المغرب العميق، مجتمع

“الجبلية”.. عجوز تصارع الجوع والفقر وحيدة بـ”جحر” في إيموزار كندر (فيديو)

وضعت في صحن بلاستيكي قطع خبز وأفرغت عليه القليل من الحليب ثم قدمته لبعض القطط أمام مسكنها، وما إن أدخلت القطط رأسها في الصحن لتلتهم ما به، حتى رفعت العجوز يدا مرتعشة تربت بها على فروها، قبل أن تقف مستندة على الجدار من جهة وعلى عكازها من جهة أخرى، ثم دلفت إلى مسكن أقرب إلى القبر منه إلى غرفة.. سرير مغطى بأفرشة بالية يحتل ثلثي مساحة المكان، والثلث الباقي شغلته كومة من الملابس والأفرشة وقنينة غاز وبعض الأواني البالية.. هنا في هذا القبر “الفسيح” أنفقت “الجبلية” ثلاثين عاما من عمرها.

جنة وجحيم

تجلس “مي الجبلية” -كما يناديها الجيران- طوال اليوم في هذه العلبة الإسمنتية، تلقي بجسدها النحيل على سريرها، وتجوب ببصرها جدران الغرفة وسقفها، أو تثبته في المصباح المتدلي من السقف. غرفتها “الحقيرة” والبلدة الجميلة التي تقطنها، عالمان متناقضان. بينما الناس يستمتعون بـ”جنة” إيموزار كندر بالقرب من إفران، ويستظلون بأشجارها ويعبثون بالثلج أيام الشتاء، تنزوي العجوز السبعينية في “جحيمها” وتوارب الباب، تاركة منفذا للضوء والنسيم والأصوات أيضا، لعلها تحمل خبرا سارا. تحاول عبثا أن تنسى جبلا من الأحزان، كمن يتشبث بأمل شارد.

خرجت العجوز من مسكنها بوجه تخيم عليه أجواء الحزن والكآبة، مشت بتؤدة والارتباك يسيطر على أوصالها، قبل أن تختفي وراء صخرة وبعض الشجيرات، مر بعض الوقت قبل أن تعود وقد زاولها الارتباك.. هكذا تقضي “مي الجبلية” حاجتها كل يوم. تحكي لـ”العمق” بنبرة حزينة كيف أمضت سنوات هنا بلا مرحاض ولا أنيس، وفي بعض الأحيان بدون طعام حتى.

تنهدت وقد انداح فوق خديها شحوب القهر والظلم؛ ظلم الزوج وخذلان البنت والصحة، ثم واصلت كلامها قائلة: “اكتريت هذا المسكن قبل ثلاثين عاما.. كنت حينها بصحة جيدة.. لكنني أفنيتها عاملة في البيوت والضيعات”، تزحزحت وهشت بحركة بطيئة على قطة حاولت الدخول إلى الغرفة، واسترسلت: “اكتريت هذا المكان في البداية مقابل 40 درهما عن كل شهر، لكن أصحابه تنازلوا لي عن سومة الكراء بعدما دب العجز والشيخوخة في جسدي”.

صادفت زيارة “العمق” لمسكن “مي الجبلية بمدينة إيموازار كندر، استعدادها لاستقبال فصل الشتاء.. بحثث بين أكوام من الأفرشة والأسمال عن ملابس دافئة، ثم توكأت على عكازها، وخرجت من باب الغرفة لتنزل درجا على يمينها، قادها إلى قبو يبدو للداخل إليه في الوهلة الأولى مظلما، قبل أن تتعود عليه العين فيتبدد جزء من الظلمة رويدا رويدا، قالت ممتنة إن أصحاب هذا المسكن سمحوا لها بجمع بعض أغراضها في القبو.

جوع الشتاء

توجهت العجوز نحو كومة من الحطب، ثم أسندت ظهرها للجدار، ووضعت منشارا بمقبض حديدي بين ركبتيها النحيلتين، وأخذت الأغصان اليابسة تقطعها الواحد تلو الآخر، وأنفاسها تتلاحق، وقالت بلهجة مضطربة من التعب: “الشتاء هنا صعيب.. وخاصني نوجد الحطب من دبا باش لقا باش نسخن”.

واصلت المرأة السبعية حديثها لـ”العمق” كافشة عن معاناتها أيام فصل الشتاء وقره الشديد، قائلة بعامية مغلفة بنبرة أمازيغية: “كنجمع الحطب قبل الشتا ونقطعو بالمنشار”، مضيفة وقد اختلج جفناها: “عندما يحاصر الثلج باب المسكن يستحيل علي الخروج.. فأظل هنا ليوم أو أكثر بدون أكل.. وعندما يشتد جوعي أصيح بكل ما في من قوة إلى أن يسمعني الجيران فأطلب منهم إمدادي ببعض الأكل”.

“المسكن يصبح باردا جدا أيام الشتاء”، تقول “مي الجبلية”، وتضيف: “أوقد النار في الحطب داخل غرفتي الصغيرة، لاستجلاب الدفء، لكنها تصيبني بالاخنتاق في الكثير من الأحيان ومع ذلك أعاود الكرة”، أما الاستحمام وتغيير الملابس، أيام القر، فقصة “مرعبة” بالنسبة لهذه المرأة السبعينية.

واسترسلت المرأة المسنة في بوحها قائلة: “لا معيل لي اليوم غير الجيران والمحسنين، منهم من يعطيني بعض الدراهم لأشتري بعض الأغراض، ومنهم من يجلب لي الأكل والماء”، مشيرة إلى أنهم ينسونها في بعض الأيام بدون أكل، قبل أن تستدرك: “ولا ألومهم على ذلك.. لكل واحد انشغالاته”.

أما الماء، تستطرد “مي الجبلية”، “فأجلبه من صنبور مخصص للعموم، بعيد عن هنا بعشرات الأمتار.. بالكاد أستطيع حمل قنينة من حجم خمس لترات بيد وأسند جسمي على العكاز باليد الأخرى.. إذا صادفت أحد الجيران وأشفق علي فإنه يحمل القنينة، أما في غالب الأحيان فإنني أتجرع عناء حملها لوحدي إلى أن أصل إلى غرفتي”.

قشة أمل

رغم أمواج الفقر والوحدة والشيخوخة التي تتقاذفها كل يوم، تتشبث “مي الجبلية” بقشة من أمل وتناجي ربها كل مناجاة لينقذها من هذا اليم من البؤس، حتى إذا جاء الأجل “نموت وأنا شهيدة” على الأقل، كما تقول، مضيفة أن ما تعيشه اليوم نتيجة لظلم الأمس، تقول بنبرة باكية وقد انساب الدمع على خديها اللذين رسم عليهما الزمن أخاديد: “زوجي باع كل ممتلكاتي وأنفقها في القمار.. ثم طلقني بلا سبب.. وتنكرت لي ابنتي.. أما ابني فلم يستطع تحمل خبر طلاقي من والده، فأقبل على المخدرات يداري بها همه إلى أن فقد عقله”.

تحكي “مي الجبلية”، ويمناها المرتعشة تكفكف دموعها: “بعدما طلقني زوجي شمرت عن ساعدي لأعيل نفسي، فاشتغلت في الحقول كما اشتغلت في المنازل”، وتسترسل قائلة: “لم أظفر بشيء من السنوات التي قضيتها في العمل”، قبل أن تستدرك “ظفرت بهذا” كاشفة عن ساعد هزيل ومرفق به اعوجاج ظاهر، موضحة أنه نتيجة كسر أثناء العمل.

حتى الفئران لم تترك “مي الجبلية” في حالها، إذ قالت في حديثها لـ”العمق” إن الفئران دائما تعبث بأغراضها وتلوث طعامها، مضيفة: “واحد النهار درت ليها السم.. لقيت 10 ميتين”، مسترسلة أنها تحاول الاستئناس بالقطط لعلها تساعدها على طرد الفئران وتؤنس وحدتها في الوقت نفسه.

نظرت من تحت قبعتها البالية، التي استحال لونها باهتا، وتمسكت بالجدار وهي تصعد الدرج، ثم قالت، بنبرة متهكمة: “كيقولو لي الناس موتي.. علاش غادي نموت؟ ربي مازال مطول ليا العمر”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 5 سنوات

    ما العمل للتواصل معاها