار، وليس من المعقول حصره في لحظة زمنية مؤقتة، أو مناسبتية، أو حتى التشكيك في حقيقته، وفي صدقية أهدافه، لأنه تعبير عن نوايا مرتبطة باقتراح عملي، فلن يضير أحد هذا الحوار الجزائري المغربي المباشر، بل بالعكس، سيعود لا محالة بالإيجاب على القضايا الخلافية، من خلال المساهمة في حلحلتها وتقريب وجهات النظر حولها، خاصة وأن العالم يتحرك بسرعة نحو المجهول، وهذا يرفع من حجم التحديات الكبرى والمختلفة التي تواجه البلدين.

إننا كجيل ما بعد الاستقلال، أصبحنا نشعر بأن متطلبات شعوبنا، وثقل التاريخ المشترك، وضغوط المحيط الدولي وما يتجه إليه العالم من انكماش وحماية للمصالح الذاتية الضيقة، باتت تفرض علينا أكثر من أي وقت مضى، أن نلتقي ونناقش، أن نتعاون ونتفق، أن نهيئ أنفسنا للمستقبل، وكذلك أن نلبي رغبات وطموح شعبينا في الوحدة والتعاون لا في التفرقة. فالعظماء هم وحدهم من يرفعون الحوار، هم من يفكرون في المستقبل المشترك، هم من يبنون السلام. فالتاريخ المشترك يفرض علينا ذلك، ولم يعد من المقبول مطلقا أن نتنصل من مسؤولياتنا اتجاه شعوبنا واتجاه مستقبل بلدينا تحت أي مبرر.

إن الجزائر والمغرب بلدان شقيقان، توأمان اقتصاديا وسياسيا، و الخلافات الظرفية مهما بلغت فلن تفرق بينهما، وهذا الوعي هو الذي حدا بجلالة الملك إلى تقديم هذا الاقتراح العملي، وأن أي تعامل معه بحسابات سياسية ظرفية ضيقة، أو مناسباتية صرفة، سيجعل من الصعب ترميم ما كسرته ردود الفعل التي قد لا تكون موضوعية.

إن المغرب جزء من الجزائر، كما أن الجزائر جزء من المغرب، فإما أن يعيشا معا، أو يموتا معا، وكل نظام سياسي منهما عليه أن يتحمل مسؤوليته أمام التاريخ وأمام المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *