وجهة نظر

العلام يكتب: الـ JOKER أو السيناريو الذي لا ينبغي له أن يحدث!

أكيد أن أي عمل سينمائي جاد ستقابله موجة من التأييد والنقد، وستتباين بخصوصه المواقف والآراء، وهذا شأن فيلم JOKER للمخرج “تود فيليبس” الذي اعتاد إخراج الأفلام الكوميدية. لا يبتغي هذا المقال تقييم الفيلم من الناحية الفنية فهذا مجال المختصين، وإنما مناقشة مضمونه سيما في جانبه السياسي الذي لا يمكن التعتيم عليه؛ فحتى مُخرجه عندما سؤل عن سبب تحوله من الكوميديا إلى الدراما، أجاب: الوضع لم يعد يحتمل المزيد من الكوميديا. ورغم تعدّد المواضيع التي عالجها الفيلم: اختلالات منظومة التربية، والفقر والتهميش، الخذلان والبؤس، غياب التضامن والسخرية الهابطة، إلا أن الجانب السياسي يبقى الأبرز، سيما في بعده الاجتماعي، حيث رفْض التمييز الطبقي، ولو بطريقة شعبوية مفرطة في التحريض على العنف.

نعم، إنه فيلم عنيف جدا، يقتل فيه شاب من اعتدوا عليه بشكل مستمر، ويخنق فيه من كان يحسبها والدته ويحسن إليها، قبل أن يكتشف أنها كانت تعتدي عليه، ويهاجم صاحب برنامج “تولك شو” بعدما كان يحبه ويتمنى أن يكون أحد ضيوفه، وغيرها من مظاهر العنف التي جاءت متساوقة مع الحبكة السينمائية. لكن لماذا كل هذا العنف؟ لماذا هذا التحريض الشعبوي؟ ما الرسالة التي يمكن استخلاصها؟

كان جوابا طبيعيا ذاك الذي ألقاه الجوكر في وجه صاحب برنامج التولك شو، لما سأله عن سبب اعترافه بقتل الشبان الثلاثة. إذ قال: لأنه لم يعد لدي ما أخسره!

إن الوضعية الأخطر بالنسبة لأي شعب هي تلك التي لا تجد فيها فئة من الناس ما تخسره؛ لا تربية جيدة، فرص عمل منعدمة؛ احتقار طبقي، إقصاء اجتماعي…حيث تؤول المقارنة بين الحياة الموت بالنسبة للإنسان الذي يعيش هذه الوضيع، لصالح الموت والمغامرة والتهور، وهذا ما أفلح فيلم الجوكر في التعبير عنه، وربما التحذير منه، وليس التشجيع عليه كما فهم البعض.

إن من شأن التفاوت الطبقي الصارخ بين الفئات، وعدم إحساس الأغنياء بالفقراء، أن يعمق الفجوة بين الطرفين، ويزرع بذور اليأس ثم الحقد في فئة الفقراء، ويجعلهم يفقدون النظر الصحيح للأمور، حيث يصبح كل غني عدوا، وكل صاحب أملاك سارقا، وكل فقير ضحية. ويزداد الأمور استفحالا عندما يغيب التمييز بين الأغنياء، بل قد ينعدم التفريق بين أصحاب الغنى الفاحش وبين عناصر الطبقة المتوسطة.

ربما يبرز السؤال التالي: وما ذنب الطبقة المتوسطة التي هي مجموعة مواطنين يعيشون في ظروف صعبة لا تختلف كثيرا عن ظروف الفقراء؟ خلف هذا السؤال يكمن الدور الذي كتب حوله الكثير من المفكرين، ألا وهو إحداث التوازن بين الطبقات الموكول للطبقة المتوسطة، بما أنها تقع بين فئة لا شيء لها تخسره وبين فئة قليلة تملك كل شيء وتسبب المتاعب لباقي الفئات. وهنا أهمية هذه الطبقة التي من المفروض فيها حمل التفكير النقدي والقدرة على التوجيه، حتى لا يزداد الغنى فحشا ويتعمّف الفقراء في البؤس. فالطبقة المتوسطة تختلف عن الطبقة العليا في كونها قد تكون ضحية لها، لكنها في نفس الوقت لديها شيء ما تخسره، حتى ولو كان هذا الذي قد تخسره هو مجرد أجر وظيفي، وبيت سكن بالتقسيط، وسيارة تستهلك جانبا من الأجر، وأبناء يدرسون ويتمنون مستقبلا أحسن من واقع حال آبائهم. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية هذه الطبقة فهي تنتقد وتحتج وتعترض، لكن رفضها/ ثورتها بكون محسوبا، ولا تذهب بها إلى الحد الذي جاء في الفيلم بل وحذرت منها كتابات الفلسفة السياسية الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن الطبقة المتوسطة إذا لم تواجه فحش الأغنياء وتقف سدا منيعا ضد الرغبة المتزايدة في التوحش والسيطرة والاستبداد فهي ستتعرض للتآكل، مما يؤدي إلى أن يسقط منها عديد عناصرها، مقابل أن يزداد الفقراء بؤسا ويتكاثر نسلهم وتتراكم مظاهر تهميشهم، فيخرجون إلى الشوارع كالمجانين، على نفس الطريقة التي خرج بها الجَواكِر، لا يميزون بين الناس وبين مساكن مقتناة بالديون وأخرى بالرشاوى، وبين سيارات الأغنياء والسيارات التي هي ملك للأبناك، وإنما يحرقون كل شيء، ويعبثون بكل الممتلكات، وهذا هو أخطر وأسوء وضع يمكن أن يعيشه مجتمع، لا يمكن أن تمنع وقوعه الكتابات أو التحذيرات أو التخويف لأنه يحدث مثل الكوراث الطبيعية، وإنما يُستحسن أن تمتلك أنظمة الحكم قدرة على منع وقوعه بإجراءات عملية من قبيل التوقف عن سياسة الآبارتايد في التعليم وفي الاقتصاد،…إلخ.

لعل الصفعة التي تلقاها الجوكر من طرف طوماس واين (رمز الأغنياء)، تكاد تشبه الصفعة التي يتلقاها الفقراء عندما يرغبون في تحسين أوضاعهم. أما سخرية الأغنياء وضحكهم من فيلم “شارلي شابلين”(الأزمنة الحديثة)، الذي يحذر من نمط الانتاج الرأسمالي، فهي تكاد تكون لسان حال من يسخرون من الآراء المحذرة من الأسوء القادم إذا لم تُتّخذ التدابير اللازمة للحؤول دونه. أم قتل روبير دي نيررو (مقدم برامج تولك شو) والطبيبة النفسية، لهو من قبيل القول بأن المخدرات التي يتلقاها المجتمع عبر الإعلام الموجّه وباقي وسائل الإلهاء الواردة في كتاب الأمير لماكيافللي، إن كانت تساعد على تجهيل الشعوب غالبا، فإنها لن تفعل ذلك دائما.

إنه فيلم عنيف، لكنه لا يقل عنفا عن المستقبل الذي يحذر منه، بل ليس أعنف من الواقع الذي أعقب الثورة الفرنسية، والذي توفّق “دي توكفيل” في رصده من خلال كتابه “النظام القديم والثورة الفرنسية”، وهو نفس الوضع الذي رصده مؤرّخ الثورات إريك هوبزباوم في كتابه “عصر الثورة”، وعالجه علم النفس السياسي: “غوستاف لوبون” في “سيكولوجية الحشد”، فمن يقرأ هذه الكتب وغيرها، قد يفهم جيدا ما أراد فيلم الجوكر التحذير منه.

تحتل السينما اليوم حيزا كبيرا في علمية التوجيه والتأطير، وقد ساعدت كثيرا في تنوير الرأي العام بخصوص بعض القضايا، وساهمت في إبقاء الوعي متيقظا، إذ تؤدي الوظيفة التي أداها المسرح والفسلفة في عهد الإغريق، والموسيقى في أوربا (فاغنر، باخ، موزارت، بيتهوفن…)، فالمتفحص في الكم الهائل من الأفلام ذات التوجه السياسي، سيقف مندهشا أمام قدرة السينما على بعث الوعي، تكفي فقط إطلالة على أفلام من قبيل: “العرّاب” و”اثنا عشر رجلا غاضبا” و”نقطة ضوء” و”جانغو” و”12 سنة في العبودية” و”لينكولن” و”سافرجت” و”انت لا تعرف جاك” ومسلسلات: “لعبة العروش” و”بيت من ورق”…وغيرها من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي تعالج قضايا الاجتماع السياسي، والعلاقة بين الدين والسياسة والاقتصاد والجنس، ومواضيع الحقوق والحريات المدنية والسياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *